من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ باقر القرشي
عن الكاتب :
الشيخ باقر بن الشيخ شريف بن الشيخ مهدي بن الحاج ناصر بن الشيخ قاسم بن الشيخ محمد بن الشيخ مسعود بن عمارة القرشي .rn عالم عراقي بارز، و كاتب و محقق متخصص في التاريخ الإسلامي وسيرة المعصومين عليهم السلام.rn ولد عام 1344 هـ في النجف الأشرف / العراق .rn التحق بالحوزة العلمية في النجف الأشرف فدرس الفقه و الأصول و العلوم الإسلامية فتخرج منها برتبة عالية .rn من أساتذته: آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره، آية الله العظمى السيد محسن الحكيم قدس سره.rn مؤلفاته تجاوزت السبعين منها: حياة الرسول الأعظم (٣ مجلدات)، موسوعة حياة اهل البيت (٤٢ مجلداً).rn توفي يوم الأحد 26 رجب سنة 1433 هـ في النجف الأشرف فصلى عليه المرجع الديني السيد محمد سعيد الحكيم قدس سره .rn دفن في مكتبته الخاصة ( مكتبة الامام الحسن عليه السلام ) في النجف الأشرف عصر يوم الأثنين الموافق 18/6/2012.rn

من بحوث الإمام الرّضا (ع) العقائديّة (1)

خاض الإمام الرضا (عليه السلام) في بحوثه ومحاضراته الكثير من المسائل العقائدية ونفى ما يحوم حولها من الشبه والأوهام التي أثارها الحاقدون على الإسلام والجاهلون بأحكامه، ومنها:

 

1 - قضايا التوحيد

 

أثيرت كثير من التساؤلات حول قضايا التوحيد أجاب عنها الإمام (عليه السلام)، وفند ما ألصق بها من شكوك وأوهام وكان من بينها ما يلي:

 

أ - استحالة المعرفة الكاملة بذات الله.

 

إن من المستحيل أن يوصف الله تعالى بصفة تلمّ بحقيقة ذاته المقدسة وقد انبرى أبو هاشم الجعفري، وهو من أعلام عصره في فضله وعلمه وتقواه فقال للإمام الرضا (عليه السلام ):

 

"هل يوصف الله ؟" وقد أراد بذلك الوقوف والإحاطة بمعرفة الله فاجابه الإمام (عليه السلام ):

 

"أما تقرأ القرآن؟".

 

"بلى . . .".

 

وأحال الإمام عليه الجواب على كتاب الله تعالى فقال:

 

"أما تقرأ قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار).

 

وأسرع أبو هاشم قائلاً:

 

"ما هي . . ."

 

وأجاب أبو هاشم عما يعرفه عن الأبصار قائلاً:

 

"أبصار العيون . . ."

 

فأنكر الإمام (عليه السلام) ذلك قائلاً: "إن أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون، فهو لا تدركه الأوهام، وهو يدرك الأوهام . . .". (1).

 

إن نظرة العقل أوسع، وأكثر شمولاً من رؤية البصر، وإن العقل بجميع مدركاته وتصوراته أيضًا محدود، ولا يمكن أن يحيط علما بمعرفة ذات الله تعالى.

 

ب - استحالة رؤية الله:

 

من المستحيل رؤية الله تعالى، وقد شاع في بعض أوساط ذلك العصر أن النبي محمدًا (صلى الله عليه وآله)، قد رآه وقد خف كل من إبراهيم بن محمد الخزاز، ومحمد بن الحسين إلى الإمام الرضا (عليه السلام) يسألانه عن ذلك وقالا له: "إن محمدًا رأى ربه في صورة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة؟ . . .". وأسندا هذه المقالة إلى جماعة من أعلام الشيعة، وأنهم قالوا: إنه تعالى أجوف إلى السرة، والبقية صمد، ولا شبهة أن ذلك مدسوس عليهم ولا علاقة لهم بهذه المنكرات، واضطرب الإمام حينما سمع هذه الأباطيل، وخرّ ساجدًا لله تعالى، وجعل يخاطبه بتذلل وخشوع:

 

"سبحانك ما عرفوك، ولا وحدوك، فمن أجل ذلك وصفوك، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك، سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم أن يشبهوك بغيرك. اللهم لا أصفك إلا بما وصفت به نفسك، ولا أشبهك بخلقك، أنت أهل لكل خير، فلا تجعلني من القوم الظالمين. . .".

 

ثم التفت (عليه السلام) إليهم فقال: "ما توهمتم من شيء، فتوهموا الله غيره. . .".

 

يعني أن كل ما يتوهمه الإنسان، ويتصوره بالنسبة إلى ذات الله تعالى، فليتصور بأن الله تعالى غير الذي تصوره ثم التفت إلى محمد بن الحسين فقال له: نحن آل محمد النمط الأوسط الذي لا يدركنا الغالي ولا يسبقنا التالي، يا محمد إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين نظر إلى عظمة ربه كان (ص) في هيئة الشاب الموفق وسن أبناء ثلاثين سنة؟!! يا محمد عظم ربي عز وجل أن يكون في صفة المخلوقين.

 

وانبرى محمد بن الحسين قائلاً: "من كانت رجلاه في خضرة؟".

 

فأجابه الإمام: "ذاك محمد كان إذا نظر إلى ربه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب، حتى يستبين له ما في الحجب، إن نور الله منه أخضر ومنه أحمر، ومنه أبيض، ومنه غير ذلك، يا محمد ما شهد له الكتاب والسنة فنحن القائلون به" (2).

 

ج - نفي الشبه عن الله:

 

ونفى الإمام (عليه السلام) جميع ألوان الشبه، والصور عن الله تعالى، وذلك في حديث جرى بينه وبين الفتح بن يزيد الجرجاني، وهو في طريقه إلى خراسان، فقد قال الإمام (عليه السلام) له: "يا فتح من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فقمين أن يسلط عليه سخط المخلوقين، وإن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطوات أن تحده، والأبصار عن الإحاطة به. جل عمّا وصفه الواصفون، وتعالى عما ينعته الناعتون، نأى في قربه، وقرب في نأيه فهو في بعده قريب، وفي قربه بعيد، كيف الكيف، فلا يقال له: كيف، وأين الأين فلا يقال له أين، إذ هو مبدع الكيفوفية، والأينونية.

 

يا فتح كل جسم مغذي بغذاء إلا الخالق الرازق، فإنه جسم الأجسام، وهو ليس بجسم، ولا صورة، لم يتجزأ، ولم يتناه ولم يتزايد، ولم يتناقص، مبرأ من ذات ما ركب في ذات من جسمه (3) وهو اللطيف الخبير، السميع البصير، الواحد الأحد الصمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، منشئ الأشياء، ومجسم الأجسام، ومصور الصور، لو كان كما يقول المشبهة لم يعرف الخالق من المخلوق، ولا الرازق من المرزوق، ولا المنشئ من المنشأ لكنه المنشئ، فرق بين جسمه وصوره، وشيئه وبينه إذ كان يشبهه شيء.

 

وانبرى الفتح قائلاً: "الله واحد، والإنسان واحد فليس قد تشابهت الواحدانية؟

 

وفنّد الإمام هذه الشبهة قائلاً:

 

أحلت - أي أتيت بالمحال - ثبتك الله إنما التشبيه في المعاني فأما الأسماء فهي واحدة (4) وهي دالة على المسمى وذلك أن الإنسان وإن قيل واحد فإنه يخبر أنه جثة واحدة وليس باثنين والإنسان نفسه ليس بواحد لأن أعضاءه مختلفة غير واحدة وهو أجزاء مجزأ ليس سواء، دمه غير لحمه ولحمه غير دمه وعصبه غير عروقه وشعره غير بشره وسواده غير بياضه، وكذلك سائر جميع الخلق، فالإنسان واحد في الاسم لا واحد في المعنى. والله جل جلاله واحد، لا واحد غيره، ولا اختلاف فيه ولا تفاوت، ولا زيادة ولا نقصان، فأما الإنسان المخلوق المصنوع المؤلف من أجزاء مختلفة وجواهر شتى غير أنه بالاجتماع شيء واحد".

 

إن إطلاق الواحد على الله تعالى يغاير إطلاق الواحد على الإنسان، فإن الإنسان مؤلف من أجزاء مختلفة ومتباينة كالقلب والرئتين والعينين والكليتين وغيرهما من الخلايا والأعضاء، وباجتماعها أطلق عليها الواحد أما بالنسبة إلى الخالق العظيم تعالى فإنه لم يكن مركبًا ولا مؤلفًا من عدة أجزاء مجتمعة كي يطلق عليه لفظ الواحد.

 

وقال الفتح: "فسر لي اللطيف، فإني أعلم أن لطفه خلاف لطف غيره للفصل. . .".

 

وأجابه الإمام (عليه السلام)

 

"يا فتح إنما قلت: اللطيف للخلق اللطيف، ولعلمه بالشيء اللطيف، ألا ترى إلى أثر صنعه - أي صنع الخالق العظيم - في النبات اللطيف وغير اللطيف، وفي الخلق اللطيف من أجسام الحيوان من الجرجس والبعوض وما هو أصغر منهما مما لا يكاد تستبينه العيون، بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الأنثى، والمولود من القديم، فلما رأينا صغر ذلك في لطفه، واهتدائه للفساد، والهرب من الموت، والجمع لما يصلحه بما في لجج البحار، وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار، وأفهام بعضها عن بعض منطقها، وما تفهم به أولادها عنها، ونقلها الغذاء إليها، ثم تأليف ألوانها، حمرة مع صفرة، وبياض مع حمرة، علمنا أن خالق هذا الخلق لطيف، وأن كل صانع شيء فمن شسء صنع، والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء. . .".

 

وحكى هذا المقطع الآثار المدهشة لبدائع خلق الله تعالى وذلك في خلقه لأجسام الحيوانات الصغار من الجرجس والبعوض وما هو أصغر منهما مما لا يتميز فيها الذكر من الأنثى فقد وهبها الله تعالى الإدراك فاهتدت إلى السفاد لبقائها واستمرارها على الأرض، كما وهبها الإدراك للفرار من الأخطار التي تواجهها فسبحان الخالق اللطيف، ومضافًا لذلك ما تتمتع به من الألوان الزاهية الجالبة للنظر، واتخاذها لحاء الأشجار والمفاوز والقفار مقرًّا وبيوتًا لها، إلى غير ذلك من ألطاف الله التي تحيط بها، فسبحان الخالق العظيم ما أعظم ألطافه على جميع الكائنات الحية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أصول الكافي 1 / 99.

(2) أصول الكافي (1 / 101 - 102).

(3) أي أنه تعالى منزه من ذوات الأشياء والأجزاء التي ركبها وجعلها في ذات من أوجده جسمًا.

(4) المراد أن التشبيه الذي ينفى عنه تعالى إنما هو في الحقائق لا في الأسماء والألفاظ فإنه يقع فيه وتعالى وفي غيره، فيصح إطلاق الواحد على الإنسان وعلى الله تعالى.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد