قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

﴿حِطَّةٌ﴾ و﴿ رَاعِنَا﴾ الأصل اللّغوي والمعنى

المسألة:

 

وردت في القرآن الكريم كلمة "حطّة" وكلمة "رَاعِنا" فما المراد منهما؟ وما هو الأصل اللغوي لهما؟

 

الجواب:

 

معنى: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾

 

أمَّا قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾(1) فهو من الحطِّ وهو الوضع كوضع الأحمال والأثقال عن الظهر أو عن الدابَّة أي رفعها أو قل انزالها عن الظهر، ومنه استحطَّه الدَّين أي طلب أنْ يحطَّه عنه، واستحطَّه وزرَه وجنايته أي طلب أنْ يحطَّ عنه تبعاتِ ذنبِه أو جنايته.

 

وحِطة مصدرٌ كجلسة من حَطَّهُ يَحُطُّهُ حَطًّا وحِطَّةً، وفعلُ الأمر حِطَّ، يقال: حِطَّ عنَّا ذنوبنا أي نسألك أنْ تضع عنَّا ذنوبنا فقوله تعالى: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ يعني قولوا حِطَّ عنَّا ذنوبنا حِطةً، فحِطَّة مصدرٌ الأصل فيها النصب، وإنَّما تمَّ رفعُها على تقدير أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوف، وهو طلبُنا ومسألتُنا، فمؤدَّى الفقرة: قولوا: طلبُنا حطَّةٌ، وقولوا مسألتُنا حِطَّةٌ، فطلبُنا مبتدأ وحطةٌ خبرُه، فرفعُ حطَّة نشأ عن جعله في محلِّ خبرِ لمبتدأ لتكون الجملة اسميَّة، والغرض من ذلك إفادة معنى الثبات، فبدلاً من القول: حِطَّ عنا ذنوبنا حطَّةً فتكون الجملة فعليَّة قيل: طلبُنا حطةٌ فتكون الجملة اسميَّة لتدلَّ على الثبات، كما في قوله تعالى: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾(2) أي صبري صبرٌ جميل، فالأصل في الجملة أصبرُ صبراً جميلاً "فصبراً" مصدر تمَّ جعله خبراً لتُصبح الجملة اسميَّة فتُفيد معنى الثبات، كذلك هو الشأن في حِطَّة فهو مصدر الأصلُ فيه النصب إلا أنَّه رُفع ليكون خبراً لمبتدأ مقدَّر، وبذلك تكون الجملة اسميَّة مفيدة لمعنى الثبات، فبعد أنْ كانت الجملة: حِطَّ عنَّا ذنوبنا حطَّةً وهي جملة فعلية صارت جملةً اسميَّة تقديرُها طلبُنا أو مسألتنا حطَّةٌ أي حطةُ ذنوبنا أو قلْ طلبُنا أنْ تحطَّ وتضع عنَّا ذنوبنا. فالجملة صارت اسميَّة تُفيد معنى الثبات.

 

ومحصل المراد من تمام الآية وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾(3) محصَّل المراد منها هو أنَّها تُخاطب بني إسرائيل -كما هو الواضح من سياقها- فتقول واذكروا إذ قلنا لإسلافكم ادخلوا هذه القرية ولكم أنْ تنعموا بخيراتها بعد دخولها إلا أنَّه إذا دخلتم باب القرية ادخلوها وأنتم خاضعون متواضعون لله جلَّ وعلا غير مستعلين ولا متمرِّدين على حدود الله جلَّ وعلا فـ"سجداً" حال أي ادخلو الباب حال كونكم ساجدين، والسجود هنا بمعنى الخضوع لله والتمثل لأوامره أو أنَّ المراد من "سجداً" هو الأمر حين الدخول من الباب بالسجود شكراً لله تعالى، يعني إذا دخلتم الباب فاسجدوا شكراً لله تعالى، وقولوا مضافاً للسجود "حِطَّة" يعني استغفروا من ذنوبكم فقولوا "حِطَّة" أي حِطَّ عنَّا ذنوبنا، فإذا فعلتم ذلك نغفر لكم خطاياكم لكنَّهم لم يفعلوا كما قال تعالى بعد هذه الآية: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾(4) فقيل لهم َ"ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا" إلا أنَّهم لم يسجدوا، وقيل لهم استغفروا من ذنوبكم وقولوا حِطَّة فلم يستغفروا وإنَّما قالوا قولاً غير القول الذي أُمروا بقوله، فقد نُسب إليهم أو إلى الظالمين منهم أنَّهم تلفظوا بكلمةٍ تُشبه كلمة الاستغفار ولكنَّها تعني معنىً آخر، فعلوا ذلك تهكُّما واستهزاءً بأوامر الله تعالى، ولذلك قال تعالى: ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾.

 

معنى: ﴿لَا تَقُولُوا رَاعِنَا﴾:

 

وأمَّا قوله تعالى: ﴿لَا تَقُولُوا رَاعِنَا﴾(5) فهو من المراعاة والإرعاء، والأصل الرعي وهو الحفظ والنظر والمراقبة، ونقيضه الإغفال والإهمال، تقول رعى اللهُ فلانًا إذا حفِظه، وتقول رعيتُ له حقَّه أي حفظتُه له فلم أُغفله، ولم أضيعه، وتقول: أرعيتُه سمعي إذا أصغيت إليه، فكأنِّي حفظت له سمعي فلم أتشاغل عنه وأصغي إلى غيره أو لم أغفل عنه وأُهمل ما يقول، وعليه فمعنى: ﴿رَاعِنَا﴾ هو أرعْنا سمعَك أي استمع إلينا حتى نبيِّن لك الشيء الذي لم نفهمه من كلامك أو لم يتهيأ لنا حفظُه واستيعابُه، أو أنَّ المراد من: ﴿رَاعِنَا﴾ تأنَّ بنا وانتظر بنا حتى نفهم عنك ما قلتَه.

 

وقد ورد في الروايات أنَّ النبيَّ الكريم (ص) كان إذا تصدَّى لشرح آيةٍ أو للتعريف بحكمٍ شرعي أو تصدَّى لبيان شيءٍ من معارف الدين واتَّفق أنَّ أحد المستمعين أو عدداً منهم لم يستوعبوا ما قاله الرسول الكريم (ص) فإنَّهم يقولون له "راعنا" يقصدون من ذلك تأنَّ بنا وانتظر بنا ولا تتجاوز هذا الكلام إلى غيره حتى نفهمَه ونستوعبَه، فقولهم راعنا يقصدون به التعبير عن عدم فهمِهم لقوله (ص) وطلبَ التوضيح أو الإعادة، فالآية نهتهم عن استعمال هذا اللفظ وأمرتْهم بالاستعاضة عنه بكلمة أخرى وهي "انْظُرْنَا" فإنَّها تُعطي ذات المدلول، وتؤدي نفس الغرض. فهذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾(6).

 

منشأ النهي عن استعمال كلمة "راعنا":

 

ومنشأ النهي عن استعمال كلمة "راعنا" هو أنَّ اليهود كانت تستعمل هذه الكلمة في معرض التنقُّص، وكانوا يتسابُّون بها فيما بينهم، فحين وجدوا المسلمين يُخاطبون بها الرسول (ص) اقتنصوا هذه الفرصة فصاروا يُخاطبون الرسول الكريم (ص) بها يقصدون بها المعنى المتعارف عندهم، وليس المعنى الذي يقصده المسلمون من هذه الكلمة، لذلك نهت الآيةُ عن مخاطبة الرسول (ص) بهذه الكلمة وأمرت بالاستعاضة عنها بكلمةِ "انظرنا".

 

وقيل إنَّ كلمة "راعنا" في استعمال اليهود نوعٌ من السباب في اللغة العبرانية، وقيل إنَّهم يقصدون من "راعنا" نسبة المخاطَب للرعونة وهي الحماقة، وقيل إنَّهم يقصدون من ذلك الدعاء على المخاطَب بالصمم فهي بمعنى: اسمع لا سمعت. وقد أشار القرآن المجيد إلى منشأ النهي عن مخاطبة الرسول (ص) بكلمة "راعنا" وأن منشأ ذلك هو أنَّ اليهود كانوا يلوون بها ألسنتهم يقصدون من ذلك الطعن في الدِّين قال تعالى في سورة النساء: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾(7).

 

يقول الشيخ الطوسي في مقام بيان منشأ نزول قوله تعالى: ﴿لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾: "وكان المسلمون يقولون: يا رسول الله راعنا: أي استمع منَّا، فحرَّفت اليهود، فقالوا: يا محمد راعنا -وهم يُلحدون إلى الرعونة- يريدون به النقيصة، والوقيعة، فلمَّا عوتبوا قالوا: نقول كما يقول المسلمون، فنهى اللهُ عن ذلك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾".

 

ورُوي عن الإمام موسى بن جعفر (ع) قال: "وكانت هذه اللفظة "راعِنا" من ألفاظ المسلمين الذين يُخاطبون بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقولون: راعنا، أي ارع أحوالنا، واسمع منا كما نسمع منك، وكان في لغة اليهود معناها: اسمع، لا سمعت. فلما سمع اليهود المسلمين يُخاطبون بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقولون: راعنا، ويخاطبون بها، قالوا: كنَّا نشتم محمداً إلى الآن سرَّاً، فتعالوا الآن نشتمه جهراً، وكانوا يُخاطبون رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقولون: راعنا، يريدون شتمه، ففطن لهم سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، أراكم تريدون سبَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) توهمونا أنَّكم تجرون في مخاطبته مجرانا، والله، لا أسمعها من أحدٍ منكم إلا ضربتُ عنقه.."(9).

 

وقريبٌ من هذه الرواية ما أورده النيسابوري في كتابه أسباب نزول الآيات عن ابن عباس في قوله تعالى: ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ قال: "وذلك أنَّ العرب كانوا يتكلمون بها -راعنا- فلمَّا سمعتهم اليهود يقولونها للنبيِّ (ص) أعجبهم ذلك، وكان "راعنا" في كلام اليهود سبَّاً قبيحا، فقالوا: إنَّا كنَّا نسبُّ محمَّداً سرَّاً، فالآن أعلنوا السبَّ لمحمَّدٍ فإنَّه من كلامه، فكانوا يأتون نبيَّ الله (ص) فيقولون: يا محمد راعنا ويضحكون، ففطِن بها رجل من الأنصار وهو سعد بن عبادة، وكان عارفاً بلغة اليهود، وقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذي نفس محمَّدٍ بيده لئن سمعتُها من رجلٍ منكم لأضربنَّ عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا﴾ "الآية"(10).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- سورة البقرة / 58.

2- سورة يوسف / 18.

3- سورة البقرة / 58.

4- سورة البقرة / 59.

5- سورة البقرة / 104.

6- سورة البقرة / 104.

7- سورة النساء / 46.

8- التبيان في تفسير القرآن -الطوسي- ج1 / ص387.

9- البرهان -السيد هاشم البحراني- ج1 / ص298.

10- أسباب نزول الآيات -الواحدي النيسابوري- ص21.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد