مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد جواد مغنية
عن الكاتب :
الشيخ محمد جواد مغنية، ولد عام 1322ﻫ في قرية طير دبّا، إحدى قرى جبل عامل في لبنان، درس أوّلاً في مسقط رأسه ثمّ غادر إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته الحوزوية، وحين عاد إلى وطنه، عُيّن قاضيًا شرعيًّا في بيروت، ثمّ مستشارًا للمحكمة الشرعيّة العليا، فرئيسًا لها بالوكالة. من مؤلّفاته: التفسير الكاشف، فقه الإمام الصادق(ع)، في ظلال نهج البلاغة، الفقه على المذاهب الخمسة، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، الإسلام والعقل، معالم الفلسفة الإسلامية، صفحات لوقت الفراغ، في ظلال الصحيفة السجادية، وسوى ذلك الكثير. تُوفّي في التاسع عشر من المحرّم 1400ﻫ في بيروت، ثمّ نُقل إلى النجف الأشرف، وصلّى على جثمانه المرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئي، ودُفن في حجرة 17 بالصحن الحيدري.

زينب (والمصائب والأحزان) (2)

وليس في قولي هذا أيّة شائبة من المغالاة ما دمت أقصد الإيمان الصّحيح الكامل الّذي لا ينحرف بصاحبه عن طاعة اللّه ومرضاته مهما تكن الدّوافع والملابسات... وأي شيء أدل على هذه الحقيقة من قيامها بين يدي اللّه للصّلاة ليلة الحادي عشر من المحرّم، ورجالها بلا رؤوس على وجه الأرض تسفي عليهم الرّياح، ومن حولها النّساء، والأطفال في صياح وبكاء، ودهشة وذهول، وجيش العدو يحيط بها من كلّ جانب... أنّ صلاتها في مثل هذه السّاعة تماما كصلاة جدّها رسول اللّه في المسجد الحرام، والمشركون من حوله يرشقونه بالحجارة، ويطرحون عليه رحم شاة، وهو ساجد للّه عزّ وعلا، وكصلاة أبيها أمير المؤمنين في قلب المعركة بصفّين، وصلاة أخيها سيّد الشّهداء يوم العاشر، والسّهام تنهال عليه كالسّيل.

 

ولا تأخذك الدّهشة - أيّها القارئ - إذا قلت: إنّ صلاة السّيّدة زينب ليلة الحادي عشر من المحرّم كانت شكرًا للّه على ما أنعم، وأنّها كانت تنظر إلى تلك الأحداث على أنّها نعمة خصّ اللّه بها أهل بيت النّبوّة من دون النّاس أجمعين، وأنّه لولاها لما كانت لهم هذه المنازل والمراتب عند اللّه والنّاس...

 

ولا يشك مؤمن عارف بأنّ أهل البيت لو سألوا اللّه سبحانه دفع الظّلم عنهم، وألحوا عليه في هلاك الظّالمين لأجابهم إلى ما سألوا، كما لا يشك مسلم بأنّ رسول اللّه لو دعا على مشركي قريش لإستجاب دعاءه ... ولكنّهم لو دعوا واستجاب لم تكن لهم هذه الكرامة الّتي نالوها بالرّضا والجهاد، والقتل والاستشهاد، وفي هذا نجد تفسير قول الحسين: «رضا اللّه رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصّابرين، لن تشذّ عن رسول اللّه لحمته بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده، من كان باذلاً فينا مهجته، وموطّنا على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا فإنّني راحل، مصبحًا إنّ شاء اللّه تعالى». وقول أبيه أمير المؤمنين، وهو يجيب عن هذا السّؤال: فقال لي: «فكيف صبرك إذا» فقلت: يا رسول اللّه، ليس هذا من مواطن الصّبر، ولكن من مواطن البشرى والشّكر.

 

وقال: «يا عليّ، إنّ القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنّون بدينهم على ربّهم، ويتمنّون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلّون حرامه بالشّبهات الكاذبة، والأهواء السّاهية، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ، والسّحت بالهديّة، والرّبا بالبيع». قلت: يا رسول اللّه، فبأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردّة، أم بمنزلة فتنة؟ فقال: «بمنزلة فتنة».

 

وزينب هي بنت أمير المؤمنين لا تعدوه في إيمانها، ولا في نظرها إلى طريق الخلود والكرامة... ولذا لم تترك الصّلاة شكرًا للّه، حتّى ليلة الحادي عشر من المحرّم، وحين مسيرها مسبيّة إلى الكوفة والشّام، وحمدت اللّه، وهي أسيرة في مجلس يزيد على أن ختم اللّه للأوّل من أهل البيت بالسّعادة، وللآخر بالشّهادة والرّحمة.

 

ومن الخير أن ننقل كلمة لأبيها أمير المؤمنين تتّصل بالموضوع وتلقي عليه ضوءًا من أنوار الحكمة كالهداية، قال: «أنّ أشدّ النّاس بلاء النّبيّون، ثمّ الوصيون، ثمّ الأمثل فالأمثل، وإنّما يبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صحّ دينه، وحسن عمله اشتدّ بلاؤه، ذلك أنّ اللّه لم يجعل الدّنيا ثوابًا لمؤمن، ولا عقوبة لكافر، ومن سخف دينه ضعف عمله، وقلّ بلاؤه، وأنّ البلاء أسرع إلى المؤمن التّقي من المطر إلى قرار الأرض».

 

وبعد، فإنّ الأحداث الّتي مرّت بالسّيّدة زينب لفتت إليها الأنظار، فتحدّث عنها المؤرّخون وأصحاب السّير في موسوعاتهم، ومنهم من وضع في سيرتها كتبًا مستقلة، وأشاد الخطباء بفضلها وعظمتها من على المنابر، ونظم الشّعراء القصائد في أحزانها وأشجانها، وصبرها وثباتها، ونذكر هنا - على سبيل المثال - هذه القطعة الدّامية لهاشم الكعبي:

 

وثواكل في النّوح تسعد مثلها * أرأيت ذا ثكل يكون سعيدا

ناحت فلم تر مثلهنّ نوائحًا * إذ ليس مثل فقيدهنّ فقيدا

لا العيس تحكيها إذا حنّت ولا * الورقاء تحسن عندها ترديدا

أن تنع أعطت كلّ قلب حسرة * أو تدع صدّعت الجبال الميدا

عبراتها تحيي الثّرى لو لم تكن * زفراتها تدع الرّياض همودا

وغدت أسيرة خدرها ابنة فاطم * لم تلق غير أسيرها مصفودا

تدعو بلهفة ثاكل لعب الأسى * بفؤاده حتّى انطوى مفؤودا

تخفي الشّجا جلدًا فإن غلب الأسى * ضعف فأبدت شجوها المكمودا

نادت فقطّعت القلوب بشجوها * لكنّما انتظم البيان فريدا

 

ماذا نسمّي هذه النّغمات الحزينة؟... أنسميها شعرًا، والشّعر يحتاج إلى أعمال الفكر، وتخير المعاني والألفاظ، والكعبي لم يفعل شيئًا من ذلك، وإنّما انعكست في نفسه آلآم آل الرّسول، ثمّ فاضت بها من حيث لا يشعر، تمامًا كما فاضت عيون الثّاكلات بالعبرات... وكل شيعي صادق الولاء لآل نبيّه يعبر عن ولائه بالبكاء، وإقامة العزاء لمّا أصابهم وحلّ بهم، أو بشد الرّجال لزيارة قبورهم ومشاهدهم المقدّسة، أو بالاحتجاج لحقّهم، ومنافحة خصومهم، أو بثورة شعريّة، كما فعل السّيّد حيدر الحلّي..

 

أمّا أن تكون نفس المحبّ بالذات هي الأداة المعبّرة عن حبّه وولائه، فهذا ما لا نعرفه إلّا من أفراد قلائل جدًّا، منهم هاشم الكعبي، والشّريف الرّضي... إنّ هذه القطعة ليست وصفًا لندب الثّواكل وحنينها إلى سيّدها وكفيلها، ولا تصويرًا لأحزانها وأشجانها، وكفى، ولا إخبارًا بالّذي أصاب آل محمّد، كما قال بعض الشّعراء:

 

سبيت نساء محمّد وبناته * من بعدما قتلت هناك رجاله

 

وإنّما هي قلب مضطرم قد استحال إلى كلمات تلهب القلوب والمشاعر... فلقد هيمن الولاء على الكعبي، وانتقل به من عالمه ودنياه إلى عالم الثّواكل في كربلاء، فشعر بشعورهنّ، وأحس بإحساسهنّ، حتّى أصبح مثلهنّ ثاكلاً يندب وينوح بعبرات تحيي الثّرى، وزفرات تدع الرّياض هودًا.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد