علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (2)

المثنَّى بما هو «المطلق المحدود»:

 

يجري في عالم الميتافيزيقا تمييز دقيق بين المطلق بوصفه الواحد بالوحدة الحقيقيَّة أي الله تعالى، وبين المطلق بما هو الواحد بالوحدة الحقيقيَّة الظلِّيَّة، أي الموجود بغيره؛ وهو ما يُنعت بالمطلق المحدود. فالمطلق بمعناه الأول هو التامُّ والكامل والمتحرِّر من كلِّ قيد، وهو واجب الوجـود المتجـاوز للزمان والمكـان، ولذا فهو يتَّســم بالثبات والكلِّيَّة. أمَّا بمعناه الثاني فهو النسبيُّ الذي يُنسَب إلى غيره ويتوقَّف وجوده عليه ولا يتعيَّن إلَّا مقرونًا به. وهذا النسبيُّ مُقيَّد وناقصٌ ومحدودٌ، وهو مرتبط بالزمان والمكان، ويتلوَّن بهما ويتغيَّر بتغيِّرهما، ولذا فهو ليس بكلِّيّ[1].

 

في الفلسفات الحديثة، يعدُّ هذا التعريف للمطلق والنسبيِّ تعريفًا عامًّا ولا يؤدّي غايته المثلى. ولذا يرى أحد فلاسفة مدرسة الحكمة الخالدة المعاصرين السويسري فريذوف شوان (1907-1998)[2] أنَّ اللَّانهائيَّة والكمال من الأبعاد الكامنة في المطلق، وتبرهن على ذاتها “في اتجاه هابط” حسب النشأة الكونيَّة للتجلِّيات. حتى ليتسنَّى لنا القول أنَّ الكمال هو صورة المطلق في انعكاساته في الوجود، وهوما يُؤلِّف اللَّانهائيَّة، وهنا تتدخَّل العناية الربَّانيَّة حيث ينبثق من المطلق لانهائيَّة فاعلة تتجلَّى في الخير، وترسم بالتالي بنية أقنوميَّة في اتجاه “خالقٍ” حتى نهاية التجلّيات[3].

 

وقد تعمَّق شوان في تحديد ماهيَّة المطلق متجاوزًا التحليل الُّلغويَّ المعجميَّ، وهو يقدِّم مجموعة من التساؤلات حوله. يقول: “لو سُئلنا عمَّا هو المطلق، لقلنا أولًا إنَّه الجوهريُّ واجب الوجود، وليس العرضيُّ ممكن الوجود فحسب، وبالتالي فهو لانهائيٌّ وكامل، ولقلنا ثانيًا إنَّه كلُّ ما انعكس في الوجود، كوجود الأشياء بحسب مستوى السؤال، ولا وجود بغير المطلق، ويتجلَّى وجه المطلقيَّة في وجود شيء ما يُميِّز الموجود عن اللَّاموجود، فحبَّة الرمل الموجودة معجزة بالقياس إلى الفضاء الفارغ.. ولو نحن سُئلنا عمَّا هو اللَّانهائيُّ لقلنا إنَّه المنطق شبه التجريبيِّ الذي يطلبه السؤال نفسه، ويتبدَّي في الوجود كصيغ للمدِّ والجزر، شأنَّه شأن المكان والزمن والشكل والعدد والتكاثر والمادَّة، وحتى نكون أكثر دقَّة نقول بطريقة أخرى: إنَّ هناك صيغة حافظة هي المكان وصيغة مُحَولةً هي الزمن، والذي يعني لانهائيَّة اطِّراد التحوُّلات، لا تحديد الدوام فحسب، وصيغة كميَّة هي العدد الذي يعني لانهائيَّة العدد ذاته لا تحديد الكمِّ فحسب، وصيغة ماديَّة هي المادَّة وهي الأخرى لا حدود لها كتجلّي النجوم في السماء، ولكلٍّ من هذه الصيغ امتداد في الحال الحيويِّ وما وراءه، فهي أعمدة الوجود الكونيّ.

 

وأخيرًا، لو سُئِلنا عن الكمال أو الخير الأسمى، لقلنا إنَّه الله سبحانه، والخير هو ما يتجلَّى في الوجود على شكل فضائل، أو بالحريِّ ظواهر كيفيَّة تتبدَّى في كمال الأشياء لا في وجودها فحسب، والمطلق واللَّانهائي والخير، لا تناظر الوجود والأنواع الموجودة وما يتعلق بكيفيات وجودها فحسب، بل هذه العوامل معًا في آن، لتبيّن معنى الأوجه الربَّانيَّة فيما وراء العالم لو جاز القول”[4].

 

الواضح أنَّ وصف شوان المطلق بصفات مثل اللَّانهائيِّ، والكمال، والخير الأسمى، قد يعادل وصف المثال الأفلاطونيِّ الذي يتَّسم بالثبات من ناحية، وهو الخير الأسمى الذي تفيض منه الموجودات وتتشاكل معه عن طريق النفس من ناحية أخرى. لكنَّ شوان يختلف عن أفلاطون في مبدأ التجلِّي الربَّانيِّ حيث يتجلَّى المطلق للنسبيِّ، في حين كانت العلاقة غامضة بين مثال المثل والمحسوسات عند أفلاطون؛ وهو الأمر الذي جعلنا نرتطم بأمواج من التفسير والتأويل لفهم معنى التشاكل، وكيفيَّة تجلّي الكلّيِّ في الجزئيِّ ومشاركته الوجود[5].

 

بحسب شوان، يمكن أن ندرك المطلق سبحانه على قمَّة الهرم الأنطولوجيِّ، أو بالأحرى في ما وراءه، وهو الذي تشتمل طبيعته على اللَّانهائيَّة والكمال، واللَّانهائيَّة تشعُّ من الباطن والظاهر، أي أنَّها تشتمل على قدرات المطلق عزَّ وجلَّ وتنشرها في الآفاق. وأمَّا الكمال الذي تماهى مع هذه القدرات هو الذي يعكسها في عالم النسبيَّة، وهو الذي يتفجَّر منه إمكان الصفات كافَّة سواء أكانت في الوجود، أم في العالم، أم في أنفسنا. وإذا كان المطلق هو الحقيقة الصرف، فإنَّ اللَّانهائيَّة هي الإمكان، والكمال أو الخير الأسمى هو جُماع محتوى اللَّانهائيّ[6].

 

ولأجل تجنُّب ما وقعت فيه بعض تيَّارات وحدة الوجود من جمع حلوليٍّ بين الله والعالم، راح شوان يميِّز بين نوعين من الوجود من حيث الإطلاق وهما: الوجود المطلق والوجود المحض. أمَّا الوجود المطلق فيمثِّل انعكاس المطلق المحض الذي يتجلَّى في النسبيَّة، ولا يمكن أن يتحوَّل الوجود المطلق إلى الوجود المحض كما يدَّعي فلاسفة النسبيَّة المعاصرة، ولو حدث التحوُّل، وهذا مستحيل، لتنزَّهت الثنويَّات والثالوث عن مخالطة البشر أو محادثتهم، لأنَّ التنزيه من صفات المطلق المحض، وهكذا يقول شوان “لا يتطابق الوجود المُطلق مع المطلق المحض الصمديّ، فهو تابع للنظام الربَّانيِّ بقدر ما هو انعكاس للمطلق في عالم النسبيَّة، ومن ثمَّ يمكن تسميته مطلقًا نسبيًّا رغم ما تحمله التسميَّة من تناقض، ولذا فهو أقنوم ربَّانيّ. وإذا كانت الأقانيم الربانيَّة هي المطلق بما هو لتنزَّهت عن مخاطبة الإنسان”[7]. والوجود المُطلق هو المطلق النسبيُّ أو المطلق المحدود، أو هو الرب مطلقًا نسبيًّا قادرًا على الخلق، فالمطلق المحض الصمديّ أي “غيب الغيب” يتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.

 

ويشتمل المطلق أو الجوهر على اللَّانهائيَّة التي تشعُّ بنوره، فالنور الإلهيُّ يعكس الجوهر على “الفراغ” من دون أن “يخرج” إليه بأيِّ شكل كان، إذ إنَّ المبدأ معصوم لا ينقسم، ولا يمكن أن يُغتصب منه شيءٌ، فانعكاسه على اللَّاشيء يتجلَّى بصيغة “أشكال” بادية و”أفعال” حادثة، و”حياة” اللَّانهائيّ ليست فعالة بقوَّة مركزيَّة centrifugal فحسب، ولكن أيضًا ببنية مركزيَّة centripetal، وبشكل تبادليٍّ أو متزامن بدءًا بالإشعاع وعودًا إلى المبدأ، والمبدأ الأخير يعني نشورًا وعودة الأشكال والحوادث إلى الجوهر، ومن دون أن يزيد أو يُنقص من الجوهر شيئًا، فهو النعمة والكمال مطلقًا، وهو خصيصة من خصائص المطلق كما لوكان حياته الباطنة، أو حبه الذي يفيض ليخلق العالم[8].

 

ويرى شوان أنَّه رغم ما تعرَّضنا له من تعريف للمطلق، فهذا نسبيَّة محضة، ويمكن إحلالها بأيِّ ألفاظ، فلا تساوي الصفات الذات، وإنَّ محاولة التعريف خطوة نحو الفهم، والخوض فيها إدراك للماهيَّة وليس إدراكًا للذات. وتعريف المطلق بما هو، لا بدَّ من أن يكون مطلقًا بدوره، وكلُّ محاولة لوصفه تنتمي بالضرورة إلى النسبيَّة بموجب تنوُّع طبيعة محتوياتها، وليست غير صحيحة لهذا السبب ولكنَّها بالأحرى عرضيَّة محدودة قابلة للإحلال بغيرها، حتى أنَّ المرء لو حاول أن يضفي على المطلق تعبيرًا مطلقًا لما أمكن سوى أن يقول “الله واحد”، ويقول الصوفيَّة إن “التوحيد واحد”، ويقصدون بذلك أنَّ التعبير في حدود إمكانيَّاته لا بدَّ من أن يكون متوحِّدًا مع غايته[9].

 

وهكذا لا يُدرك المطلق في حدِّ ذاته لكنه يتبدَّى في وجود الأشياء، ولذلك يمكن القول بصورة مفارقة أنَّ اللَّانهائيَّة تتجلَّى في التنوُّع الذي لا ينتهي، وكذلك يتجلَّى الكمال في صفات الأشياء الكيفيَّة، إذ يبيِّن الزهد أمام المطلق في تجلِّي اللَّانهائيِّ، فالأمور تتبدَّى في تناغمها وهندستها[10].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – د. عبد الوهاب المسيرى: موسوعة اليهود واليهوديَّة، الجزء الأول، دار الشروق، القاهرة، 1999، ص59.  

[2] – ولد فريذوف شوان بمدينة بازل في سويسرا عام 1907، واعتنق الإسلام في السادسة عشرة من عمره، وحمل اسم الشيخ عيسى نور الدين. كتب ما يربو على العشرين مؤلَّفًا في الميتافيزيقا والتصوُّف، ولاقت مؤلَّفاته قبولًا منقطع النظير في القرن العشرين. من أعماله: عين القلب، العرفان حكمة ربانيَّة، المنطق والتعالي، لعبة الأقنعة، طرق الحكمة الخالدة، مقامات الحكمة، تحوُّلات الإنسان، الوحدة المتعالية للأديان، أحوال الإنسان وجذورها، كنوز البوذيَّة، الشمس المجنَّحة، الطريق الى القلب، المسيحيَّة والإسلام.

[3] – FrithjofSchuon: From The Divine to The Human، Survey of Metaphysics and Epistemology، Translated into English by Gustavo Polit and Deborah Lambet، World Wisdom Books، 1981، P15.

[4] -Ipid. P: 8

[5] – للمزيد من الإيضاح حول مفهوم المطلق النسبي، راجع مقالة حمادة أحمد علي- المطلق النسبي وغيريَّة الموجود- فصليَّة “الاستغراب” – العدد العاشر- شتاء 2018.

[6] -FrithjofSchuon: From The Divine to The Human p75.

[7] – FrithjofSchuon: the play of masks، world Wisdom Books INC، 1992، p45.

[8] – FrithjofSchuon: Sufism Veil and Quintessence، Translated from French by William Stoddart، world Wisdom Books INC،1981، p165.`

[9] -Valodia، D. Glossary of Terms Used by Frithjof Schuon،http://www.frithjof schuon.com/Glossary%20Schuon%20Revised.pdf،pp 3 -5.

[10] – علي، حمادة أحمد- المصدر نفسه.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد