مقالات

أسرار مآتمنا المختصّة بأهل البيت (عليهم السلام)

السيد عبدالحسين شرف الدين

 

علم الباحثون من مدقّقي الفلاسفة: أنّ في مآتمنا المختصّة بأهل البيت (عليهم السلام) أسراراً شريفة، تعود على الأمة بصلاح آخرتها ودنياها، أنبّهك إليها بذكر بعضها، وأُوكل الباقي إلى فطنتك:

 

فمنها: إنّها جامعة إسلامية ورابطة إمامية باسم النبي وآله (صلى الله عليه وآله)، ينبعث عنها الاعتصام بحبل الله عزّ وجلّ والتمسك بثقلي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفيها من اجتماع القلوب على أداء أجر الرسالة بمودّة القربى، وترادف العزائم على إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) ما ليس في غيرها.

 

وحسبك في رجحانها ما يتسنّى بها للحكيم من إلقاء المواعظ والنصائح، وإيقاف المجتمعين على الشؤون الإسلامية والأمور الإمامية ولو إجمالاً، وبذلك يكون أمل العاملي نفس أمل إخوانه في العراق وفارس والبحرين والهند وغيرها من بلاد الإسلام.

 

ولا تنسَ ما يتهيّأ للمجتمعين فيها من الاطلاع على شؤونهم، والبحث عن شؤون إخوانهم النائبين عنهم، وما يتيسر لهم حينئذ من تبادل الآراء فيما يعود عليهم بالنفع، ويجعلهم كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، أو كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو أنّت له سائر الأعضاء، وبذلك يكونون مستقيمين في السير على خطة واحدة يسعون فيها وراء كلّ ما يرمون إليه.

 

ومنها: إنّ هذه المآتم دعوة إلى الدين بأحسن صورة وألطف أسلوب، بل هي أعلى صرخة للإسلام توقظ الغافل من سباته، وتنبه الجاهل من سكراته، بما تشربه في قلوب المجتمعين، وتنفثه في آذان المستمعين، وتبثه في العالم وتصوره قالباً لجميع بني آدم، من أعلام الرسالة، وآيات الإسلام، وأدلّة الدين، وحجج المسلمين، والسيرة النبوية، والخصائص العلوية، ومصائب أهل البيت في سبيل الله، وصبرهم على الأذى في إعلاء كلمة الله.

 

فأُولوا النظر والتحقيق يعلمون أنّ خطباء هذه المآتم لهم دعاة إلى الدين من حيث لم يقصدوا ذلك، بل لا مبشر بالإسلام على التحقيق سواهم، وأنت تعلم أنّ الموظفين لهذا العمل الشريف لا يقصرون في أنحاء البسيطة عن الألوف المؤلّفة، فلو بذل المسلمون شطر أموالهم ليوظفوا دعاة إلى دينهم بعدد أولئك الخطباء ما تيسر ذلك لهم، ولو تيسر فلا يتيسر من يستمع الدعوة على ممر الدهور استماع الناس لما يتلى في هذه المآتم بكلّ رغبة وإقبال.

 

ومنها: ما قد أثبته العيان وشهد به الحس والوجدان من بثّ روح المعارف بسبب هذه المآتم، ونشر أطراف من العلوم ببركتها، إذ هي ـ بشرط كونها على أصولها ـ أرقى مدرسة للعوام، يستضيئون فيها بأنوار الحكم من جوامع الكلم، ويلتقطون منها درر السير، ويقفون بها على أنواع العبر، ويتلقون فيها من الحديث والتفسير والفقه ما يلزمهم حمله ولا يسعهم جهله، بل هي المدرسة الوحيدة للعوام في جميع بلاد الإسلام.

 

وقد تفنّن خطباؤها في ما يصدعون به أولاً على أعوادها، ثم يتخلصون منه إلى ذكر المصيبة وتلاوة الفاجعة.

 

فمنهم من يشنف المسامع ويشرف الجوامع بالحكم النبوية والمواعظ العلوية، أو يتلو أولاً من كلام أئمة أهل البيت ما يقرب المستمعين إلى الله ويأخذ بأعناقهم إلى تقواه.

 

ومنهم من يتلو أولاً من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وتاريخ أوصيائه (عليهم السلام) ما يبعث المستمعين على مودتهم ويضطرهم إلى بذل الجهد في طاعتهم.

 

ومنهم مَن ينبّه الأفكار أولاً إلى فضل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومقام أوصيائه (عليهم السلام) بما يسرده من الأحاديث الصحيحة والآيات المحكمة الصريحة.

 

ومنهم من يتلو أولاً من الأحكام الشرعية والعقائد الدينية ما تعمّ به البلوى للمكلفين ولا مندوحة عن معرفته لأحد من العالمين.

 

هذه سيرتهم المستمرة أيام حياتهم، فهل ترى بجدك للعوام مدرسة تقوم مقامها في جسيم فوائدها وعظيم مقاصدها؟ لا وسرّ الحكماء الذين بعثوا شيعتهم عليها وحكمة الأوصياء الذين أرشدوا أوليائهم إليها.

 

ومنها: الارتقاء في الخطابة والعروج إلى منتهى البراعة، كما يشهد به الوجدان، ولا نحتاج فيه إلى برهان.

 

ومنها: العزاء عن كلّ مصيبة، والسلوة لكلّ فادحة، إذ تهون الفجائع بذكر فجائعهم، وتنسى القوارع بتلاوة قوارعهم، كما قيل في رثائهم (عليه السلام):

 

أنست رزيّتكم رزايانا التي       

سلفت وهوّنت الرزايا الآتية

 

ومنها: إنعاش أهل الفاقة وإثلاج أكباد حرّى من أهل المسكنة على الدوام، بما ينفق في هذه المآتم من الأموال في سبيل الله عز وجل، وما يبذل فيها لأهل المسغبة وغيرهم، وأنت تعلم أنّه لا وسيلة لقراء تلك المآتم في التعيش غالباً إلاّ هذه الوظيفة، وهم من الرجال والنساء ـ بقطع النظر عمن يقومون بنفقته ـ أُلوف مؤلّفة يعيشون ببركة أهل البيت ويتنعمون بيمن مآتمهم (عليهم السلام).

 

ومنها: إن المصلحة التي استشهد الحسين ـ بأبي وأمي ـ في سبيلها وسفك دمه الزكي تلقاءها، تستوجب استمرار هذه المآتم، وتقتضي دوامها إلى يوم القيامة.

 

وبيان ذلك: إنّ المنافقين حيث دفعوا أهل البيت عن مقامهم، وأزالوهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله فيها، ظهروا للناس بمظاهر النيابة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأظهروا التأييد لدينه والخدمة لشريعته، فوقع الالتباس واغترّ بهم أكثر الناس، ولمّا ملكوا من الأمة أزمّتها واستسلمت لهم برمّتها، حرّموا ـ والناس في سِنة عن سوء مقاصدهم ـ من حلال الله ما شاؤوا، وحلّلوا من حرامه ما أرادوا، وعاثوا في الدين وحكموا في القاسطين، فسملوا أعين أولياء الله، وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبوهم على جذوع النخل، ونفوهم عن عقر ديارهم، حتّى تفرقوا أيدي سبًا، ولعنوا أمير المؤمنين (عليه السلام) وكنّوا به عن أخيه الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم).

 

فلو دامت تلك الأحوال، وهم أولياء السلطة المطلقة والرئاسة الروحانية، لما أبقوا للإسلام عيناً ولا أثراً، لكن ثار الحسين (عليه السلام) فادياً دين الله عز وجل بنفسه وأحبائه حتّى وردوا حياض المنايا، ولسان حاله يقول:

 

إن كان دين محمّد لم يستقم    

إلاّ بقتلي يا سيوف خذيني

 

فاستنقذ الدين من أيدي الظالمين، وانكشف الغطاء بوقوع تلك الرزايا عن نفاق القوم، حتى تجلت عداوتهم لله عز وجل وظهر انتقامهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

 

إذ لم يكتفوا بقتل الرجال من بنيه عطاشاً والماء تعبث فيه خنازير البرّ وكلابه، ولم يقنعوا بذبح الأطفال من أشباله أحياء وقد غارت أعينهم من شدّة العطش، ولا اكتفوا باستئصال العترة الطاهرة ونجوم الأرض من شيبة الحمد. حتى وطأوا جثثهم بسنابك الخيل، وحملوا رؤوسهم على أطراف الأسنة، وتركوا أشلاءهم الموزعة عارية بالعراء مباحة لوحوش الأرض وطير السماء.

 

ثم أبرزوا ودائع الرسالة وحرائر الوحي مسلبات، وطافوا البلاد بهنّ سبايا، كأنّهن من كوافر البربر، حتى أدخلوهن تارة علي ابن مرجانة، وأخرى على ابن آكلة الأكباد، وأوقفوهن على درج الجامع في دمشق حيث تباع جواري السبي. فلم تبق بعدها وقفة من عداوتهم لله، ولا ريبة بنفاقهم في دين الإسلام.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد