الإمام الخامنئي "دام ظلّه"
كيف واجه الإمام عليه السلام؟
والآن نشير إلى السياسة التي انتهجها الإمام الرضا عليه السلام إزاء تلك القضية:
1- عندما وجهت دعوة للإمام عليه السلام ليأتي إلى خراسان من المدينة فإنّه عليه السلام تصرّف بشكل عرف الناس معه أن المأمون يريد إبعاده رغماً عنه، حيث كان عليه السلام يظهر استياءه من المأمون بمختلف الصور، مثلاً أظهر ذلك عند وداعه لحرم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعند وداعه لعائلته خلال خروجه من المدينة، وعندما طاف حول الكعبة. كلّ ذلك ليؤكّد أنّ سفره سينتهي إلى الموت. وهذا ما أثار غضب الناس على المأمون باعتباره سلبهم إمامهم، ويريد أن يقتله.
2- عندما اقترحت ولاية العهد على الإمام عليه السلام فإنّه رفضها، ولم يقبلها إلاّ عندما هدّده المأمون بالقتل وقد علم الناس بهذه القضيّة، إلى درجة أنّ عناصر الحكومة التي كانت تجهل الهدف من وراء سياسة المأمون، بدأت تصرّح هنا وهناك قائلة بأنّ الرضا عليه السلام لم يقبل الحكومة. حتّى أنّ الفضل بن سهل قال أمام بعض أفراد الحكومة أنّه لم يرَ الخلافة ضعيفة بهذه الصورة، لأنّ "أمير المؤمنين" يقترح الخلافة على الإمام الرضا عليه السلام لكنّه يصرّ على رفضه لتلك الخلافة.
وكان الإمام متى ما سنحت له الفرصة يؤكد أنّه أجبر على قبول ذلك المنصب، ويقول إنّني هُدّدت. وكان من الطبيعي أن يسمع الناس بهذه التصريحات ويتناقلوها فيما بينهم، ويتعجبون كيف أنّ المأمون حارب أخاه مدّة سنتين من أجل السلطة، بل وقتله، وجاء برأسه إلى المدينة ليعرضه للناس هنا وهناك، وها هو اليوم يعرض الولاية على شخص مثل علي بن موسى الرضا عليه السلام لكنّه يرفض ولا يقبلها إلاّ عندما يُجْبَرُ عليها.
نعم، كان الناس يقارنون بين هاتين القضيتين، ويخرجون بنتائج غير تلك التي كان يفكر بها المأمون.
3- اشترط الإمام عليه السلام عند قبوله ولاية العهد أن لا يتدخّل في أيّ من شؤون الحكومة، ولا يبدي وجهة نظره حول الحرب والصلح والعزل والتعيين. وقد وافق المأمون على هذا الشرط متصوّراً أنّه سيتمكّن فيما بعد من إرغام الإمام على ممارسة وظائفه الحكومية. وواضح أنّ تحقّق هذا الشرط، كان يحبط مخطّطات المأمون ويقضي على القسم الأعظم من أهدافه.
ورغم أنّ الإمام عُيّن ولياً للعهد، وكان يحظى بإمكانيات كبيرة، إلاّ أنّه كان يتصرّف بشكل يفهم منه أنّه معارض لجهاز الخلافة، وإلاّ لكان مارس ولو جانباً بسيطاً من مسؤولياته.
وبديهي أنّه عندما يبتعد أحد عناصر الحكومة عن جميع مسؤولياته، فهذا يعني أنّه لا يؤيّد الحكومة. ولذلك أحسّ المأمون بهذا الأمر، وحاول مراراً أن يجعله يمارس الوظائف المخوّلة له، لكنّه عليه السلام أبى في كلّ مرّة.
وجاء في الروايات أن "معمر بن خلاّد" قال عن لسان ثامن الأئمة عليه السلام أنّ المأمون طلب من الإمام أن يرسل كتاباً إلى الناس في المناطق المضطربة ويدعوهم لإطاعة الحكومة، غير أنّه عليه السلام أعلن استنكافه وأعاد الشرط السابق إلى ذهن المأمون.
وهناك أمثلة كثيرة أخرى، وعلى سبيل المثال فإنّ المأمون طلب من الإمام الرضا عليه السلام في أحد الأعياد أن يؤمّ الناس مؤكّداً له أن إمامته للصلاة إنّما تزيد من محبّته في قلوب الناس، لكن الإمام رفض، غير أنّ المأمون لجأ إلى التهديد ممّا دعا الإمام لقبول طلب المأمون شريطة إقامة الصلاة بأسلوب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي بن أبي طالب "عليه السلام ". وبذلك اغتنم الإمام الفرصة ممّا جعل المأمون يندم على فعله ويتراجع عن قراره ويمنع الإمام من إتمام عمله.
4- والإمام بقبوله ولاية العهد أقدم على حركة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأئمة عليهم السلام بعد إنهاء خلافة أهل البيت عليهم السلام في السنة الأربعين للهجرة وحتّى ذلك اليوم بل وحتّى أواخر عهد الخلافة. وقد تمثّلت الحركة بالإعلان عن الإمامة وتجاوز التقية وإيصال نداء مدرسة أهل البيت عليهم السلام إلى مسامع جميع المسلمين، حيث بدأ يوصل إلى المسامع علانية – ما أخفي خلال "150 " عاماً.
إنّ مناظرات الإمام بين أوساط العلماء وفي محضر المأمون "التي كان يبيّن فيها أقوى استدلالات الإمامة" ورسالة جوامع الشريعة التي شرح فيها جميع المسائل العقائدية والفقهية لمدرسة أهل البيت عليهم السلام للفضل بن سهل، وحديث الإمامة المعروف الذي تحدّث به لـ "عبد العزيز بن مسلم"، والقصائد التي أنشدت في مدح الإمام عليه السلام مثل قصائد دعبل وأبي نؤاس، كلّ ذلك يبيّن النجاح الكبير الذي أحرزه الإمام الرضا عليه السلام .
وعندما سمع الناس في المدينة وفي أكثر المناطق الإسلامية بـ "ولاية عهد" الإمام علي بن موسى الرضا بدأوا يتحدثون عن فضائل أهل البيت عليه السلام.
فأهل البيت الذين وجهّت لهم خلال سبعين سنة أنواع الإهانات والشتائم، ولم يكن آنذاك ليتجرأ أحد على ذكر فضائلهم، أصبحت فضائلهم حديث الساعة، وبدأ أصحابهم يشعرون مرّة أخرى بالقوة وبالمقابل أخذ الوعي يدبّ بين الناس، وشعر الأعداء بالضعف والذل والهوان، فيما بدأ محدثو ومفكرو مدرسة أهل البيت عليه السلام يدرّسون في المجامع العلميّة والأماكن العامّة، المعارف التي كانت إلى ذلك اليوم تدرّس في الخفاء.
5- في الوقت الذي كان المأمون يرغب في أن تكون هناك هوّة بين الإمام والناس، بغية قطع العلاقات المعنوية والعاطفية بين الطرفين، كان الإمام يسعى جاداً لتقوية علاقاته مع الناس.
وبينما كان المأمون قد حدّد مسير حركة الإمام من "المدينة" إلى "مرو" بشكل لا يمرّ عليه السلام بالمدن المعروفة بحبّها لأهل البيت مثل الكوفة وقم، غير أنّ الإمام وفي نفس المسير المحدّد لم يترك فرصة إلاّ واستغلّها لتقوية علاقاته مع الناس. ففي "الأهواز" تحدّث عن آيات الإمامة، وفي البصرة واجه حبّ الناس له وتعاطفهم معه، وفي نيسابور ترك حديث السلسلة ذكرى خالدة. وإلى جانب ذلك كان يغتنم كلّ فرصة تسنح له بهدف توعية الناس وإرشادهم، وفضح الحكومة وأساليبها وممارساتها.
6- شعر أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام بالارتياح لخطوات إمامهم، كما أنّ المتمردين الذين كانوا يقضون حياتهم في الجبال والوديان والقرى النائية متحملين المصاعب والمشقّات، بدأوا – ونتجية دعم الإمام لهم – حتّى باحترام عناصر الحكومة في المدن المختلفة، مثلاً نجد الشاعر الهجائي دعبل الذي لم يساوم أي وزير وأمير، ولم يحل في أجهزتهم ولم يسلم أي من عناصر جهاز الخلافة من لسانة، ولكان لسنين طويلة مشرّداً بين المدن والقرى، وقد استطاع أن يلتقي بالإمام وينشد أروع قصيدة له بيّن فيها أحقيّة النهضة العلوية ضدّ الخلافتين الأموية والعباسية، وتلك القصيدة انتشرت خلال مدّة قصيرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، إلى درجة أنّ دعبلاً حين عاد من عند الإمام التقى مصادفة في الطريق برئيس إحدى العصابات فسمعه يردّد تلك القصيدة.
ماذا كانت النتيجة؟
والآن لنلقِ نظرة أخرى على الوضع العام الذي كان يسود ساحة هذا الصراع الخفي الذي أوجده المأمون بنفسه والأسباب التي دفعت بالإمام الرضا عليه السلام لدخول تلك الساحة فبعد عام من إعلان ولاية عهد ثامن الأئمة، كان الوضع القائم بالصورة التالية:
المأمون وفّر للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام جميع الإمكانيات وفرصاً لا حدّ لها، لكنّ الجميع كانوا يدركون جيداً أنّ الإمام لا يتدخّل في أيّ من شؤون الحكومة، ولا شأن له بما يخصّ جهاز الخلافة وأنّه وافق على ولاية العهد شريطة عدم تدخّله في ما يهمّ الجهاز من أمور.
وكان المأمون لا يترك فرصة إلاّ ويتحدّث فيها عن فضائله عليه السلام وتقواه ونسبه الرفيع ومنزلته العلمية، لكن هذا الأمر لم يساعده على كسب ودّ أتباع مدرسة أهل البيت عليه السلام، وخنق أصواتهم، حتّى أنّ الإمام أصبح يبعث الأمل والطمأنينة في نفوس هؤلاء. أمّا بقيّة الأقطار الإسلامية، فقد تغيّرت الحالة فيها، حيث بدأ الحديث يدور هنا وهناك عن فضائل الإمام الرضا عليه السلام وآبائه المظلومين والمعصومين، بعد أن كان لا يتجرّأ أيّ شخص على أن يتحدّث عن أهل البيت عليهم السلام.
وخلاصة القول أنّ المأمون لم يجنِ شيئاً في لعبته تلك، وفي نفس الوقت خسر الكثير الكثير، وأصبح يتوقّع أنْ يفقد ما تبقّى لديه.
المأمون يحاول مرّة أخرى
وهنا أحسّ المأمون بالفشل، وقرّر أن يعوّض عن الخطأ الذي وقع فيه، وأخيراً رأى أنّه من الضرورة اللجوء إلى السلاح السابق الذي لجأ إليه أسلافه أي أسلوب التصفية الجسدية.
وطبيعي أنّ قتل الإمام في مثل تلك المرحلة لم يكن أمراً ميسوراً، وتدلّ الشواهد والقرائن على أنّ المأمون لجأ إلى أساليب أخرى قبل أن يغتال الإمام الرضا عليه السلام عسى أن يجد له مخرجاً من الورطة التي أوجدها لنفسه بنفسه، على سبيل المثال كان ينشر الدعايات حول الإمام وينسب له تصريحات كاذبة من جملتها قيل إنّ الإمام الرضا عليه السلام يرى الناس عبيداً له.
وحين نقل "أبو الصلت" هذا الخبر للإمام الرضا، رفع الإمام عليه السلام يده للدعاء واستشهد الباري جلّ وعلا عليه وعلى آبائه الطاهرين أنّهم لم يقولوا ذلك وأنّ ذلك من أنماط الظلم بحقّ أهل البيت عليهم السلام.
ومن التدابير الأخرى التي اتخذت ضدّ الإمام عليه السلام هو تشكيل المناظرات العلمية تصوّراً من المأمون بأنّ الإمام لا بُدّ وأن يفشل في تلك المناظرات ويخرج مهزوماً. لكن النتيجة كانت عكسية، فكلّما كانت المناظرات تستمرّ، كانت القدرات العلميّة للإمام تبرز بشكلٍ جلّي، ممّا شعر المأمون باليأس والفشل والخذلان.
شهادة الإمام عليه السلام
وتشير الروايات إلى أنّ المأمون خطّط أكثر من مرّة بواسطة عملائه ومرتزقته لقتل الإمام الرضا، بل وألقاه في السجن لكن هذا الأسلوب لم يعد بالفائدة له وزاد من مكانة الإمام عليه السلام.
وبعد أن فشل المأمون في جميع مؤامراته، قرّر أن يسمّم الإمام بيده ويتخلّص منه بهذه الوسيلة. وبالفعل أقدم في عام 203 "ه.ق" على قتل الإمام الرضا عليه السلام، أي بعد سنتين على مجيئه عليه السلام إلى خراسان من المدينة. وبذلك تنتهي حقبة مهمّة من حياة أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم المظلومين على مدى التاريخ.
إيمان شمس الدين
الشيخ باقر القرشي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ حسين الخشن
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ علي رضا بناهيان
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد مهدي الآصفي
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
التسارع والتباطؤ وإنتاج المعارف (4)
تحمّل المسؤوليّة، عنوان الحلقة الثّالثة من برنامج (قصّة اليوم)
ناصر الرّاشد: كيف يستمرّ الحبّ؟
من بحوث الإمام الرّضا (ع) العقائديّة (2)
الإمام الرضا (ع) والمواقف من النظام (2)
شيء من الحنين الرّضويّ
الإمام الرّضا: كعبة آمال المشتاقين
العلّة من وراء خلق الشّيطان والشّرّ
السّكينة والحياة السّعيدة
لماذا يأخذ المفسرون بكلام بعضهم؟