مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

أكبر مسؤوليات التربية... منع تسلّط الوهم على الفطرة

يؤلمنا أن لا يندفع أبناؤنا نحو المعالي؛ ويزداد ألمنا إن وجدناهم يسلكون طريق العبثية والسطحية في الحياة. نحلم أن يرغب أولادنا ببلوغ قمم المجد في العلم والعمل، فيكونوا نماذج راقية في الفضيلة والعظمة. ونتعجّب من انشغالهم بسفاسف الأمور وأنواع الملاهي الفارغة وتضييع الوقت فيما لا طائل منه. فلماذا لا تنفع كل نصائحنا وتحذيراتنا المشفقة المشفوعة بآلاف الشواهد والأمثلة والأرقام؟ لماذا لا يُسمع منطق العقل ولا يُفهم أسلوب الحكمة؟!

 

ها هم أبناؤنا يهدرون أجمل مراحل أعمارهم في اللهو واللعب والبطالة، بدل الاستفادة من زهرة الشباب وقوّة الحافظة وطهارة الفتوّة في تحصيل المعارف واجتناء الروح وسلوك سبل التكامل. فماذا ينقصهم حتى يطالعوا تلك الكتب التي أثّرت فينا أعمق الأثر؟ ولماذا لا يقدرون على تخصيص ربع ساعة في اليوم لترتيل القرآن؟ وما الذي يزعجهم في قراءة دعاء مفعم بالمعاني الجميلة البالغة، لمدة عشر دقائق!؟ ولماذا هذا التراخي في الصلاة أوّل الوقت؟

 

لو يعود الزمن بنا إلى الوراء لوصلنا ليلنا بنهارنا في تعلّم الكثير من الأشياء المفيدة واكتساب المهارات النافعة؛ ولكانت حياتنا اليوم أعمق وأشمل وأكثر عطاءً. فلو أولينا اللغة العربية أو الأجنبية الاهتمام اللازم لأصبحنا اليوم قادرين على الحضور بصورة شديدة الفعالية على الوسائط الاجتماعية لنشر كلمة الإسلام في بقاع واسعة من العالم. ولو صقلنا موهبة الكتابة لكنّا اليوم قد ألّفنا عشرات الكتب. ولو أنّنا طالعنا تلك الروايات الكبرى بدل مشاهدة المسلسلات التلفزيونية الفارغة لكنّا اليوم ممّن يكتب لأشهر المحطات الفضائية. ولو ولو..

 

كل هذا نريد لأبنائنا أن يجتنبوه وأن يدركوا اللحظات الحسّاسة التي تمر عليهم لكيلا يُبتلوا بحسراتنا التي لا تنتهي. ولكن.. مرّة أخرى نسأل: لماذا لا يندفع أبناؤنا نحو الكمالات الحقيقيّة التي يفترض أن تنجذب إليها فطرتهم؟

 

والجواب هو: لقد اقتحمت حياتهم تلك اللذات المتوهَّمة وتغلغلت إلى أعماق قلوبهم تلك اللذات المتخيّلة إلى الدرجة التي باتت معها كل نصائحنا وحسراتنا عديمة الأثر، بل غير مفهومة البتة.

 

وما لم نسرع إلى نجدتهم قبل فوات الأوان، فسوف يتخرّج أبناؤنا من المدرسة وبالكاد يتقنون علمًا أو يجيدون فنًّا أو يمهرون في التفكير. فلا اللغة العربية أتقنوها ولا غيرها من اللغات أجادوها إلا بمقدار النجاح في الامتحانات (التي معظمها خداع بخداع). ولا فلسفة الحياة فهموها ولا مهارات الحياة وتدبير المنزل وإدارة العمل وحسن القيادة وأي شيء يمكن أن يجعل المرحلة التالية من حياتهم فرصة لبلوغ المعالي.

 

لقد عرفت الكثير من خرّيجي مدارسنا الإسلامية وغير الإسلامية وتحادثت معهم عن قرب. ونادرًا ما وجدت واحدًا منهم تمكّن من شيء أو أتقنه. لهذا سرعان ما تبتلعهم المرحلة الجامعية وتغرقهم في هموم الاستعداد للعمل ليكونوا في أحسن الحالات عمّالًا مهرة في شركة محترمة لا علاقة لها بمجتمعنا وحاجاته وتقدّمه. وقد نفرح لأنّ أبناءنا لم ينحرفوا ولم تفسدهم بهارج الشهوات وضلالات أمريكا الشيطانية، وإنّما تمكّنوا من تأمين معيشتهم بشكل لائق وسوف يؤسّسون أسرة جيدة. أجل، قد نفرح بالرغم من أنّنا نرى أبناءنا وقد تحوّلوا إلى عبيد وآلات في مؤسّسات الباطل والعبثية أو أنهم يشتغلون في بعض المراكز التي تفيد المجتمع دون أن يكونوا عنصرًا مبدعًا وفاعلًا فيها.

 

أين ضاع ذلك الذكاء الذي ميّز أبناءنا في طفولتهم؟ وأين ذهبت شعلة التوقّد والإبداع من شخصيّتهم؟ ماذا نتوقّع وقد أحطنا أولادنا بكل تلك اللذات الوهمية منذ طفولتهم وتركناهم عرضة لأعاصير الخيالات، التي جعلت الشهرة والموقعية والمكانة الاجتماعية والاستقرار المعيشي والحب المجازي ونمط العيش الغربي أجمل وأكبر ما يحلمون به! فلماذا لم نقدر على إفهامهم أنّ هذا كلّه سراب وغثاء وعبث وضلالة؟ ولماذا لم نستطع أن نوصل إليهم حقائق الكمال والسعادة التي تحصل في ظلّ التوجّه إلى الله وخدمة دينه والانقطاع إليه ومحبة أوليائه؟ ولماذا عجزنا عن إقناعهم بأنّ كل هذه الحياة الدنيا ليست سوى محطة عبور وجسر مرور وأنّ التخفف منها والزهد فيها هو وسيلة النجاة وطريقة الوصول؟

 

أجل، إنّه تحدي التربية الأكبر. وفي هذه المقالة أودّ أن أشرك كل الآباء والأمهات ببعض الأفكار التي يمكن أن تكون نافعة ومساعدة أثناء خوضه.

 

وأحد أهم النصائح التي أقدّمها في هذا المجال هي أن نثق بقوّة الروحانية الموجودة في تراثنا العظيم، التي يمكن أن تتغلّب على كل سحر الأوهام وخيالات اللذائذ. وهذه الروحانية إنّما تصبح نافذة وعظيمة الأثر حين ترتبط بواقع حياة أبنائنا وما يواجهونه فيه. وإنّما يمكن تحقيق ذلك حين نتمكّن من تعريفهم إلى المصاديق البشرية لهذه الروحانية العميقة. وكلّما أسرعنا في عرض هذه النماذج والمثل الإنسانية العليا ـ بعيدًا عن المبالغة والسطحية ـ فإنّنا نضمن لأبنائنا أن لا يخوضوا كثيرًا في متاهات العبثية والضياع.

 

فما من شيء يمكن أن ينفذ إلى أعماق قلوب الأطفال ويستقر فيها مثل قصص العظماء الواقعيّين، الذين يُفترض أن تكون شخصيّتهم تحدّيًا كبيرًا لأشكال وأنواع العبثية الموجودة في الحياة المادية التي تحيط بنا.

 

إنّنا نطمح أن يبلغ أبناؤنا قمم المعارف والعلوم الفيزيائيّة والبيولوجية، وبالنسبة لنا ما أجمل أن يتقنوا في سنٍّ مبكّر مهارات البرمجة ويتعرّفوا إلى أسرار العالم الرقمي؛ لكن ذلك لن يساعدهم على مواجهة أبسط تحدّيات الرزق والمعيشة، ولن يسعفهم في تجربة العشق المجازيّ ومعاناتها، ولن يكشف لهم خدعة زخارف الدنيا؛ بل ربما سيكون تفوّقهم في هذه العلوم سببًا آخر ليقبلوا بالعرض المغري للعمل في شركة غووغل أو وزارة الدفاع الفرنسية أو الهجرة إلى كندا ليبذلوا لذلك البلد زهرة عمرهم وقمّة إبداعهم.

 

إنّ "ألبرت آينستاين" و"إسحاق نيوتن" و"مارك زوغربرغ" و"ستيف جوبز"، لن يكونوا النماذج والمثل العليا التي تصنع من أبنائنا عظماء حقيقيين في الدنيا والآخرة. كما إنّ تلك الشخصيات لم تكن سوى أيقونات صنعتها وصقلتها البيئة الخاصّة في غربٍ متوحّشٍ بعيد عن الإنسانية والقيم المعنوية. وينبغي أن نعترف أنّ مدارسنا كلّها لا تسعى لبيان العظمة الواقعية في الشخصية وتمكين أبنائنا من التمييز الدقيق بين العظمة الاعتبارية والحقيقية. فهي مرتهنة في قسمٍ كبيرٍ من برامجها وأدائها لعظماء هذه البرامج والفنون والعلوم. ومن الصعب أن تتنكّر لهم وهي تولي هذه المجالات الأولوية. ففيها تكون العلامة القصوى في الرياضيات مئة نقطة، بينما تكون العلامة القصوى في معرفة الدين عشرين نقطة.

 

أجل، إنّنا نواجه صعوبة بالغة في بيان وتقديم شخصية وسيرة العظماء الحقيقيّين الذين بلغوا قمم الكمال ومراتب الرقيّ الإنسانيّ واتّصلوا بمنبع الحكمة وأتقنوا مهارات الحياة في مختلف شؤونها وحفلت شخصياتهم بأجمل معاني الإنسانية وعاشوا أروع وأرقى التجارب الروحية. فكيف إذا كان أبناؤنا محاطين بسيرة وإنجازات شخصيات أبدعت في تفاصيل قد تنفع وقد تضر ولم تدرك فلسفة الوجود ومغزى الحياة. فلم يتعرّف أبناؤنا إلى الكثير من الضرر الذي ألحقته إنجازات هؤلاء بالبشرية وما زالت.

 

لكن، إن استطعنا أن نوصل لأبنائنا معاني العظمة المتجلية في أولياء الله وما احتوته قلوبهم وعقولهم من معارف عظيمة وما أنجزته أفعالهم من خير للبشرية، فسوف تنكشف الزخارف وتظهر البهارج ويميز الضار من النافع والغث من السمين.

 

والنصيحة الثانية التي أؤكّد عليها هي أن نؤمن بعقول أبنائنا وإمكانية الارتقاء بها إلى مستوى قدرة التمييز الدقيق بين الوهم والحقيقة في كلّ شيء سيعرض عليهم في هذه الحياة.

 

إنّ هذه هي وظيفة العقل الكبرى. ويجب أن نعمل على تفعيل التربية العقلية عبر تحليل كل الظواهر الجاذبة والمغرية، وعدم الاكتفاء بالإشارة إلى قبحها أو التعامل معها بمنطق الحرام.

 

السفور والتهتك في اللباس والرقص والغناء والاختلاط بين الجنسين والشهادات العليا والاستعمال البارع للتكنولوجيات وأنواع الهوايات والألعاب والعمارات الشاهقة والمولات والسيارات السريعة وما لا يُحصى من النشاطات الممتعة والعلوم والاختبارات؛ كل هذه يجب أن تخضع لمنطق العقل من خلال تحليل مكوّناتها والكشف عن جهات اللذة والمتعة والفائدة فيها جنبًا إلى جنب الكشف عن جهات النقص والضرر والقبح والشر والأذى.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد