قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد جواد مغنية
عن الكاتب :
الشيخ محمد جواد مغنية، ولد عام 1322ﻫ في قرية طير دبّا، إحدى قرى جبل عامل في لبنان، درس أوّلاً في مسقط رأسه ثمّ غادر إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته الحوزوية، وحين عاد إلى وطنه، عُيّن قاضيًا شرعيًّا في بيروت، ثمّ مستشارًا للمحكمة الشرعيّة العليا، فرئيسًا لها بالوكالة. من مؤلّفاته: التفسير الكاشف، فقه الإمام الصادق(ع)، في ظلال نهج البلاغة، الفقه على المذاهب الخمسة، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، الإسلام والعقل، معالم الفلسفة الإسلامية، صفحات لوقت الفراغ، في ظلال الصحيفة السجادية، وسوى ذلك الكثير. تُوفّي في التاسع عشر من المحرّم 1400ﻫ في بيروت، ثمّ نُقل إلى النجف الأشرف، وصلّى على جثمانه المرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئي، ودُفن في حجرة 17 بالصحن الحيدري.

الصمت حكمة وقليل فاعله

روي أن لقمان الحكيم دخل على داوود، وهو يصنع الدروع، ولم يكن قد رآها من قبل، وهمّ أن يسأله، ثم رأى الصبر أجمل، ولما فرغ داوود لبس الدرع، وقال: نعم لباس الحرب. ففهم لقمان أن الدرع وقاية من الطعن والضرب، فقال: الصمت حكمة، وقليل فاعله.. وقدم العبد الصالح ثلاثة شواهد على هذه الحقيقة، وهي:

 

1 – {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها}. سار موسى وصاحبه على ساحل البحر، ولما وجدا سفينة طلبا من صاحبها أن يحملهما معه، فاستجاب.. ولكن ما إن توسطت في لجة البحر حتى خرقها العبد الصالح في مكان يمكن أن يتسرب الماء منه، ويتعرض من فيها للغرق، فذعر موسى من هذا المنكر و {قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} أي فظيعًا، وأخذ موسى ثوبه وحشا به الخرق على عهدة المفسرين {قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}.

 

يذكره بالشرط، وهو أن لا يسأله عن شيء، فاعتذر إليه موسى و {قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ} لأن النسيان لا يقتضي المؤاخذة {ولا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} لا تضيق عليّ في صحبتي لك.

 

2 – {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ}. ففزع قلب موسى من القتل و {قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}. ماذا جنى هذا المسكين؟ أتقتله متعمدًا دون أن يأتي بجناية؟ إن هذا هو المنكر بعينه. {قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}.

 

مرة ثانية يذكره بالشرط، وأيضًا مرة ثانية يعتذر موسى {قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي}. من قبل اشترط العبد الصالح على موسى أن لا يسأله، والآن يشترط موسى على نفسه أن يجعله في حل من صحبته إن سأله، والمؤمنون عند شروطهم، فكيف الأنبياء؟ {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً}. قطعت عليّ كل عذر أتعلل به.

 

3 – {فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ}. قيل: هي أنطاكية، وفي رواية عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): إنها الناصرة {اسْتَطْعَما أَهْلَها} طلبا منهم الطعام ضيافة {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما}. قال المفسرون: إنما قال: فأبوا أن يضيفوهما ولم يقل: فأبوا أن يطعموهما - للإشارة إلى أن أهل القرية كانوا لئامًا، لأنه لا يرد الضيف إلا لئيم، بخاصة إذا كان الضيف غريبًا (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ). ضمير فيها للقرية، وضمير فأقامه للعبد الصالح، ويريد هنا بمعنى يكاد، وكلّ من أراد وكاد تستعمل بمعنى الثانية، والمعنى أن موسى وصاحبه رأيا في القرية حائطًا أوشك على السقوط، فسوّاه الثاني وأصلحه بلا مقابل، فعجب موسى من ذلك و {قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً}.

 

أتصلح الجدار بالمجان لقوم أبوا ضيافتنا، ونحن في أمس الحاجة إليها؟ هلا طلبت أجرًا على عملك لننفقه في ثمن الطعام؟.

 

وخرق السفينة، وقتل الغلام مثالان على ما يبدو شرًّا في ظاهره دون باطنه، وإقامة الجدار مثال على العكس. {قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}.

 

اشترط العبد الصالح على موسى أن لا يسأل، وقبل موسى الشرط، ومع ذلك سأل، ولما ذكّر بالشرط اعتذر، ولكنه سأل بعد الاعتذار، ولما ذكّر ثانية قطع على نفسه عهدًا أن يجعل العبد الصالح في حل من صحبته إن سأل بعدها.. ولكنه سأل، وهو الحريص على أن يتخذه العبد الصالح صاحبًا.. وموسى (عليه السلام) معذور في كل ما سأل لأن نفسه تصبر على الخير والمعروف، أما ما تراه منكرًا فلا ولن تستطيع عليه صبرًا، حتى ولو أدى ذلك إلى مخالفة الوعد والشرط، وأي وزن للوعود والشروط إذا أدت إلى ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر..

 

إن الغرائز النفسية وغيرها لا تصدها وتقاومها إلا قوة أقوى منها وأصلب، ولا شيء أصلب من الإيمان الصحيح. إنه يتغلب على جميع الأهواء والشهوات، ومن تغلب عليه شيء منها فما هو من الإيمان الصحيح في شيء، وإن صلى وصام وحج إلى بيت اللَّه الحرام.

 

هذا فراق بيني وبينك.. لك طريق، ولي طريق.. هكذا قال لموسى صاحبه.

 

وقبل أن يفترقا أخبره العبد الصالح بحكمة ما أنكر {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]. والعاقل يتحمل الضرر لدفع ضرر أكبر، كما قال الشاعر «تحملت بعض الشر خوف جميعه». ومن هنا اتفق الفقهاء على أن الضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف، وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما، واستخرجوا من هذه القاعدة الكثير من الأحكام، منها جواز قطع العضو الفاسد إذا عرض صاحبه للهلاك.

 

{وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 80، 81] أي أرحم بهما وأبر، وروي عن الإمام جعفر الصادق (ع) أن الغلام كان في سن البلوغ، وكان كافرًا، وأنه كان يعمل جاهدًا لحمل أبويه على الكفر، تمامًا كما يفعل الآن بعض الشباب من غلمان هذا العصر.. وقد أدركنا أكثر من واحد من كبار العلماء بالدين كانوا محل الثقة والتقديس في جميع الأوساط، حتى إذا بلغ غلمانهم هدموا كلما بناه الآباء في السنين الطوال.. واشتهر عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: «ما زال الزبير معنا حتى أدرك فرخه عبداللَّه». ويقول أحمد أمين المصري في كتاب حياتي: ها أنا ذا في شيخوختي قد أقبل ما كنت أرفض، وقد أتنازل عن بعض المبادئ التي كنت ألتزم، للواسطة وأحاديث الناس وكثرة الأولاد.. ويعجبني قول القائل: عصيت هوى نفسي صغيرا وعندما * رماني زماني بالمشيب وبالكبر.... أطعت الهوى عكس القضية ليتني * ولدت كبيرًا ثم عدت إلى الصغر...

 

{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82]. المراد بالأشد الحلم والرشد، ويتلخص المعنى بأن الجدار هو لصغيرين، وتحته مال مدفون، فأراد اللَّه سبحانه أن يحمي لهما هذا المال، ويحفظه من الضياع ببقاء الجدار قائمًا حتى يكبرا أو يعقلا، فيستخرجا المال بأنفسهما، وقد كان أبوهما من أهل الصلاح «واللَّه يصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده» فأمرني ربي أن أصلحه ففعلت، هذا هو تفسير ما ثقل عليك فهمه والسكوت عنه.

 

ومكان العظة في هذه القصة أن لا يعجب المرء بنفسه، ولا يبادر إلى الحكم على الشيء حكمًا مطلقًا، وهو لا يعرف إلا جهة واحدة من جهاته، بل لا بد من ملاحظة جميع الجهات بدقة، ومقارنة بعضها مع بعض، ثم ملاحظة الأفضل منها، فإن المصالح والمضار متشابكة.. فما من أمر نافع إلا وفيه بعض الضرر، وما من أمر ضار إلا وفيه بعض النفع، والعبرة دائمًا بالأكثر.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد