مقالات

العباس (ع): نافذ البصيرة

السيد محمد تقي المدرسي

 

مما تميز به أبو الفضل العباس - عليه السلام - العلم حتى جاء في حديث شريف : قد زقّ العلم زقًّا، وعلمه كان نابعًا من البصيرة واليقين .إن بصيرته جعلته يتمسك بعروة الولاية الإلهية، وإن صلابة إيمانه وصدق يقينه جعلاه لا يأبه بالحياة، فحينما جاء إليه شمر بن ذي الجوشن في اليوم التاسع من شهر محرم في تلك السنة بأمان من عند ابن زياد، وأراد أن يفرق بينه وبين أخيه، وكانت بين شمر وبين أبي الفضل العباس علاقة الخوئلة، لأن أم البنين كانت من تلك القبيلة التي ينتمي إليها الشمر بن ذي الجوشن، فجاء شمر حاملاً الأمان ودعى أبا الفضل وإخوته قائلاً: أين بنوا أختنا؟ سكت أخوة العباس احترامًا لأخيهم الأكبر، وسكت العباس احترامًا لإمامه، وحجة الله عليهم الحسين - عليه السلام -، وكرر شمر النداء وبقي أبو الفضل ساكتًا لا يجيبه، فقال الحسين - عليه السلام - لهم:

 

أجيبوه ولو كان فاسقًا. قالوا (لشمر): ما شأنك وما تريد؟ قال: يا بني أختي أنتم آمنون، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد فقال له العباس: لعنك الله، ولعن أمانك. تؤمّننا وابن رسول الله لا أمان له، وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟ فرجع الشمر مغضبًا.

 

انظروا إلى يقين العباس، ذلك اليقين الذي وصفه به الإمام الصادق - عليه السلام - حيث قال: كان عمنا العباس بن علي نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله، وأبلى بلاءً حسنًا، ومضى شهيدًا.

 

فالعباس - عليه السلام - كان يعرف أن الزمن يطوى بسرعة، وأن الحياة لا تبقى لأحد، وأن الأبدان قد خلقت للموت، فلم البخل بها عن الشهادة وهي أرفع وسام، وقد قال الحسين - عليه السلام -: وإن تكن الأبدان للموت أنشأت، فقتل امرء بالسيف في الله أفضل...

 

وهكذا حينما دخل المشرعة، واغترف الغرفة من الماء كانت كلمته رائعة حينما قال - عليه السلام -: والله ما هذا فعال ديني، ولا فعال صادق اليقين.... لقد كان أعظم ما في العباس - عليه السلام - يقينه، وهذا ما نقرأه في زيارته، لقد انفتحت بصيرة العباس منذ سن مبكر على حقيقة التوحيد، ولذلك تجده عندما يجلسه والده سيد العارفين أمير المؤمنين - عليه السلام - في حجره المبارك وهو صبي فيقول له:

 

قل واحد، فيقول واحد. فقال له: قل اثنين، فيمتنع قائلاً: إني أستحي أن أقول اثنين بلسان قلت به واحدًا.... بلى.. إن قلبه الذي وعى وحدانية الرب، كيف يسمح له بأن يقول اثنين؟

 

وكما يقين أبي الفضل، كذلك تسليمه لله كان في القمة، بلى إن صفة التسليم ناشئة حقيقة اليقين.... وكان من صفاته عليه السلام البطولة النادرة، وإنما حمل لواء الحسين - عليه السلام - لشجاعته النادرة، وبطولته العظيمة.

 

قال بعض الرواة إن العباس - عليه السلام - شارك في حرب صفين مشاركة فعالة، وقالوا: خرج من جيش أمير المؤمنين - عليه السلام - شاب على وجهه نقاب تعلوه الهيبة، وتظهر عليه الشجاعة يقدر عمره بـــ "17" سنة، فطلب المبارزة فهابه الناس، وندب معاوية إليه أبا الشعثاء فقال: إن أهل الشام يعدونني بألف فارس ولكن أرسل إليه أحد أولادي، وكانوا سبعة. وكلما خرج أحد منهم قتله حتى أتى عليهم فساء ذلك أبا الشعثاء وأغضبه، ولما برز إليه ألحقه بهم، فهابه الجميع، ولم يجرأ أحد على مبارزته، وتعجب أصحاب أمير المؤمنين من هذه البسالة التي لا تعدو الهاشميين، ولم يعرفوه لمكان نقابه. ولما رجع إلى مقره دعاه أمير المؤمنين وأزال النقاب عنه، فإذا هو العباس  عليه السلام.

 

والبطولة لا تعني مجرد منازلة الأقران، بل جملة صفات إنسانية سامية كالشهامة والإباء والتضحية والوفاء والمواساة. وهكذا كان العباس - عليه السلام -؛ انظروا كيف حارب، وكيف استشهد.

 

لقد استشهد العباس وهو يطلب الماء للعطاشى، وكان اهتمامه بالماء أكثر من اهتمامه بنفسه، فلم تكن غايته كشف العدو عن نفسه بقدر ما كانت غايته الاحتفاظ بالسقاء سالـمًا، لإيصاله إلى حيث العطاشى من أهل بيت الرسالة.

 

هذا هو الذي يجعلنا نقف إجلالاً لبطولته النادرة، بينما أعداؤه حاربوه بالغدر. لقد كانوا أجبن من مواجهته، حيث رشقوه بالسهام، ثم كمن له أحدهم من وراء نخلة واغتال يده. كانت الضربة مجرد فتك، وهكذا تتجلى شجاعة سيدنا العباس - عليه السلام - كما يتبين مدى جبن الطرف الآخر، وهو لم يزل يسعى لإيصال الماء إلى المخيم. هذه هي الشجاعة النادرة التي يقف التاريخ إجلالاً لها.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد