مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
عن الكاتب :
الشيخ محمد مهدي شمس الدين، (1936م-2001م) عالم دين ومفكر إسلامي ومحدّث، كان رئيساً للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان. بدأ نشاطه العلمي والسياسي في مدينة النجف الأشرف ودرس عند السيد محسن الحكيم والسيد الخوئي. عاد عام 1969م إلى لبنان وتولّى رئاسة الاتحاد الخيري الثقافي الذي أسس عام 1966م و باشر بنشاطات ثقافية وفكرية وتبليغية. من مؤلفاته: نظام الحكم والإدارة في الإسلام، مطارحات في الفكر المادّي والفكر الديني، ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، بين الجاهلية والإسلام وغير ذلك.

مواجهةُ العَولمة بالرَّوحنة

 

الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين .. 

..أمّا العولمة، وكما يبدو من تطبيقاتها، فهي تقوم على اجتياحٍ للثّقافات الأخرى ومَحْوها محواً كاملاً، وإذا كان لهذه الثّقافات من بقاء فسيكون بقاءً فلكلوريّاً لمجرّد الاستمتاع وليس لتنمية وإخصاب الذّات الإنسانيّة. إنّها سيطرة القوى الكبرى والغالبة، وهي إلى جانب السّيطرة الاقتصاديّة والسّياسيّة تمارس السّيطرة الثّقافيّة، وتستخدم كلَّ تنوُّعٍ ثقافي في سبيل التّنكيل بالآخرين وإرهابهم لأجل استتباعهم ثقافيّاً.
إنَّ العولمة بالصّيغة الأمريكيّة التي يحاولون فرضها على العالم لا تمثِّل تحدّياً بقدر ما تمثِّل غزواً، فهي مشروع يتسلَّم واقع الهيمنة على السِّياسة والاقتصاد من جهة، وبالقدرة غير المسبوقة في توجيه الإعلام من جهة أخرى، كما أنَّها تتسلَّح أيضاً بالقدرة على التّشريع على المستوى الدّولي. ولذا فإنّ العولمة لا تمثِّل في نظرنا تحدِّياً، بل تمثِّل غزواً، وهذا الغزو لا بدَّ من مقاومته. ".."
ومن جهة أخرى، فإنَّ العولمة تؤدّي إلى تشجيع عوامل التَّفتُّت والانقسام داخل المجتمعات الأخرى، وإلى إثارة التّناقضات العِرقيّة والدّينيّة والمذهبيّة بين الأقوام داخل المجتمعات، وتؤدّي بهذه المجتمعات إلى حروب وتوتُّرات داخليّة تُتيح الاستيلاء عليها، والهيمنة عليها وعلى اقتصادها، إنّها تتيح تفتيت البُنى الثقافيّة والأخلاقيّة وأنظمة القِيَم داخل مجتمع وداخل كلّ حضارة لمصلحة تيّار الحداثة، كما يتجاوز في ما يسمّى الحضارة الأمريكيّة والثّقافة الأمريكيّة ونمط الحياة والعيش الأمريكي.
هذا يفرض علينا، يفرض على كلِّ شعب، كلِّ حضارة، كلِّ ثقافة، مسؤوليّاتِ تحصين الذّات من جهة، والانفتاح من جهة أخرى: تحصين الذّات بما لا يعني الإنغلاق، والانفتاح بما لا يعني الذّوبان.
بالنّسبة لنا في العالم العربي والإسلامي، فإنَّ هذا يفرضُ مسؤوليّاتٍ تربويّةً في الأُسرة، والمدرسة، والجامعة، والحياة العامّة. وهي مسؤوليّات أكبر وأثقل ضرورة وإلحاحاً ممّا كانت عليه الحال قبل نشوء الموجة الثّقافيّة والتيّار الثّقافي الماحق والسّاحق الذي يتدفَّق بواسطة الإنترنت والتلفزيون والسينما والصّحافة، وما إلى ذلك تحت عنوان الحداثة. ".."
إنّنا نرى أنَّ من غير الواقعي ومن غير الصّحيح والمنطقي مواجهة العولمة بالإنغلاق، أو برفض كلِّ شيء، أو بالعودة إلى النّصّ من دون وعي. إنَّ علم الشّريعة هو علمُ الفقه الذي هو علم الوعي، والفقه يعني تجاوز النّصّ لا بمعنى رفضه، بل بمعنى التعمُّق بفهمه عموديّاً وأفقيّاً بما يستكشفُ المستقبل، وبما يستجيبُ لضرورات الحاضر.
نعتقد أنَّ الأساس في المواجهة يجب أن يرتكز على الأمور التي سبقت الإشارة إليها. ونضيف إلى ذلك أنّه لا بدَّ من تطويرٍ عميقٍ في مناهج التّعليم وفي العلوم عندنا، ابتداءً من رياض الأطفال إلى أرقى المستويات الجامعيّة. يجب تطوير نظام التّعليم بما يتوافق مع حاجات الأمّة ومع الإندماج في الطّبيعة ومع رؤية المستقبل، يجب أن نعيد تكوين علاقتنا مع الطّبيعة.
وفي الوقت نفسه، يجب إعادة الإعتبار بكلّ قوّة إلى الأُسرة وقِيَم الأسرة، وإلى بُنى وقِيَم الاجتماع الإسلامي، إلى إعطاء مفاهيم الحوار والمحلّة والحرفة وكلّ الأُطر التي انتظم فيها الاجتماع الأهلي العربي الإسلامي على مدى التّاريخ، إنطلاقاً من مبدأ الأخوّة أو مبدأ التّآخي الذي أرساه الإسلام في التّعبير الأوّل من تعابير الإجتماع المديني في المدينة بعد الهجرة النّبويّة الشريفة.
يجب إعادة الاعتبار إلى هذه القيم لا باعتبارها ثقافيّة نظريّة، بل باعتبارها أساليب لتكوين الاجتماع الإسلامي العربي على الأسُس الفكريّة الإسلاميّة التي تنبع من نظام القِيَم الإسلاميّة العربيّة الذي تستهدفه تيّارات الحداثة، بكلّ ما تحتوية من فرديّة وشهوانيّة حسِّيّة وماديّة.
وفي ظلّ ذلك يجب تعميقُ الوعي الرُّوحي (رَوْحَنة الحياة ورَوْحَنة السُّلوك) في مقابل ما تقتضيه الحداثة من ماديّة ومن ذرائعيّة ونفعيّة، يجب أن تعمَّق في شخصيّة المسلم روح العبادة وروح الارتباط بالله –الرَّوحنة– وهذه وظيفة العلم والتّربية داخل الأسرة، وداخل المدرسة، وداخل مؤسَّسات المجتمع الأهلي.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد