مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

حين لا نتقدم.. ما هي السنّة الإلهية التي قد تجري؟

تعيش الجماعات المسلمة في بلاد المسلمين حالات من التخلُّف المزري مقارنة بما هو مطلوب منها على صعيد تطبيق الإسلام والالتزام بقيمه. ربما لا نجد جماعة واحدة يمكن أن تدّعي أنّها طبقت الإسلام كما يجب.

 

يؤمن الجميع بضرورة التحرُّك التقدمي، حيث يعتقدون بأنّ التقدم يعني السير قدُمًا نحو تطبيق الإسلام كلّه في جميع شؤون الحياة، حتى لو اختلفت مشاربهم وتنوّعت مذاهبهم. هناك شعور عام بأنّنا بعيدون جدًّا عن روح الإسلام. لكن ما يزيد الطين بلّة هو ضعف وهشاشة التصوُّرات السائدة والمرتبطة بتبلور الوعي حول الوضع المطلوب أو الواقع المنشود (أو بالأحرى روح الإسلام).

 

قلما نجد من يقدر على تصوُّر هذا البعد الحضاري الذي يمثل الغاية القصوى لإقامة الدين في الحياة الأرضية. ويبقى السؤال فيما إذا كان بإمكان هذه الجماعة أو تلك أن تسير حقًّا على هذا الطريق التقدُّمي، فضلًا عن تصوُّر مضماره ورسم معالم طريقه!!

 

هناك علاقة وثيقة وسببية بين التعميق الفكري والتقدُّم. يمكن تشبيه القضية بالشجرة التي لا يمكن أن تكبر وتتوسع وتتفرّع أغصانها مالم تتعمق جذورها في الأرض. ففي غير هذه الحالة ستكون عرضة للسقوط والانهيار في أي لحظة.

 

إن أرادت أي حركة إسلامية أن تتألق على صعيد الأبعاد الحضارية وتحصيل الاقتدار اللازم للاستقلال والبقاء، لا مناص من أن تعمل على تعميق جذورها الفكرية. إدراك هذا الأمر صعبٌ جدًّا على من لم يكتشف العلاقة الوثيقة التي تربط بين الفكر والتقدُّم.

 

هناك جماعات مسلمة ازدهرت على صعيد الظواهر الحضارية من أمن واقتصاد وعمران لكنّها فاقدة للقدرة على التعمُّق؛ فمذاهبها وعقائدها مضادّة للتعمق الفكري من حيث البنية والمنهج. أما ما حققته على صعيد الظواهر فقصته معروفة، حيث اقتضت الصدف الاجتماعية السياسية أن توضع هذه الجماعة على هذا الطريق قهرًا. يُقال إنّ حسابات القوى المهيمنة على هذه المنطقة وجدت من الضروري منح مثل هذه الجماعات هذا النوع من الازدهار. ويومًا ما سيكون السقوط مدوّيًا ولا شك.

 

وهناك جماعات مسلمة تمتلك القابليات الفكرية للتعمُّق؛ مذاهبها لا تناهض التعمُّق ولا تحاربه، لكنّها قد تُصاب بنوعٍ من الجمود في هذا المجال. قد تُعجب وتتفاخر ببعض الإنجازات التي حققتها على هذا الطريق، فتراها كافية وتحسبها غاية المنى أو نهاية المطاف. وقد تعجز عن القيام بعملية الاستنباط الفكري الصحيح واستخراج التصوُّرات والرؤى التي ترشد الأتباع إلى الوضع المنشود.

 

هذا العجز في الفكر الاجتماعي عند المسلمين هو عجزٌ تاريخي مُزمن كان سمة بارزة في معاهدهم ومراكزهم العلمية. إن أردنا أن نبحث في العوامل التي أدّت إلى عجز علماء المسلمين عن تقديم ما يلزم من الفكر الاجتماعي الحضاري فسوف نحتاج إلى مجالٍ أوسع. لكن ما يمكن أن نراه بالبداهة هو أنّ افتقاد المسلمين إلى التصوُّر الواضح للوضع الذي يجب أن يحققوه أو الهدف الاجتماعي الذي يجب ان يتحركوا نحوه يُعد أحد أكبر عوامل تخلُّفهم وضعفهم.

 

الجماعات التي تمتلك قابلية التعميق الفكري وتجذير الأفكار هي التي يمكنها أن تقدّم مشروعًا حضاريًّا يليق بالإسلام ويقدر على المنافسة، بل تقديم البديل لكل البشرية.

 

ما أصاب بعض المسلمين في العصر الحديث هو الانخداع بما عندهم، مثلما حصل حين قارنوا أنفسهم بالغرب المنحل أخلاقيًا (أي ما له صلة بالعلاقات بين الجنسين) وكأنهم اختصروا القضية كلّها في هذا المجال. فكان يكفيهم للحكم على مثل هذا الصراع والمواجهة الشاملة واعتبار أنفسهم الأفضل والأعلى أن يشاهدوا الغرب من هذا المنظار فقط.. هل نفعنا ذلك؟ وهل استطعنا بعد مرور كل هذه العقود من تحقيق التفوُّق على أرض الواقع أم ما زال هذا الغرب المتوحش يُمعن فينا تنكيلًا وإذلالًا وتمزيقًا؟

 

جزءٌ كبير من تصوُّر المسلمين لهذه القضية لم يكن له أي علاقة بالدين؛ بل كان منطلقًا من أعراف وتقاليد. لو جرت مراجعة هذه العلاقات ودراستها بطريقة علمية لربما سرت هذه الذهنية إلى دراسة وفهم بقية أبعاد الحياة وشؤونها. أعتذر إن بدوت هنا كمن يسلب المسلمين آخر ما لديهم من عناصر تفوُّق.

 

لا شك بأنّ المسلمين أعادوا النظر في فهمهم للدين وذلك لأول مرّة بهذا العمق في العصر الحديث بعد صدمة الاستعمار التي لم يفيقوا منها لحدّ اليوم. النتيجة كانت ظهور عجز واضح عن الخروج بتفسيرٍ صحيح لعوامل تفوُّق الغرب وأسباب تخلُّفهم. كانت معظم أدبياتهم ـ التي أُدرجت تحت عنوان أدبيات النهوض ـ لا تتجاوز السطح وتركّز على سلبيات الآخر. ولا أقصد هنا تلك الشريحة من المفكرين المسلمين الذين كانوا مسلمين بالهوية وغربيين في التفكير، وإنما أتحدث عن الذين انطلقوا من نصوص الدين ومصادره الأساسية ومارسوا ما يشبه البحث العلمي الجاد.. أجل، كان الغالب على معظم مفكري النهضة نقد الذات والتركيز على سلبيات المسلمين، لكنّهم غالبًا ما نظروا إلى مشاكلنا وأزماتنا بعين الغرب ومنظاره وتفكروا باستعمال أدواته ومنهاجه. هؤلاء ليسوا مقصودين بالكلام هنا، بل تلك الفئة من أهل العلم الذين ينظر إليهم المسلمون على أنهم يمثلون الإسلام ومرجعيته.

 

لم تقدر معظم الشخصيات الدينية ذات المستوى الرفيع من تعميق نظرة المسلمين إلى الإسلام في بعده الحضاري وأهدافه الاجتماعية وموقعه العالمي، ما خلا بضعة أنفار تمت محاصرتهم بالسياسات والعصبيات والجهل. كان تأثير الشخصيات الدينية الرجعية كبيرًا وما زال.

 

عدم وضوح الخطوط الفاصلة بين الرجعية والتقدمية أدى إلى شعور الكثير من الشباب بالإشباع الديني الوهمي. في مثل هذه الحال تُقدّم لنا الشخصيات الرجعية الكثير من الأفكار التي قد تُشعرنا بالشبع، أو تملأ حياتنا بالعمل والمشاغل الدينية، حتى لو كانت الحصيلة أن نصبح في نهاية المطاف لقمة سائغة في فم أعدائنا.

 

الحركات الإسلامية التي تمتلك القابليات اللازمة لتقديم الأطروحة التقدُمية والسير على طريقها، كان يجب أن تعلم بأنها إذا لم تفعّل هذه القابليات من خلال البدء بعملية اجتهادية علميه واسعة؛ وبعبارةٍ أخرى، ما لم تتمكن من تحقيق التعمُّق الفكري بين أتباعها، قد تجري عليها سُنّة إلهية خاصة وهي أن يرسل الله عليها أعداءها ويسلّطهم عليها ليعاد تشكيلها من جديد، حتى لو تطلب الأمر القضاء على رموزها وزعمائها وتشكيلاتها وحكوماتها المترهلة والتي ربما أصبحت العامل الأول وراء الجمود والتوقُّف.

 

يُقال إنّ أوضاع بعض الجماعات المسلمة في بلادنا كانت قد وصلت من الجمود إلى حد أنها لو بقيت مئة سنة لما تغيّر فيها أي شيء. لم يكن هؤلاء الزعماء يمتلكون التصوُّر المطلوب عن الأوضاع المنشودة والغايات التي يُفترض أن تبلغها حركتهم التحررية، وقد آثروا الحفاظ على الأوضاع الحالية؛ لكن مشيئة الله تعالى قد تقتضي أن يعيش هؤلاء تجربة شديدة أو أن يواجهوا محنة عظيمة تضطرهم إلى إعادة النظر في كل شيء، والبدء مجددًا في البحث عن الأفكار المنجية. وفي ظل هذا البحث، ربما تشرع حركة فكرية جديدة تساعدهم على تعميق جذورهم والانطلاق مجددًا بقوّةٍ واندفاع غير مسبوق. بعض الأشجار لا تنمو في السنوات الأولى إلّا قليلًا، لأنّها تكون مشغولة بتعميق جذورها؛ وبعد هذه السنوات تفاجئ الجميع بسرعة نموها وتسبق الكل.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد