
عدم تعلّق الإنسان بالأشياء فطريًّا
قد يدّعي البعض أنّ الإنسان بإمكانه أنْ يكون فارغًا من أيّ شيءٍ، ومن دون تعلّق بأيّ شيء. وبعبارة أخرى أنّ الإنسان بحسب فطرته الأولى غير قابلٍ للتعلّق، إذ تقتضي فطرته عدم التعلّق والمحبّة لأيّ موجود، وأنْ يكون حرًّا من أيّ شيء.
لهذا المعنى من الحرّيّة صبغةٌ فلسفيّةٌ أيضًا تتعلّق بعلم نفس الفلسفة، ولا علاقة له بالمباحث الحقوقيّة إطلاقًا (خلافًا للمعنيين السابقين اللذين وإنْ كانا فلسفيّين غير أنّهما يرتبطان بفلسفة الحقوق).
نحن نعتقد بطلان هذا المعنى أيضًا؛ لأنّ الإنسان خُلق بنحوٍ يكون متعلّقًا بالغير قلبًا. ولا يمكنه التخلّي عن التعلّق التامّ، إنّ فطرة الإنسان تقتضي التعلّق ببعض الأشياء والأمور تعلّقًا قلبيًّا، نعم إنّ التحقيق في أصل هذه العلاقة، كيفيّة حبّ الإنسان للأشياء، يستلزم بحوثًا نفسيّةً عميقةً ودقيقة، ولا بدّ من متابعة تفاصيل هذا الأمر في علم النفس، والقدر المتيقّن أنّ الإنسان يمتلك حبّ الذات، ويتعلّق بأيّ شيءٍ يوجب لذّته ومنفعته ومصلحته وكماله.
ويمكن القول إنّ أصل كثيرٍ من التعلّقات إنّما هو حب الإنسان الفطري للكمال، بمعنى أنّ الإنسان يطلب الكمال بالفطرة، ويتعلّق بكلّ شيءٍ يحسبه كمالًا أو وسيلة لاستكماله، وغاية ما يقال أنّ حبّ الكمال هذا لا يؤثّر دائمًا عن علم ومعرفة، إنّ ما يتعلّق بمعرفة الإنسان ظواهر الكمال، ويتجلّى في أعمال الآخرين وسلوكهم، وعلى أيّة حالٍ فإنّ أصل كثيرٍ من التعلّقات والمتطلّبات غير العالمة - إنْ لم نقل كلّها - هذا الحبّ للكمال.
والخلاصة أنّ المدّعى القائل باقتضاء فطرة الإنسان عدم التعلّق بأيّ شيء، وعدم الإنس مع أيّ موجود، مردود. وما يطرح كقيمةٍ سلبيّةٍ في الارتباط والتعلّق القلبي مع الآخرين، هو أنّ التعلّق بالأشياء أو الأشخاص الذين يصدّون طريق الكمال أمام الإنسان غير مطلوب.
والحاصل:
إنّ الإنسان طالب للكمال فطرةً، ويتعلّق بكلّ ما فيه كمالٌ أو يكون وسيلةً للاستكمال. ولكن الإنسان لم يكن مصيبًا دائمًا في تشخيصه، وربّما يوقع في الخطأ ويزعم الكمال لما لا يكون كذلك. وما أكثر الأمور الموجبة للّذّةٍ آنيةٍ أو منفعةٍ عابرة، يتبعها ضررٌ دائمي ومصائب ثابتة، وما أقلّ من يدرك عند التقييم عواقب الأمور وتبعاتها ويحافظ على مصالحه الحقيقيّة.
وعلى أيّ حال ينبغي للإنسان قبل كلّ شيءٍ التعرّف على كماله الحقيقي، ثمّ في ضوء هذه المعرفة يلتفت إلى كلّ ما يوجب كماله الحقيقي، ويغضّ الطرف من جهةٍ أخرى عن كلّ ما يمنع من الوصول إلى الاستكمال ويصرفه عن الالتفات والتمسّك الباطني بالكمال. والخلاصة أنّه لا ينبغي أخلاقًا التعلّق بما يسدّ طريق الكمال، كما لا يمكن التحرّر من جميع التعلّقات، ولا يكون مطلوبًا أيضًا. والمطلوب التخلّص والتحرّر من التعلّقات التي تمنع سالك طريق الكمال من التكامل.
هذا المعنى من الحرّيّة مقبولٌ من وجهة نظرٍ إسلاميّةٍ ومؤكّدٌ عليه، وقد جعل العلم والفلسفة والأخلاق الإسلامي الكمال الحقيقي في التقرّب إلى الله تعالى، ويطلب من الإنسان بلسانٍ بليغٍ ومؤكّدٍ رفض كلّ ما يمنع الوصول إلى الكمال، يقول الله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
ففي هذه الرؤية يترتّب العذاب والحرمان لحبّ الأبوين والأولاد فيما لو غلب حبّ الله ونبيّه، ومنع الإنسان عن أداء وظائفه الدينيّة. ولا تلازم في نظر الأخلاق الإسلاميّة بين ما يوجب اللّذة والاستكمال، وعليه لا ينبغي متابعة اللذّة للذّتها، بل لا بدّ من التأمّل في كلّ لذّةٍ بشكلٍ جيّد كي يعرف أنّها هل توجب تكامل الإنسان أو تكون عامل سقوطه؟ فلا بدّ من اختيار اللذّة التي لا تمنع التكامل، وعليه لا بدّ التحرّر من كثيرٍ من اللذّات والصداقات والتعلّقات كي نتمكّن من المضيّ نحو طريق الكمال.
والحاصل لا ينبغي للإنسان - كأصل أخلاقي - التعلّق بما يمنعه من الوصول إلى الكمال، وإلّا فأصل التعلّق لا يمكن إنكاره، ولا بدّ للإنسان أنْ يتعلّق بالله تعالى.
ثمّ إنّ هذين المعنيين المذكورين للحرّيّة ـ وقد رددنا الأوّل وقبلنا الثاني ـ لا يتعلّقان بالحقوق، وذكرناهما لمجرّد التعرّف على المعاني الاصطلاحيّة المتداولة حول الحرّيّة.
الحرّيّة الشموليّة
لقد ظهر في القرن الماضي اتّجاهٌ جديدٌ في العلاج النفسي وعلوم التربية، وأدّى في مقام العمل إلى نتائج إيجابيّة، وهو إعطاء الحرّيّة الكاملة للمريض الذي يقع تحت العلاج أو التربية، كي تزدهر قواه واستعداداته الخاصّة. وقد أُطلق على هذا الاتّجاه في علوم التربية عدّة أسماء من قبيل: محوريّة المتعلّم، ومركزيّة المتعلّم، ومدارية المتعلّم، وعلم النفس العلاجي، والعلاج المركزي.
ويؤكّد أيضًا هذا الاتّجاه لا سيّما في مجال التربية، على أنّ المربّي لا بدّ أنْ يعطى الحرّيّة الكاملة للمتعلِّم، لا أنْ يسعى كيفما كان إلى إدخاله في القوالب الذهنيّة الجاهزة عنده من ذي قبل. وينبغي الالتفات في التربية الصحيحة إلى الخصائص المميّزة لكلّ شخصٍ عن الآخرين، ويسمح له بالحركة في المسير الذي تقتضيه قواه واستعداده الشخصي، فلا طريق لتفعيل واستكمال الاستعدادات الشخصيّة التي لم تكن غاية التربية سواها، من إعطاء الحرّيّة للمتعلّم.
هذا المعنى من الحرّيّة يحتوي على مفهومٍ نفسيّ وتربوي، ولا يتعلّق بالحقوق أبدًا. ولا مجال لنا هنا للبحث عن صحّة هذا الاتّجاه أو عدم صحّته، ولكن نقول إجمالًا بأنّ هذه النظريّة الإفراطيّة جاءت مقابل النظريّة التفريطيّة الموجودة في مناهج بعض القدامى، والحقّ في الأمر التفصيل والاعتدال. إذ لا ينبغي من تحديد الشخص والتضييق عليه بحيث لا يتمكّن من إبراز استعداده الثامن، كما لا ينبغي إعطاء الحرّيّة له بحيث ينطلق من أيّ تقييد، ويستسلم للغرائز الحيوانيّة التي تظهر في البداية ويخرج عن طريق الاستكمال الصحيح.
نعم لا ينبغي الزعم بإمكان تربية جميع البشر بطريقةٍ واحدة، بل لا بدّ من رفض القوالب التربويّة الجامدة، ولحظ خصائص كلّ شخص، ولكن لا بدّ أيضًا ألّا يغفل عن هذه الحقيقة، وهي أنّ وظيفة المربّي تربيةُ إنسانٍ عارفٍ بوظائفه، لا الإنسان الباحث عن رغباته النفسيّة، والمربّي يكون موفقًا فيما لو ربّى المتعلّم بحيث يكون احترام القيم الإنسانيّة الرفيعة وأداء الوظائف عنده جزءًا من متطلّباته، وهذا لا يتأتّى إلّا عن طريق بعض القيود للمتعلّم. والخلاصة أنّه توجد قيودٌ لهذه النظريّة، ولا بدّ أنْ يصل المربّي إلى توازنٍ مطلوبٍ بين الحرّيّة والتقييد.
الاستقلال في الشخصيّة الحقوقيّة
يُعدّ حقّ الاستقلال في الشخصيّة الحقوقيّة من الحقوق المدنيّة الواردة أيضًا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بمعنى حقّ الحرّيّة أمام العبوديّة والرقّ. فكلّ إنسانٍ حرٌّ بالأصالة، ولا يحقّ لأيّ شخصٍ استرقاق الآخرين.
ومن وجهة نظرٍ إسلاميّةٍ أيضًا لم يُخلق أيّ إنسان رقًّا ولا ينبغي استرقاقه، وهناك كثيرٌ من الأمور تكون ممنوعةً أوّلًا وبالذات في الإسلام، وتكون جائزةً ثانيًا وبالعرض. وعلى سبيل المثال يمنع قتل الإنسان أصالةً وفيه عقوبةٌ شديدة، ولكن إذا ارتكب شخصٌ جريمةً توجب القتل؛ لجاز قتله بل قد يجب. وكذلك الأمر في استرقاق الإنسان فإنّه عملٌ غير قانوني في الأصل، ولكن ربّما يصبح قانونيًّا بسبب عوامل خارجيّة. فإذا أصبح قتل الإنسان في بعض الأحوال قانونيًّا، فأيّ ضيرٍ في جواز استرقاقه أيضًا في بعض الحالات؟
وبعبارة أخرى إذا أمكن تخصيص حقّ الحياة وهو من الحقوق الأساسيّة والأوّليّة والمهمّة لكلّ إنسان، لماذا يستثنى حقّ الاستقلال في شخصيّته الحقوقيّة؟ إنّ قتل الكافرين والمشركين الذي هجموا على البلاد الإسلاميّة للإطاحة بالنظام الحقّ وقاتلوا المسلمين، جائز بل واجب. فحينئذٍ كيف يقال بعدم جواز استرقاق أُسرائِهم في الحرب؟ نريد أنْ نقول بمقبوليّة استرقاق من قام بأعمالٍ إجراميّة، وقد تمّ بيان هذه المسألة بشكل تفصيلي في الكتب الفقهيّة. نعم إنّ الإسلام لا يسمح بالاسترقاق بسبب اللون أو العرق ونحوهما، ولكن هذا لا يعني رفض الاسترقاق في جميع الأوضاع والأحوال.
المدينة الفاضلة المهدويّة
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
معـاني الحرّيّة (2)
الشيخ محمد مصباح يزدي
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ!
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
إلقاء موسى موسى (ع) الألواح، ومشاجرته أخاه هارون (ع)
الشيخ جعفر السبحاني
النسيان من منظور الفلسفة الدينية (1)
الشيخ شفيق جرادي
الشمبانزي متمكن من التفكير أيضًا!
عدنان الحاجي
أدر مواقفك بحكمة
عبدالعزيز آل زايد
معنى (نعج) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
ما بعد فلسفة الدين…ميتافيزيقا بَعدية (5)
محمود حيدر
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ الضمير في: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾!
الشيخ محمد صنقور
السيدة الزهراء: حزن بامتداد النّبوّات
حسين حسن آل جامع
اطمئنان
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
المدينة الفاضلة المهدويّة
معـاني الحرّيّة (2)
إيران: إطلاق موقع المحادثة مع تفاسیر القرآن الكريم بالذّكاء الاصطناعيّ
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ!
إلقاء موسى موسى (ع) الألواح، ومشاجرته أخاه هارون (ع)
النسيان من منظور الفلسفة الدينية (1)
الشمبانزي متمكن من التفكير أيضًا!
معـاني الحرّيّة (1)
أدر مواقفك بحكمة
علماء يبتكرون كلية (عالمية) تناسب جميع فصائل الدم