وانبرى الفتح قائلاً: "جعلت فداك، وغير الخالق الجليل خالق؟".
فأجابه الإمام (عليه السلام): "إن الله تبارك وتعالى يقول: (تبارك الله أحسن الخالقين) فقد أخبر أن في عباده خالقين منهم عيسى بن مريم خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فصار طائرًا بإذن الله، والسامري خلق لهم عجلاً جسدًا لهخوار...". واعترض الفتح على الإمام قائلاً: "إن عيسى خلق من الطين طيرًا دليلًا على نبوته، والسامري خلق عجلًا جسدًا أنقض نبوة موسى (عليه السلام)، وشاء الله أن يكون ذلك كذلك؟ إن هذا لهو العجب!!.
وأجابه الإمام ببالغ الحجة قائلًا: "يا فتح إن الله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم وإرادة عزم، ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، أوما رأيت أنه نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة، وهو يشاء ذلك، ولو لم يشأ لم يأكلا، ولو أكلا لغلبت مشيئتهما مشيئة الله وأمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل، وشاء أن لا يذبحه، ولو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله عز وجل...".
وفنّد الإمام (عليه السلام) شبهة الفتح، وذلك بتقسيمه إرادة الله تعالى إلى قسمين: إرادة عزم، وهي الإرادة التشريعية التي يسميها علماء الكلام، وهي عبارة عن أوامر الله تعالى ونواهيه لعباده التي فيها توازنهم وصلاحهم في سلوكهم في هذه الحياة، ولا يستحيل فيها تخلف المراد عن الإرادة، فقد يطيع العبد وقد يعصي.
القسم الثاني من الإرادة وهي الإرادة الحتمية التي يسميها المتكلمون بالإرادة التكوينية ويستحيل في هذه الإرادة أن يتخلف عنها المراد فإنه تعالى إذا قال للشيء كن فيكون، وقصة آدم وإبراهيم (عليهما السلام) إنما هي من النوع الأول من الإرادة... وقد بهر الفتح بكلام الإمام وراح يقول: فرجت عني فرج الله عنك غير أنك قلت: السميع البصير هل هو سميع بالإذن بصير بالعين؟
فأجابه الامام: إنه - أي الله - يسمع بما يبصر ويرى بما يسمع بصير لا بعين مثل عين المخلوقين وسميع لا بمثل سمع السامعين لكن لما لم يخف عليه خافية من أثر الذرة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء تحت الثرى والبحار قلنا: بصير لا بمثل عين المخلوقين، ولما لم يشتبه عليه ضروب اللغات، ولم يشغله سمع عن سمع قلنا: سميع لا مثل سمع السامعين...".
وأزاح الإمام (عليه السلام) الشبهة عن الفتح، وأوضح له أن بصر الله تعالى وسمعه ليسا على غرار سمع الإنسان وبصره. وطفق الفتح يقول للإمام: "جعلت فداك بقيت مسألة؟". "هاتها...". " قلت: يعلم القديم، الشيء، الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون؟...".
فقال (عليه السلام): "أما سمعت الله يقول: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (1) وقوله: (ولعلا بعضهم على بعض) (2) وقال: يحكي قول أهل النار: (أخرجنا نعمل صالحًا غير الذي كنا نعمل) (3) وقال: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) (4) فقد علم الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون...".
وبهر الفتح بعلم الإمام (عليه السلام) وإحاطته بهذه المسائل الكلامية المعقدة، وقد حاول أن يقبل يد الإمام ورجله، فلم يمكنه من ذلك فقبل رأسه الشريف، وخرج وهو جذلان مسرور لأن الإمام أزال عنه ما يختلج في نفسه من الشكوك والأهام (5). وقد أحاط الإمام (عليه السلام) في حديثه مع الفتح بكثير من قضايا التوحيد، وأوضح الغوامض من مسائله.
حقيقة التوحيد:
وأدلى الإمام (عليه السلام) ببعض الأحاديث عن حقيقة التوحيد كان منها ما يلي:
1 - مسألة محمد بن يزيد عن التوحيد فأملى عليه ما يلي: "الحمد لله فاطر الأشياء إنشاء ومبتدعها ابتداء بقدرته وحكمته لا من شيء فيبطل الاختراع، ولا لعلة فلا يصح الابتداع، خلق ما شاء كيف شاء متوحدًا بذلك الإظهار حكمته، وحقيقة ربوبيته لا تضبطه العقول، ولا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأبصار، ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة وكلت دونه الأبصار، وضل فيه تصاريف الصفات احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور عرف بغير رؤية، ووصف بغير صورة، ونعت بغير جسم لا إله إلا الله الكبير المتعال...".
وحكى هذا الحديث الشريف القدرة البالغة للخالق العظيم الذي فطر الأشياء، وأنشأها لا من شيء، ولا من مثال سبقها فسبحانه ما أعظمه لا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأوهام، ولا تحيط بكنه عظمته الألفاظ.
2 - وتشرف بمقابلة الإمام (عليه السلام) محمد بن عيسى بن عبيد فسأله الإمام: "ما تقول: إذا قيل لك أخبرني عن الله عز وجل شيء هو أم لا؟...".
فأجابه محمد جواب العالم الخبير قائلاً: "قد أثبت الله عز وجل نفسه شيئًا حيث يقول: (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم) (6) فأقول: إنه شيء لا كالأشياء إذ في نفي الشيئية عنه إبطاله ونفيه". واستحسن الإمام جوابه فقال له: "صدقت وأصبت".
وأضاف الامام قائلاً: "للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفي وتشبيه، وإثبات بغير تشبيه، فمذهب النفي لا يجوز، ومذهب التشبيه لا يجوز، لأن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شيء، والسبيل هي الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه..." (7).
قدرة الله:
سأل محمد بن عرفة الإمام (عليه السلام) السؤال التالي: "خلق الله الأشياء بالقدرة أم بغير القدرة؟...". (8). فأجابه الإمام: "لا يجوز أن يكون خلق الأشياء بالقدرة لأنك إذا قلت: خلق الأشياء بالقدرة فكأنك جعلت القدرة شيئًا غيره، وجعلتها آلة له بها خلق الأشياء، وهذا شرك، وإذا قلت: خلق الأشياء بقدرة، فإنما تصفه أنه جعلها باقتدار عليها وقدرة ولكن ليس هو بضعيف، ولا عاجز، ولا يحتاج إلى غيره".
ومعنى كلام الإمام (عليه السلام) أن الله تعالى قادر، وهذه الصفة عين ذاته، ولم يخلق الأشياء بقدرة خارجة عن ذاته، فإن جميع صفاته الكريمة عين ذاته حسب ما دلل عليه في علم الكلام. وقد أكد الإمام (عليه السلام) ذلك في كلامه "سبحان من خلق الخلق بقدرته، وأتقن ما خلق بحكمته، ووضع كل شيء منه موضعه بعلمه، سبحان من يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير". (9).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنبياء / آية 22.
(2) سورة المؤمنون / آية 91.
(3) سورة فاطر / آية 37.
(4) سورة الأنعام / آية 28.
(5) التوحيد (ص 60 - 65).
(6) سورة الأنعام / آية 19.
(7) التوحيد (ص 107).
(8) التوحيد (ص 130).
(9) التوحيد (ص 137).
إيمان شمس الدين
الشيخ باقر القرشي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ حسين الخشن
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ علي رضا بناهيان
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد مهدي الآصفي
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
التسارع والتباطؤ وإنتاج المعارف (4)
تحمّل المسؤوليّة، عنوان الحلقة الثّالثة من برنامج (قصّة اليوم)
ناصر الرّاشد: كيف يستمرّ الحبّ؟
من بحوث الإمام الرّضا (ع) العقائديّة (2)
الإمام الرضا (ع) والمواقف من النظام (2)
شيء من الحنين الرّضويّ
الإمام الرّضا: كعبة آمال المشتاقين
العلّة من وراء خلق الشّيطان والشّرّ
السّكينة والحياة السّعيدة
لماذا يأخذ المفسرون بكلام بعضهم؟