مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ حسين الخشن
عن الكاتب :
الشيخ حسين الخشن مواليد: ١٩٦٦م، أستاذ الدراسات العليا (البحث الخارج) في المعهد الشرعي في لبنان، وهو من أبرز تلامذة السيد محمد حسين فضل الله، وله العديد من الكتب المطبوعة والمقالات المنشورة.

ثمرات المودّة والتودّد

...... يغدو واضحاً وجلياً أهميّة المحبّة والمودة في بناء المجتمع المتماسك والمتضامن والمتكافل فحسب، بل وضرورة العمل على نشر وتعميم ثقافة المحبّة وكلّ القيم التي تماثلها في المعنى، فأي عاقل أو حكيم يريد للحياة الاجتماعية أن تعيش قدراً من الاستقرار والسلام فيفترض به أن يساعد على نشر قيمة المحبّة، مبتدئاً بنفسه ومن يلي أمورهم من الناس أو يدخلون في نطاق مسؤوليته، ثم ينطلق إلى الآخرين، وإليك توضيحاً لهذا الأمر:

 

المودّة قرابة ونسب 

 

اهتماماً بالمودّة والمحبّة التي تنشأ بين الأشخاص وحرصاً على بقائها واستمراريتها بسبب ما لها من آثار إيجابية طيّبة على الاجتماع الإنساني برمّته، فإنّ بعض الروايات قد نزلّتها منزلة النسب ومنحتها صفة القرابة، مع ما يتضمّنه ذلك من إعطاء بُعْدٍ جديد لمفهوم القرابة، ففي الحديث عن الإمام عليٍّ (ع): "ربَّ أخٍ لم تلده أمّك"[1]، إنّ ما يرمي هذا الحديث إلى تأكيده وبيانه هو: أنّ الصديق هو مَنْ تجده في الملمات إلى جانبك، مهتمّاً لأمرك ومتفاعلاً معك، هو أخ لك وإن لم تلده أمك، بينما الأخ الذي هو من أبيك وأمّك ولكنّه لا يهتمّ لأمرك ولا يبالي بما تعانيه فهو لا يحمل من مضمون الأخوة إلاّ الاسم، لأنّ تعاون الأخوة وتضافرهم هو من مقتضيات الأخوّة. 

 

وفي حديث آخر عنه (ع): "المودّة إحدى القرابتين"[2]. وعنه (ع): "المودّة نسب"[3].  وتذهب بعض النصوص إلى أبعد من ذلك حيث تؤكدّ على أنّ المودّة بين الأصدقاء المتحابين والمتآخين هي أكثر نفعاً من القرابة الخالية من العواطف، فربّما كان إخوان القرابة النسبية مؤذين ومزعجين لك ويقطعون رحمك، بينما إخوان المودّة الصادقة سيقفون لا محالة إلى جانبك ويمدّون لك يد العون عند الحاجة إليهم ويواسونك في الملمّات.

 

إنّ القرابة الخالية من وشائج المودّة لا قيمة لها، بل إنّها تؤلم قلب الغيور الذي يتوقع أن يرى قريبه الرحمي واقفاً إلى جانبه، وإذا به يراه - أحياناً - يكيد له ويضمر الحقد والحسد عليه، قال الشاعر:

 

 وظلْمُ ذوي القربى أَشدُّ مضاضةً   

على الحرِّ مِنْ وَقْعِ الحسامِ المُهَنَّدِ[4].  

 

توارث المودّة 

 

ومن أجمل ما أكدّت عليه بعض الأخبار الواردة في المقام أنّ المودّة التي تنشأ بين الآباء ينبغي أن يحفظها الأبناء، ويتوارثوها، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "مودّة الآباء قرابة بين الأبناء، والقرابة إلى المودّة أحوج من المودّة إلى القرابة"[5]، وهذا خُلُقٌ جميل ورائع، وهو من جهة يعبّر عن الوفاء للآباء والبرّ بهم والإخلاص لهم بحفظ صداقاتهم وعلاقاتهم، ومن جهة أخرى، فإنّه يوسّع من دائرة الصّداقة والأخوّة، وهذا في حدّ ذاته مقصد نبيل تهتّم الشريعة الإسلامية به، لِمَا له من نتائجَ طيّبةٍ على الاجتماع الإنساني برمته، وفي الحديث: كان أبو عبد الله عليه السلام إذا نظر إلى الفضيل بن يسار مقبلاً قال: {بشر المخبتين} [الحج 34]. وكان يقول: "إنّ فضيلاً من أصحاب أبي، وإنّي لأحبّ الرجل أن يحبّ أصحاب أبيه"[6].

 

وفي الخبر عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام قالا: "ينبغي للرجل أن يحفظ أصحاب أبيه، فإنّ برَّه بهم برُّه بوالديه"[7].  

 

المودة واكتساب الأصدقاء

 

ولعل أبرز وأوضح ثمرة للمودّة هي اكتساب الإخوان وكفى بذلك ثمرة، لأنّ اكتساب الأخوان ليس مجرد فضيلة يحثّ عليها الإسلام، وإنّما هو مغنم عظيم وحاجة ماسة لكل واحد من أبناء الإنسان، لأنّ الجنس البشري لا يمكنه الاستغناء عن الحياة الاجتماعية أو أن يعيش وحيداً، أو في عزلة عن بني جنسه، ومن هنا نجد تعاليم الأنبياء (ع) ووصايا الحكماء تدعو إلى التعارف والتلاقي والتزاور، وتحرّض على اكتساب الأصدقاء والأخوان، لأنّه كسب للإنسان، فعن عليٍّ (ع): "أنفع الكنوز محبّة القلوب"[8]. كما أنّ افتقاد الإخوان خسارة كبيرة وغربة موحشة، عنه (ع): "والغريب من لم يكن له حبيب"[9]

 

وثمّة وصايا وتعاليم إسلامية خاصة وعديدة حول كيفية التعامل مع الإخوان، وبيان حقوق الأصدقاء، وآداب الصّداقة، والحثّ على عدم تضييع الأصدقاء، فعن أمير المؤمنين (ع): "أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم"[10]

 

أجل، إنّ المودّة بين الأصدقاء لا يفترض ولا ينبغي أن تصل إلى مستوى يتجاوز فيه الأصدقاء كلّ الحدود أو ترتفع بينهم الحواجز كافّة بحيث ينكشف الصديق أمام صديقه انكشافاً تاماً، فهذا من سقم المودة، وقد تكون له نتائج غير طيبة على مستقبل الصداقة نفسها، وذلك بملاحظة أنّ ظروف الحياة قد تغيّر الصديق عليك، وربما يتحوّل إلى خصم لك، فيستغل ما يعرفه عنك من أسرار فيفضحك أو يبتزك أو ما إلى ذلك، وقد نبّه على ذلك الإمام علي (ع) فيما ورد عنه: "أحببْ حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"[11]

 

التودد نصف العقل

 

وبما أنّ المودّة تحتاج في الكثير من الأحيان إلى محفزّات وتهيئة أسباب ومقدّمات، يكون من المهم بمكانٍ العمل على تدريب النفس وحملها على مودة الآخرين، كما تؤكّد ذلك بعض الأحاديث الشريفة، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "التودّد نصف العقل"[12]. وفي حديث آخر عن رسول الله (ص): "التودّد نصف الدين"[13].

 

وليس المراد من التودّد هنا مخادعة الناس والتظاهر بالودّ لهم مع استبطان ما يغايره من الكراهية والحقد، وإنّما المراد به تعويد النفس وتدريبها على مودّة الآخرين ومغالبتها على ذلك، فالتودّد هو من قبيل التصبّر الذي يعني حمل النفس على الصبر، أو التحلّم الذي يعني حمل النفس وتدريبها على الحلم. وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "العلم بالتعلّم والحلم بالتحلّم.."[14]، والغرض من التودّد هو كسب الآخرين واستمالتهم وكسر الحواجز النفسيّة معهم، فهو يمثّل نوعاً من المداراة أيضاً، والمداراة هي سلوك أخلاقي راقٍ ورفيع، وهي لا تعني المداهنة أبداً كما قد يتخيّل البعض.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] عيون الحكم والمواعظ ص267.

[2] عيون الحكم والمواعظ ص 26.

[3] عيون الحكم والمواعظ ص 32

[4] هذا من قول طرفة بن العبد في معلقته، انظر: خزانة الأدب وغاية الإرب ص 191.

[5] نهج البلاغة ج4 ص73.

[6] رجال الكشي ج2 ص473.

[7] المصدر نفسه ج2 ص70.

[8] دستور معالم الحكم ومأثور مكارم الشيم ص 20.

[9] نهج البلاغة ج3 ص55.

[10] نهج البلاغة ج4 ص4.

[11] نهج البلاغة ج 4 ص 64، ونظير هذا المعنى مروي عن الإمام الصادق (ع)، فقد قال (عليه السلام): "لا يطّلع صديقك من سرّك إلاّ على ما لو اطّلع عليه عدوك لم يضرك، فإنّ الصديق ربما كان عدواً"، انظر: وسائل الشيعة ج 12 ص 174، الباب 102 من أبواب أحكام العشرة 6.

[12] نهج البلاغة ج4 ص34.

[13] تحف العقول ص 60، ورواه كذلك في البحار عن عيون أخبار الرضا(ع)، لكنّ الموجود في المصدر: "التوحيد نصف الدين"، انظر: ج2 ص38.

[14] انظر: كنز العمال ج 10 ص 239، وج 16 ص 254.

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد