
ذكر الإمام عليّ عليه السلام أن طول الأمل ينسي الآخرة. ومن البيّن أن اإانسان حين ينسى أن ثمة عالـمًا آخر سيصير إليه، فإنه يحصر جميع وجوه نشاطه في العمل لدنياه، ولا يتورع في عمله هذا عن سلوك أقبح الطرق الموصلة إلى حيازة المزيد من المال، والتمتّع بالمزيد من القوة، وهكذا يدفع طول الأمل إلى اتباع الهوى، الذي عرفه الإمام بأنه يصد عن الحق، فهو يحمل صاحبه على ركوب كل شيء في سبيل الوصول إلى ما يريد.
فإذا تمكن طول الأمل واتباع الهوى من نفس إنسان حملاه على طلب الدنيا على نحو جنوني يجعله خطرًا اجتماعيًّا، وعلى نسيان العمل للآخرة. في بعض الألوان الوعظية التي يحتويها القسم الوعظي من نهج البلاغة يحارب الإمام عليه السلام هذا الانحراف، ويدعو الغافلين عن مصيرهم إلى العمل له.
فإذا كان طول الأمل غرورًا خادعًا، وكان اتباع الهوى باطلًا، وكنّا نعلم بأنّ المصير هو الموت، وأننا سنصير بعد الموت إلى دنيا أخرى نجزى فيها بما قدمناه من أعمالنا: نثاب إن أحسنا ونؤخذ بجرائرنا إن كنا من ذوي الجرائر. وإذا كان هذا كله حقًّا فلماذا لا نقدم لأنفسنا ما نحرزها به غدًا، ونحن نعلم أننا حينذاك لا نملك أن نعمل شيئًا، فاليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل، ونحن نعلم أن الموت قد يلم بنا في أي لحظة، فلماذا التسويف؟
ومن البيّن أنه عليه السلام لا يدعو إلى ترك الدنيا وإنما يدعو إلى العمل للآخرة. وكأن الإمام يدعو إلى الجمع بين الآخرة والدنيا، فهو لا ينهى عن العمل للدنيا، وإنما ينهى عن الاستغراق في هذا العمل، بحيث ينسى الإنسان الآخرة ويقفر ضميره من الشعور بالله، وينقطع ما بينه وبين مجتمعه من أواصر الود والرحمة، وذلك كله يحول بينه وبين أن يبلغ المثل الأعلى في الإسلام.
قال عليه السلام: (فليعمل العامل منكم في أيام مهله (1) قبل إرهاق أجله (2)، وفي فراغه قبل أوان شغله، وفي متنفسه قبل أن يؤخذ بكظمه (3)، وليمهد لنفسه وقدومه، وليتزود من دار ضعنه لدار إقامته) (4).
وما نشك في أن هؤلاء الذين كان الإمام عليه السلام يدعوهم إلى العمل للآخرة قبل فوات الفرصة كانوا قومًا يقيمون الصلاة لأوقاتها، ويصومون رمضان، ويحجون البيت، فماذا كان يريد الإمام منهم غير هذا؟
نعم، إن هؤلاء كانوا يأتون كل هذا وزيادة، وقد يحسب السطحيون أن هذا وحده كاف لجعل الإنسان فاضلًا، ولكنه في ميزان الإمام أضعف الإيمان. فهؤلاء الذين كان يتوجه إليهم الإمام بكلامه هذا كانوا يصلون ويصومون، ويحجون البيت. ولكنّ القبلية كانت تعصف بهم عصفًا شديدًا. ولكنّ الأحقاد والمطامع كانت تدفعهم إلى التناكر فيما بينهم، وكانت تسل من أرواحهم كل خلق إنساني حميد.
ولكنّ سياسة معاوية كانت تستهويهم، فتحملهم على الخيانة وتحملهم على الرضا بالذلة، وتحملهم على أن يصيروا عبيدًا. ولكنّهم كانوا فرديين لا يأبهون للمجتمع ولا يحسبون لآلامه حسابًا. كانوا غرباء عن هذه الخلائق. ولذلك لم يرض عنهم الإمام، ولذلك استثارهم إلى العمل للآخرة قبل فوات الفرصة.
ولم يكن هذا العمل الذي أراده منهم صلاة ولا صومًا ولا حجًّا، فتلك أمور كانوا يأتون بها، ولا يقعدون عنها. لقد كان العمل الذي أراده هو الفضيلة، هو أن يكون كل منهم خلية اجتماعية حية، تكدح في سبيل خير المجموع، هو أن يكونوا أحرارًا فلا تستعبدهم الشهوات، فتحملهم على الانحراف عن الحق، ولا تستعبدهم الحياة فتحملهم على الرضا بها مسفة حقيرة عارية من كل نبالة رفيعة وهدف عظيم. كان يريدهم أن يحطموا أصنام اللحم التي يعبدونها، أعني ساداتهم ورؤسائهم ومن له عليهم سلطان ليخلصوا العبادة لله وحده.
قال عليه السلام: (.. إن من عزائم الله في الذكر الحكيم التي عليها يثيب ويعاقب، ولها يرضى ويسخط، أنه لا ينفع عبدًا - وإن أجهد نفسه وأخلص فعله - أن يخرج من الدنيا لاقيًا ربه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها: أن يشرك بالله فيما افترض عليه من عبادته، أو يشفي غيظه بهلاك نفس، أو يعر (5) بأمر فعله غيره، أو يستنجح (6) حاجة إلى الناس بإظهار بدعة في دينه، أو يلقى الناس بوجهين، أو يمشي فيهم بلسانين، إعقل ذلك فإن المثل دليل على شبهه) (7).
وقال عليه السلام: (.. ولا ترخصوا لأنفسكم (8) فتذهب بكم الرخص فيها مذاهب الظلمة، ولا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعصية (9). عباد الله: إن أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه، وإن أغشهم لنفسه أعصاهم لربه، والمغبون من غبن نفسه (10)، والمغبوط من سلم له دينه (11)، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من انخدع لهواه وغروره. واعلموا أن يسير الرياء (12) شرك، ومجالسة أهل الدنيا منساة للإيمان (13) ومحضرة للشيطان (14). جانبوا الكذب فإنه مجانب للإيمان.. ولا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب، ولا تباغضوا فإنها الحالقة (15)، واعلموا أن الأمل يسهي العقل، وينسي الذكر، فأكذبوا الأمل فإنه غرور، وصاحبه مغرور) (16).
في كل هذا لا يدعو الإمام إلى ترك الدنيا والانعتاق من أسرها، وإنما يدعو إلى تناولها برفق، ويدعو الناس إلى أن يكونوا كائنات سامية، تجمع الدنيا إلى الآخرة، فلا تمعن في تلك إمعانًا يلهيها عن الاستعداد لهذه، ولا تغرق في هذه إلى حد يعطل فيها شخصية الإنسان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المهل: المهلة والفسحة.
(2) إرهاق الأجل: أن يقرب الأجل، فلا يبقى للمفرط فرصة يتدارك بها ما فاته من العمل.
(3) الكظم - بالتحريك - الحلق، أو مخرج النفس. والأخذ بالكظم كناية عن التضييق عند قرب الأجل أو حلوله.
(4) نهج البلاغة، رقم النص: 84.
(5) يعر: يعيب ويلطخ، أي أن من أعظم الجرائم أن يعيب الإنسان غيره بأمر قد فعله هو.
(6) يستنجح: أي يطلب نجاح حاجته من الناس بالابتداع في الدين.
(7) نهج البلاغة، رقم النص: 151.
(8) أي لا تسامحوا أنفسكم في ترك المعصية، ولا تستهينوا لصغائر الذنوب، لأن ذلك يصير عادة لكم فتقعوا فيما وقع فيه الظلمة من الاستهانة بالجرائم.
(9) المداهنة: النفاق، وإظهار خلاف ما في الباطن. والإدهان مثله.
(10) المغبون: المخدوع.
(11) المغبوط: الذي نال نعمة استحق بها أن تتطلع النفوس إليه، وأن ترغب في نيل مثل نعمته.
(12) الرياء. أن تعمل ليراك الناس، وقلبك غير راغب في العمل.
(13) منساة للإيمان. موجبة لنسيان الإيمان، والغفلة عنه.
(14) محضرة للشيطان. مكان لحضوره.
(15) فإنها الحالقة. فإن المباعظة الحالقة، أي الماحية لكل خير وبركة.
(16) نهج البلاغة، رقم النص 84.
فدك وأئمة الهدى (عليهم السلام)
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
دعوة إلى التوازن بين الدّنيا والآخرة
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
ميتافيزيقا العلم الذكيّ (3)
محمود حيدر
معنى (نكف) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
الدوبامين يجعل الناس أطول صبرًا وأقل اندفاعيةً وأقوى على مقاومة الإغراءات الآنية
عدنان الحاجي
العقل العلمي والأخلاقي في القرآن الكريم
الشيخ شفيق جرادي
تحديد دلالة آية بيعة الرضوان تحت الشجرة (2)
الشيخ محمد صنقور
ادرس خطتك قبل الانطلاق
عبدالعزيز آل زايد
من هو المنتظِر الواقعي للإمام؟
السيد عباس نور الدين
العلم المقصود للعمل
الفيض الكاشاني
واشٍ في صورة حفيد
حبيب المعاتيق
السيدة الزهراء: حزن بامتداد النّبوّات
حسين حسن آل جامع
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
فدك وأئمة الهدى (عليهم السلام)
دعوة إلى التوازن بين الدّنيا والآخرة
ميتافيزيقا العلم الذكيّ (3)
معنى (نكف) في القرآن الكريم
الدوبامين يجعل الناس أطول صبرًا وأقل اندفاعيةً وأقوى على مقاومة الإغراءات الآنية
(حرّيّة مكبّلة) مجموعة قصصيّة للكاتبة الرّاحلة سهام الخليفة
العقل العلمي والأخلاقي في القرآن الكريم
فعاليّات اليوم العالميّ للطّفل في أمّ الحمام
النّصير، ونعم النّصير، وخير النّاصرين في القرآن الكريم
تحديد دلالة آية بيعة الرضوان تحت الشجرة (2)