علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (1)

ملخص إجمالي:

 

مسعى هذا البحث الذي بسطناه تحت عنوان “ميتافيزيقا المثنَّى”، هو التعرُّف على واحدة من أهمِّ وأبرز معضلات علم الوجود، عنينا بها الكيفيَّة التي قُورِبَ فيها إظهار الموجود الأول وظهور الكثرات الوجوديَّة منه. ولأنَّ مقتضى المسألة جلاءُ حقيقة هذا الموجود، فقد ابتنينا مسعانا على فرضيَّة وجود موجود بَدئي منه ظهرت الموجودات على تنوُّعها واختلافها وتكثُّرها الَّلامتناهي. وهذا البَدئيُّ هو ما سنمضي إلى نعته بـ “المثنَّى”، نظرًا لأنَّه الكائن الفريد الذي يجمع إلى فرادته خاصِّيَّة البساطة والتركيب في آن. وعليه سوف نكون تلقاء مَشكلٍ أنطولوجي يكشف عن اعتلالات تأسيسية في عالم الميتافيزيقا.

 

غالبًا ما مزجت الفلسفات غير الوحيانيَّة بين هذا الكائن والله، ومن ذلك نشأت معضلة المكوث المستدام في كهف السؤال عن ماهيَّته وكيفيَّة ظهوره ونسيان كونه موجودًا بالتبعيَّة لموجِده. وأمَّا الإنسان الذي هو نقطة الدائرة في حضرة المثنَّى، فإنَّما هو نظير الكون الأكبر الحاوي للموجودات كلِّها، وسيكون عليه أن يتولَّى تنجيز مهمَّته العظمى في الاستخلاف. ومبتدأ هذه المهمَّة ركنان متلازمان: توحيد الخالق وتوحيد المخلوقات. فإذا كان مقتضى الأول توحيد الخالق بتنزيهه عن الثنائيَّة والتركيب، فمقتضى الثاني توحيد الخَلق، وتدبير حاجاتهم على كثرتها وتنوُّعها واختلافها.

 

التمهيد إلى معنى المثنَّى:

 

المثنَّى موجود أزليٌّ دلَّ عليه الكلام الإلهيُّ بالخلق الأول.[1] وهذا الموجود المفطور على الزوجيَّة مؤلَّف من زوجين متَّحدين في واحد كلِّيّ. وهذا التوحُّد هو في طبيعته التكوينيَّة قائم على وحدة أضداد ينتظمُها تدافعٌ وتضادٌّ أبديَّان في ما بينها؛ وتلك سَيْريَّة جوهريَّة تحفظ تنامي المخلوقات وتجدُّدها المستدام. والمثنَّى زوجٌ ينثني كلٌّ من زَوْجَيه في نظيره ويتكاملان معًا. ولا ينأى ما تقصده العلوم الإلهيَّة في الزوجيَّة المؤسِّسة لعالم الخلق، عمَّا ذهبت إليه بعض مذاهب الحكمة القديمة باعتبار الزوجيَّة مبدأ تفسير الكون وفهم أسراره. من ذلك يمكن أن نستذكر على سبيل المثال، ثنائيَّة الأضداد وتعاقبها عند اليونان القدماء، أو ثنائيَّة الواحد وغير المتناهي عند الفيثاغوريين، أو عالم المُثُل عند أفلاطون… إلخ. لكن من المفيد الإشارة إلى أنَّ الثنويَّة التي قالت بوجود أصلين للوجود، ولكلٍّ منهما وجود مستقلٌّ في ذاته، ومن غير هذين الأصلين لا يمكن فهم طبيعة الكون[2].. إنَّما هي ثنويَّة تختلف جوهريًّا عن المثنَّى كمخلوق حاوٍ للمخلوقات ذات النشأة الواحدة[3].

 

الماهيَّة الأنطولوجيَّة للمثنَّى:

 

في المقام الأنطولوجيِّ ينفرد المثنَّى بما هو جوهر بَدئيٌّ للكون، بالقدرة على الربط بين الظواهر المتضادَّة التي يُتَوهَّم أنَّها منفصلة. فالتضادُّ في المثنَّى رابطة تماثل وتكامل وانسجام وهو نفيٌ للتناقض والتشظِّي. ذلك بأنَّ الحالتين المتضادَّتين إذا تتالتا، أو اجتمعتا معًا في المدرِك نفسه كان شعوره بهما أتمَّ وأوضح، وهذا لا يَصدُق على الإحساسات والإدراكات والصور العقليَّة فحسب، بل أيضًا على جميع حالات الشعور كالَّلذَّة والألم. وكما في التعريف الشائع، فإنَّ الأشياء تتميَّز بأضدادها، وقانون التضادِّ هو أحد قوانين التقابل (opposition) الذي يدلُّ على علاقة بين شيئين أحدُهما مواجِهٌ للآخر، أو علاقة بين متحرِّكين يقتربان سويَّة من نقطة واحدة، أو يبتعدان عنها. في المنطق، يأخذ التقابل وجهين: أحدهما تقابل الحدود، والآخر هو تقابل القضايا. فالمتقابلان في تقابل الحدود هما الَّلذان لا يجتمعان في شيء واحد، في زمان واحد[4]. ومن هنا نستطيع أن نستظهر التمايز الجوهريَّ بين وجهَيْ التقابل، حيث يستوي المثنَّى كقضيَّة تعرب عن الواحديَّة الحاوية للتعدُّد، وكنقيض للإثنينيَّة كما سيتبيَّن لاحقًا.

 

ثمَّة إذن، فارق تكوينيٌّ بين ماهيَّة المثنَّى المتأسِّسة على التناغم والانسجام الذاتيِّ، والإثنينيَّة المُنبَنِية على جدل الاختصام والتناقض. مؤدَّى الأطروحة: أنَّ كلَّ تناظرٍ بين متقابلين في الإثنينيَّة آيلٌ إلى التنابذ والفِرقة، بينما كلُّ الأشياء في حضرة المثنَّى محمولة على الانسجام والجمع؛ ذاك بأنَّ زوجيَّة المثنَّى لا تعمل إلَّا وفقًا لقانون التكامل، ولأنَّها كذلك فإنَّ سعيها نحو الوحدة يجري طبقًا لمبدأ الامتداد الجوهريِّ في الواحديَّة الجامعة للكثرة والتنوُّع. وعلى أساس هذا المبدأ الساري عبر الانسجام والتناسب بين أضداد المثنَّى لا يعود ثمَّة قطيعة في ما بينها، بل تكاملٌ، وتفاعلٌ في الآن نفسه. أمَّا مصطلح القطبيَّة فيقول بوجود ثنائيَّة أصليَّة لها قطبان متعارضان، في كلِّ شيء، ولكنَّهما متعاونان، ولا قيام لأحدهما من غير الآخر. ومن تضادِّهما، وتعاونهما تنشأ مظاهر الوجود وتستمرّ[5]. في النفس البشريَّة تجتمع ثنائيَّات خلَّاقة كامنة في أغوار النفس الإنسانيَّة. فالحياة غريزة واضحة الأثر في حركاتنا وسكناتنا، والموت غريزة ماثلة أمام أعيننا، والسواد والبياض موجودان جنبًا إلى جنب في الحياة، ويمكن القول: إنَّ مظاهر الحياة كلِّها هي نتيجة ذلك التجاذب بين قطبَي هذه الثنائيَّة[6].

 

يُستفاد ممَّا ذُكِر، أنَّ التحامًا جوهريًّا بين الأزواج قد حلَّ في حضرة المثنَّى. فلا يستطيع أيٌّ من عناصره أن ينفكَّ عن نظيره انفكاكًا تامًّا. هما من نفس واحدة، لكنْ لكلِّ فردٍ في الكثرة الأصليَّة نفسٌ فرعيَّة تدبِّر له أمره ويتدبَّر بها شأنه، إلَّا أنَّه لا يقدر على أن يبرح عالم الزوجيَّة والقوانين الكلِّيَّة التي تنتظمه. أمَّا الوجود الوحيد الذي لا ضدَّ له، بسبب تعاليه على الثنويَّة والمثنَّى في آن، هو ما يسمَّى أحيانًا الحقيقة الغائيَّة، أو الذات الإلهيَّة، أو المبدأ الإلهيّ. في حين أنَّ العمليَّة الخَلقيَّة أو فعل إيجاد العالم يستلزم التضادَّ بطبيعته. حتى في النظام الإلهيِّ الذي يكتنف فضلًا عن الذات المتعالية أو الواحد المطلق، هنالك توسُّطات- أو حسب التعبير العرفانيِّ الإسلاميِّ أسماء وصفات إلهيَّة – يمكن عن طريقها معاينة الكثرة، ونظام الضدِّية الذي تحتكم إليه.

 

ويجوز القول تبعًا لمبدأ التوسُّطات المشار إليها، أنَّ دائرة الأسماء والصفات الإلهيَّة هذه هي التي تنطلق منها مساحات النسبيَّة. ولذا، فإنَّ ظهور أشياء هذا العالم كافَّة، وهي الصادرة عن الأمر الإلهيِّ، إنَّما يتمُّ عن طريق أضدادها[7]. وبهذا، فالحياة في عالم الظهورات، أو في مرتبة التجلِّي، حياة سارية في عالم أضداد لا ترتفع إلَّا في الوجود الجامع للأضداد (Coincidentiaoppositorum). وعليه، فالأضداد في مرتبتها الوجوديَّة تتعارض في الغالب، وتفتقر إلى التحمُّل والتسامح حيال بعضها. ولهذا، لم يكن التسامح أو عدم التسامح مجرَّد أمور أخلاقيَّة، بل هي ذات بعد آفاقيٍّ، وهذه نقطة جرى التشديد عليها في التعاليم التراثيَّة الشرقيَّة التي أكَّدت أنَّ القوانين البشريَّة والنواميس الأخلاقيَّة غير منفصلة بعضها عن بعض. وعلى ذلك لا ينبغي النَّظر إليها على أنَّها مجرَّد خيار أخلاقيٍّ أو قيميٍّ، بل ينبغي اعتبارها حقيقة أنطولوجيَّة أيضًا. أي أنَّها ذات أصل وجوديٍّ حيث تتموضع الحقيقة الأخلاقيَّة في الحقيقة الأساسيَّة لنظام الخلق. إلَّا أنَّ الكثرات الموجودة في نشأة الظهور والتجلِّي، رغم توفُّرها على وجودات متلائمة ومتكاملة بعضها مع بعض، فإنَّ بعدها الصراعي يمكن ملاحظته في المتضادَّات السلوكيَّة، كالتضادِّ بين الصدق والكذب، والجمال والقبح، والخير والشرّ[8].

 

أمَّا بصدد مبدأ الضدِّيَّة في المعرفة العرفانيَّة، فإنَّ العُرفاء يربطون بين المعرفة العرفانيَّة (وهي هنا المشاهدة والكشف) ومفهوم الأضداد من جهة، وبين الدهشة أو الصدمة من جهة ثانية. ومثل هذا الربط عائد إلى حكمة نظام المثنَّى التي توفِّر الحقل الخصيب لتكامل الأضداد وانسجامها. فالمعرفة في الأدب العرفانيِّ بوجه عام، تحتمل الانتقال من إدراك مجال، إلى مشاهدة مجالٍ آخر مخالف له، وهي معرفة تتضمَّن الخروج أو الانتقال من «الظلمة العظيمة إلى النور العظيم»، ومن الغفلة المطلقة إلى الوعي المطلق. ويمكن لنا أن نتبيَّن في ما يلي، سِمَتين أساسيَّتين لمبدأ الضدِّيَّة في المثنَّى العرفاني:

 

السِّمة الأولى: أنَّ للمعرفة الصوفيَّة علاقة وثيقة بمفهوم الأضداد: فمشاهدة الحقيقة الإلهيَّة الحاضرة والقريبة والموجودة في كلِّ شيء- (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)[9] – تولِّد لدى الصوفيِّ قبولًا بفكرة الأضداد باعتبارها لحمة الوجود وأساسه، سواء على المستوى الأخلاقيِّ أم الوجوديِّ العامّ. ففي هذه المعرفة يتجلَّى التقابل الضدِّيُّ بين الخالق والمخلوق، وبين القديم والمُحدَث، وبين الثابت والزائل، وبين الخالد والفاني. والله تعالى جعل الأضداد كامنة في الأضداد: فجعل العلوَّ كامنًا في الدنوِّ، والعزُّ كامنًا في الذلِّ، إلى غير ذلك من الأوصاف العلويَّة مع الأوصاف السفليَّة…». فـ «الأشياء كامنة في أضدادها ولولا الأضداد لما ظهر المضادُّ كما يقول بعض العارفين»[10].

 

السِّمة الثانية: أنَّ الوعي بالأضداد في المعرفة الصوفيَّة يقتضي الشعور بالدهشة عند الوقوف على الحقيقة، أو الوقوف عند مرحلة التحقيق: وكلما كان الضدَّان متباعدين كان الالتقاء بينهما مصحوبًا بدهشة قويَّة من طرف العارف أو المتأمِّل. وهنا سنلاحظ أنَّ من العرفاء من ذهب بعيدًا في التمثيل بالدهشة الناتجة من التقاء الأضداد في تجربة الانتقال من الكفر إلى الإيمان. فالمشاهدة – كما يبيِّن العارف بالله ابن عجيبة الحسني – تتقوَّى لدى أهل الكفر الذين تابوا من كفرهم ورجعوا إلى مشاهدة الحقيقة الإلهيَّة أكثر من أهل الإيمان[11]. وهكذا، فإنَّ هذه الدهشة التي تميز المعرفة الصوفيَّة هي صيرورة دائمة تتواصل بتواصل المعرفة: فإذا كانت الدهشة هي بداية الفلسفة أو التفكير كما قيل، فإنَّ الدهشة في الفكر الصوفيِّ مصاحِبة للمعرفة منذ بدايتها وخصوصًا في غايتها. وعند إشارة ابن عجيبة إلى الفرق بين أنوار التوجُّه (الإسلام والإيمان) وأنوار المواجهة (الإحسان)، نراه يؤكِّد أنَّ الصوفيَّ السالك يتَّجه إلى إدراك نور «حلاوة المشاهدة وهو الروح، وهو أول نور المواجهة فتأخذه الدهشة والحيرة والسَّكرة: فإذا أفاق من سكرته وصحا من جذْبته وتمكَّن من الشهود… ورجع إلى البقاء، كان لله وبالله»[12].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]– انظر قوله تعالى: (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لَبسٍ من خلق جديد). سورة ق، الآية 15.

[2]– انظر: الحسن، عيسى: موسوعة الحضارات، الأهليَّة للنشر والتوزيع، الأردن، 2007-  ص 246.

[3]– انظر: الديوب، سمر– الثنائيَّات الضدِّية – المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيَّة – بيروت 2017- ص 15.

[4]– المصدر نفسه، ص 285.

[5]– انظر: حيدر، محمود: الفيلسوف الحائر في الحضرة، فصليَّة «الاستغراب»، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيَّة، العدد الخامس، السنة الثانية، بيروت، خريف 2016، ص 15.

[6]– الديوب، سمر- الثنائيَّات الضدِّيَّة – مصدر سابق – ص 17.

[7]– نصر، سيد حسين – جذور التسامح واللَّاتسامح – رؤى في المبادئ الميتافيزيقيَّة – مجلَّة «قضايا إسلاميَّة معاصرة» – العدد (28-29) – 2004.

[8]– نصر، سيد حسين – المصدر نفسه.

[9]– سورة البقرة- الآية 15.

[10]– الحسني، ابن عجيبة، الفتوحات الإلهيَّة في شرح المباحث الأصليَّة – الجزء الثاني- تحقيق: عاصم الكيالي- دار الكتب العلميَّة – بيروت – 2000، ص 144.

[11]– المصدر نفسه – ص 37.

[12]– الحسني، ابن عجيبة- وإيقاظ الهمم في شرح الحكم- المكتبة الثقافيَّة- بيروت- بالإشتراك مع مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – القاهرة – 1982- ج 1، ص 63.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد