علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

الاستغراب منسوخاً

 

محمود حيدر
تدعو هذه المقالة إلى استئناف الكلام عن الاستشراق، بمفاهيمه واختباراته القديمة والمستحدثة. و«الذريعة المعرفية» التي تحملنا إلى مقصد كهذا، تعود إلى دواعٍ أربعة:
الداعي الأول؛ إن الاستشراق لم يتوقف عند أطوار الحداثة التي حفرت مجراها بدءاً من القرن الرابع عشر الميلادي، ولما تنته إلى الآن. فهو فعل سارٍ ومتجدد، منذ أن تحيَّز الغرب كفضاء حضاري، ثم ليحمله تحيُّزه إلى الامتداد والتوسع في اتجاه شرق يتدرّع بوحيه وهويته وقدراته.
الداعي الثاني؛ أن قراءة الاستشراق من جانب نخب المسلمين، هي إجراء معرفي مفتوح ما دامت ثنائية "غرب- شرق" هي الحقل الذي منه تستولد الأفكار والمواقف وقوانين الاحتدام. ومن هذا الداعي كذلك، نجد ما يستحثنا، كعرب ومسلمين ومسيحيين شرقيين، لمعرفة ما تنبغي معرفته عن نظير يظهر علينا حيناً كساحر يأتينا بإغواءات الحداثة وأنوارها، وحيناً كمستعلٍ مسَّنا منه ضرُّ الغزو والاحتلال وأبوَّة الاستبداد.
الداعي الثالث؛ يدخل في مسعانا لتفكيك اللَّبس الذي تراكم في الوعي العربي- الإسلامي، حيال مقولة الاستشراق. ففي مسعى كهذا قد نفلح في التأسيس لنظرية معرفية ترسي قواعد فهم جديدة للذات الحضارية الإسلامية في تناظرها، أو اختصامها، مع الذات الحضارية الغربية، مما يوجب التساؤل عما لو تيسَّر لنا أن نكوِّن فهماً صائباً عن غرب أنتج أرقى أنواع الفنون والقيم والأفكار، وجاءنا في الوقت عينه بأبشع صنوف العنف والإيذاء والحروب الاستعمارية.
الداعي الرابع؛ في حقيقة أن للاستشراق المعرفي نباتاً شرقياً، ذلك أن المستشرق سيجد من يناظره من أبناء الشرق في كلماته وأفهامه ومنطقه، إما بالإقناع أو بالإغواء أو بالفرض. وهو ما نعنيه بالاستغراب، حيث نما المستغرب المشرقي كنظير للمستشرق الغربي وكامتداد محلي له.


الفكر الاستغرابي - الذي نقصده لوصف أحوال شطر وازن من مثقفي العالم الإسلامي - هو فكر أنتجته الدهشة والانفعال، ووسَّعته الترجمة، ورسَّخته الهيمنة، ورضيت به نخب المجتمعات العربية والإسلامية سبيلاً لفهم ذاتها وغيرها، فضلاً عن فهم العالم.
ما فعله الاستشراق، أنه أنشأ الاستغراب على كلماته ورؤياه، من دون أن يُحِلَّ روحَه فيه، فلقد أبقاه مستغرِباً حيال كل ما له صلة بعالم المفاهيم والأفكار. والنتيجة أن الشرق ظل دائماً برّانياً في عقل الغرب، وشريكه الضعيف في آن. حتى أن كثيرين من الدارسين الغربيين، لم يروا إلى الحركات الفكرية في الشرق إلا كظلٍ صامتٍ ينتظر من يهبه الحياة، ما أفضى إلى واقعة معرفية قوامها حضور المستشرق في الشرق حضوراً مطلقاً، في مقابل غياب الشرق في فكر المستغربِ غياباً مطلقاً. ولأن الاستغراب هو الوجه الآخر للاستشراق، فقد ضيَّع سمتَه الخاص وفَقَد هويته...
ولو كان لنا من توصيف يوَحِّد معنى الاستشراق، بعد ارتحال مديد من الإجراءات التفسيرية، لقلنا إنه فهم الغرب للشرق، من دون أن تكون للشرق حرية التعريف بنفسه كما هي في الواقع. كان للغرب شغف التعرّف على شرقٍ لم يعد، عند غروب القرن الثامن عشر، مجرّد نظير جهوي له.. بل كان بالنسبة إليه، جغرافيا مسكونة بالأسرار، ثم وجد أن لا مناص له من تحرّي ما تثيره الدهشة التي ينطوي عليها.
فأنَّى ذهبت التفسيرات لجلاء الأسباب المعرفية التي دفعت النخب الغربية إلى مثل هذا التحرِّي، فليس من العقلانية، أن تُحمل الظاهرة على محمل البراءة، ذاك أننا لسنا إزاء إجراء معرفي منقطع الصلة عن تحولات الحداثة وتدفقها إلى خارج فضائها القومي.
من هذا النظر لا يعود الاستشراق مجرد حقبة تاريخية ولدت كفائض قيمة للحداثة الإمبريالية، وإنما هو ظاهرة مركبة من المعرفة والهيمنة وقد صُبَّتا في وعاء واحد.. لقد استطاع الغرب أن يتجاوز أزماته الحضارية من خلال إعلائه من شأن النقد، فقد عكف على نقد كل عيب لديه من أجل أن يرمِّم ما فَسد في تاريخه. لكن الاستشراق لم يكن في حاجة على ما يبدو إلى مثل هذا النقد، إلا إذا تعلّق الأمر بتصحيح المهمات التي أوكلها إلى نفسه.
ولذا فرغم ما ظهر به عمله، وكأنه نسق مستقل بذاته، إلا أنه لم يكن بمنأى عن الاستراتيجيات العليا لموطنه الأصلي. فإنه في أطوار زمانية ومكانية مختلفة، سيفارق مدَّعاه الاستقلالي، ليؤدي مهمة ذات وجهين: الأول، تظهير العقلانية بما هي شأن ذاتي جوهري لماهية الغرب. والثاني، رؤية الشرق تبعاً لعقل الغرب ومعاييره الصارمة.. ثم إعادة توليد صورة المشرق على نحو يجعل نُخَبَه ومثقفيه، غافلين عما هم عليه في واقع أمرهم.
لو قصرنا وجهة الاستشراق على كونها وظيفة إيديولوجية للسلطة الإمبريالية، فلربما سهونا عن الكثير من مواطن الخلل. فالمسألة تتعدى السياسي المباشر لتصل إلى طبقات أعمق غوراً.

 

وهي في الوقت عينه، متّصلة اتّصالاً موثوقاً بالغاية العليا لتوجهات الحداثة ورحلتها الكولونيالية نحو الشرق. ومن باب أولى ونحن نستجمع أسباب اللهفة الأوروبية على الثقافة العربية - أن نعود بذاكرتنا لنرى إلى الدافع الذي آل بالإسبان إلى العدول عن السيف نحو الكلمة، من أجل درء الخطر الذي شكّله الفتح الإسلامي بداية.
ومن بعده الموحدون الذين أثاروا بانتصاراتهم المتكررة حفيظة الكنيسة. أما النتيجة فكانت ولادة فكرة ترجمة القرآن، للتعرّف على الطبيعة الروحية والفكرية للخصم. ولقد أصاب المستشرق الألماني يوهان فوك، حين شبّه حال الكنيسة وهي تتبنى الفكرة وتنفّذها، بحالة الدول النامية في وقتنا الراهن، إذ بات لزاماً عليها أن تخطو الخطوة الأولى، فتنفتحَ معرفياً على ثقافات وإيديولوجيات الدول المصنّعة والمتقدمة...
وهكذا فقد أطلقت ثقافة الغرب المسيحي في القرون الوسطى، مناخات قطيعة واختصام مع الإسلام، بلغت ذروتها مع الحروب الصليبية. والمشكلة التي لم تجد مستقراً سعيداً لها بعد، تتمثل على الإجمال، بتمدد وسريان ثقافة القطيعة والاختصام، حيث لا تنفك تداعياتها تعصف بعالمنا المعاصر. إذا كان لكل مقالة مناسبة ومقام، فمقالتنا هذه لا تتوخى الاسترجاع التكراري للكلام على الاستشراق. إن ما دعانا إلى هذا، فضلاً عما مرَّ من دواعٍ ودوافع، هو النقاش الذي يحتدم اليوم في المشرق الإسلامي حول ثنائية الإسلام والغرب.
وما ينطوي عليه هذا النقاش من تضمينات فكرية ومعرفية، ذات صلة وراثية وطيدة بالتأسيسات الأولى لمقاصد الاستشراق ومراميه حيال الإسلام. باقتضاب نقول: الاستشراق لا يزال راهناً.. إنه يتوغل إلى قلب الشرق وعقله بغية استيطانه..

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة