مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

ماذا يهدف إليه الحجّ؟

لا شكّ أنّ أوّل ما يهدف إليه الحجّ وأهمّ ما تقصده مناسكه هو المزيد من توجيه العبد إلى اللَّه، ودفعه إلى الخضوع له، وتقوية صلاته به سبحانه، وتعميق الإيمان في قلبه، وتكريس الاعتقاد بوحدانيته في ضميره.

 

والأحرى أن نقول بإيجاز: إنّ الهدف الأهمّ من الحجّ هو العبادة والتعبّد، ابتداءً من الإحرام للعمرة، ومروراً بالطواف بالكعبة المشرَّفة فالصلاة فالسعي فالتقصير ثمّ الإحرام ثانية للحج فالوقوف بعرفة فالإفاضة إلى المزدلفة والوقوف بها، فالذهاب إلى منى والمبيت بها ليالي، فالرمي فالنحر أو الذبح فالحَلق فالطواف بالكعبة المعظّمة أيضاً، وانتهاءً بالسعي بين الصفا والمروة، وما يتخلّل كلّ ذلك، أو يصاحبه من أدعية وأذكار، وامتناع عن محرّمات خاصّة، قربة إلى اللَّه سبحانه وتعالى.

 

إنّها العبادة في أفضل أشكالها. وإنّها إظهار العبودية في أعلى مظاهرها. وإنّها الخضوع لذي الجلال في أسمى صوره وأنماطه. وإنّها التضرّع إلى اللَّه في أعمق أنواعه.

 

فالحجّ عبادة جامعة تتوفّر فيها كلّ عناصر إظهار العبودية، وكلّ أشكال الخضوع والطاعة للربّ العظيم الكريم، من انقطاع عن الدنيا، وإعراض عن الشهوات وتضحية بالمال، وتذلّل وذِكر، وتهليل وتسبيح وتحميد وتكبير، وتوحيد للَّه في الطاعة والانقياد والخضوع والالتماس، والاستعانة والعبادة، وخروج عن إطار الرغبات الماديّة، وتناس ‌ٍموقّت للمال والولد والأهل والوطن في سبيل اللَّه، ومن أجل اللَّه، وبأمر اللَّه، وتقرّباً إلى اللَّه، وامتثالًا لحُكم اللَّه، وتنفيذاً لإرادة اللَّه، وتلبيةً لنداء اللَّه وحده لا شريك له.

 

إنّها عبادة ولا شكّ، ولكن هل يتلخّص هدف الحجّ هذا المنسك العظيم في العبادة المحضة؟

 

وهل فرض الحجّ على عامّة المسلمين رجالًا ونساءً، شيباً وشبّاناً، ومن كلّ لون وجنس، ليؤدّوا أمراً في مجال العلاقة بربّهم خاصّة، دون أن يكون لهذا الواجب المقدّس أيّ مفهوم اجتماعي، وأيّ ارتباط بحياتهم وشؤونهم؟

 

وهل أصغر عمل عباديٌّ في الإسلام يخلو عن مفهوم اجتماعي، حتّى يخلو منه هذا المنسك العظيم، وهذه الفريضة الكبرى ذات الأجزاء والعناصر الكثيرة، وذات الطابع الاجتماعي - كصلاة الجمعة؟!

 

إنّ الآيات القرآنية، والسنّة الشريفة، وسيرة السَّلف، وأقوال العلماء، كلّها تُجمع على أنّ هدف الحجّ لا ينحصر ولا يتلخّص في كونه مجموعة من المراسم العبادية المحضة وتضرّعًا يُبديه العبد بحياته الاجتماعية، شأنه شأن غيره من الفرائض الإسلامية كالصلاة والصيام والزكاة والجهاد وغيرها الّتي لا تشتمل على الأمور التعبّدية فقط، بل تنطوي على أهداف اجتماعية وآثار سياسية في حياة المسلمين، أفراداً وشعوباً.

 

وهو أمر يؤيّده العقل السليم ويؤكّده المنطق المستقيم.

 

إنّ الإسلام دين شامل أي أنّه نظام عباديّ وسياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ، وأنّه على العكس من اليهودية والنصرانية الحاضرة والمبادئ البشرية الوضعية، ليس إلّا مجموعة متناسقة من المعتقدات والقوانين والأخلاق في شتّى حقول الحياة، بل وكلّ جزء من هذا الدين هو الآخر خليط مدروس، ومزيج محسوب من الأبعاد المختلفة، وتركيب متوازن من الفرد والجماعة، والعبادة والسياسة والاقتصاد والصحة، والدنيا والآخرة.

 

بل العبادة في منطق هذا الدين يتسع نطاقها حتّى تشمل الحياة كلّها وتعمّ جميع الأعمال البشرية إذا كانت لأجل اللَّه، فلا تقتصر على الشعائر التعبّدية المعروفة من صلاة وزكاة وحجّ، إنّها تشمل كلّ عمل ترتقي به الحياة ويسعد به الناس. ولهذا قال النبيّ الأكرم صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم لأبي ذر: «ليكن لك في كلّ شيء نيّة صالحة حتّى في النوم». «1»

 

فالحجّ كما نكتشف ذلك من الكتاب والسنّة وسيرة السلف وأقوال العلماء المحقّقين لا يتلخّص في كونه موسماً عبادياً - بالمفهوم المألوف عند كثيرين - بل هو إلى جانب ذلك مؤتمر سياسيّ عالميّ وملتقى اجتماعيّ عامّ يوفّر للمسلمين القادمين من شتّى أنحاء المعمورة فرصة التعارف والتآلف واللقاء والانتفاع بعضهم ببعض، ومداولة أمورهم، وحلّ مشاكلهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في جوٍّ من الأمن والقداسة والصفاء والمحبّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) . مدينة البلاغة في خطب النبيّ وكتبه ومواعظه : 1 / 469.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد