من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الدكتور محمد حسين علي الصغير
عن الكاتب :
عالم عراقيّ وشاعر وأديب، ولد في مدينة النجف الأشرف عام 1940 م، حوزويّ وأكاديميّ، حصل على الدكتوراه في الآداب بدرجة الامتياز عام 1979 م، وعلى درجة الأستاذية عام 1988 م، وعلى مرتبة الأستاذ المتمرس عام 1993 م، ومرتبة الأستاذ المتمرس الأول عام 2001 م. له العديد من المؤلفات منها: موسوعة الدراسات القرآنية، موسوعة أهل البيت الحضارية، ديوان أهل البيت عليهم السلام، التفسير المنهجي للقرآن العظيم. توفي الله في 9 يناير عام 2023 بعد صراع طويل مع المرض.

شكل القرآن الكريم (4)

ولا حرج مطلقًا في أن يكتب المصحف كاتب، أو يطبعه طابع، بأي هجاء شاء، ما دام لا يخرج عن النطق المطلوب، كما أنزله الله تعالى، وكما تنطق به العرب، إذ لا يختلف اثنان في أن المراد بالقرآن هو ألفاظه ومعانيه، ومقاصده ومراميه، لا هجاؤه ورسمه وهيكله، والقرآن ما رسم بهذا الرسم، ولا كتب بهذا الهجاء، إلا لأنه الهجاء المعروف المتداول في العصر الأول (1).

 

وما القول بوجوب اتباع الرسم القديم، وعدم مخالفته وتعديه، إلا نوع من أنواع التزمت الذي لا يتفق من النهج العلمي، والارتفاع بتقدير الأوائل من مستوى الاحترام المناسب إلى مستوى التقديس اللامعقول، وبهذا الملحظ فإننا لا نميل إلى ما قرره البيهقي في «شعب الإيمان » بقوله:

 

«من كتب مصحفًا فينبغي أن يحافظ على الهجاء التي كتبوا فيها المصاحف، ولا يخالفهم فيها، ولا يغير مما كتبوه شيئًا، فإنهم أكثر علمًا، وأصدق قلبًا ولسانًا، وأعظم أمانة منّا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكًا عليهم» (2).

 

بل نذهب إلى جواز المخالفة، وتيسير القرآن بالخط والهجاء الذي لا لبس فيه، فلا يؤدي إلى اختلاف، ولا يؤول إلى إبهام، وليس في ذلك تحامل على السلف، فليس الخط ونقصانه مما يشكل استخفافًا بهم، ولا هو يتنافى مع ورعهم وتقواهم، ولا علاقة له بأنهم أصدق لسانًا، وأعظم أمانة، ما دام أن الخطوط لم تكن متكاملة المعالم في عهودهم.


يقول الأستاذ أحمد حسن الزيات: «الغرض من كتابة القرآن: أن نقرأه صحيحًا لنحفظه صحيحًا، فكيف نكتبه بالخطأ، لنقرأه بالصواب؟ وما الحكمة أن يقيد كلام الله بخط لا يكتب به اليوم أي كتاب» (3).

 

ولقد كان عز الدين بن عبد السلام جريئًا ومحافظًا في وقت واحد بقوله:


«لا يجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة، لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه، لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاته لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة» (4).

 

فهو يدعو إلى تطوير الرسم المصحفي رفعًا لمشاكل القراءة عند المحدثين، ويدعو إلى الاحتفاظ بالرسم العثماني كجزء من التراث الذي لا يترك حبًّا بالأقدمين.


ولقد أوضح السيوطي حقيقة مخالفة الخط المصحفي في بعض الحروف لقواعد الخط العربي فقال: «القاعدة العربية أن اللفظ يكتب بحروف هجائية مع مراعاة الابتداء والوقف عليه، وقد مهد النجاة له أصولاً وقواعد، وقد خالفها في بعض الحروف خط المصحف الإمام» (5).


وأنى كانت وجهة النظر تجاه الرسم المصحفي، فهي لا تعني شيئًا ذا أهمية قصوى، لأنها مسألة شكلية لا تتعلق بجوهر القرآن، ولا تغير حقيقته، لأن اختلاف بعض الخطوط لقواعد الهجاء لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، ليتحقق بعد هذا كله التأكيد الإلهي بحفظ القرآن، سالـمًا من التحريف، مصانًا عن الزيف.

 

وقد شاءت العناية الإلهية أن يظل شكل القرآن متجاوبًا مع اختلافات الرسم في كل العصور، ومتجانسًا مع عملية التطوير الكبرى للخط العربي، فقد دأب المتخصصون بصياغة الخطوط وطرائقها أن ينقلوه من جيل إلى جيل مطابقًا للأصل الكوفي مع إضافة الأشكال التطويرية زيادة في الإيضاح، ورفعًا للالتباس، وكان ذلك متواترًا طيلة أربعة عشر قرنًا من الزمان، فما وجدنا في طول العالم الإسلامي وعرضه نصًّا قرآنيًّا يخالف نصًّا آخر، ولا مخطوطًا يعارض مخطوطًا سواه، حتى هيأ الله تعالى الطباعة، لتزود المسلمين بل الناس أجمعين، بملايين النسخ من القرآن الكريم، وبمختلف الطبعات الأنيقة والمذهبة والمحكمة، وهي تعطر كل بيت، وتشرف كل منتدى، وتحتل صدر كل مكتبة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ابن الخطيب ، الفرقان : 84 وما بعدها .

(2) الزركشي ، البرهان : 1 / 379 .

(3) مجلة الرسالة المصرية ، عدد 8 يناير ، 1950 .

(4) الزركشي ، البرهان : 1 / 379 .

(5) السيوطي ، الاتقان : 4 / 146 .

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد