
مغايَرة الفلسفة الدينيَّة لفلسفة الدين
اكتظَّت القرون الوسطى في الغرب بمحاولات شغوفة لتأسيس الفلسفة على قواعد لاهوتيَّة. كانت الغاية آنذاك احتواء القول الفلسفيِّ وتوظيف قواعده المنطقيَّة ومبانيه العقليَّة، حتى تتمكَّن المقالة الَّلاهوتيَّة من الاستحواذ على ديناميَّات الوعي وطرائق التفكير.
جمعٌ من علماء الَّلاهوت ممَّن جاوزوا الرؤية التاريخانيَّة الوضعايَّة للدين، لاحظوا هذه الصِلاتية العميقة بين الإيمان والعقل، إلَّا أنَّهم سيوضحون مسألة مهمَّة غالبًا ما تخلَّلها الَّلبس والغموض. فعلى الرغم من يقينهم بملازمة الإيمان للعقل في جميع أطواره، فقد لاحظوا أطوارًا فوق مرئية تمتنع فيها التجارب على التفسير العقليّ. أما السبب فيعود إلى تساميها فوق المفاهيم التي تنتمي إلى منحوتات العقل الأدنى. ذلك بأن سبب عجز الفهم البشريِّ عن وعي اختبارات الشأن القدسيِّ، هو أنَّ القوانين المنطقيَّة الحاكمة على مجال الفهم الإنسانيِّ لا استخدام لها في نطاق هذه الاختبارات.
سوى أنَّ فهم الاختبارات الروحيَّة - تبعًا للفلسفة الدينيَّة ذات الأفق الوحيانيّ - عائدٌ إلى أنَّ وعي الشأن القدسيِّ وإدراك أسراره يمكث في المنطقة العليا من الإيمان. لكنَّ هذه المنطقة الفائقة من الوعي ما كانت لتتشكَّل في وجدان الفيلسوف الإلهيِّ لولا عنايته بالوجهين العقلانيِّ وغير العقلانيِّ للدين.
يدرك الفيلسوف الدينيُّ أنَّ المرء غالبًا ما يؤمن بموضوع لا يستطيع أن يراه، لكنَّه يدرك في المقابل أنَّ للإيمان حضورًا في الحياة الواقعيَّة للأفراد والجماعات، كما يرتِّب عليهم أعمالًا ومسالك ومواقف تتوقَّف عليها مصائرهم في الحياة. لهذا، فإنَّ إيمان المؤمن بما يؤمن لا يمكن وصفه وتحديده عقليًّا إلَّا في إطار ما هو مشترك مع الجماعة المؤمنة. فالإيمان ليس مجرَّد ظاهرةٍ تُماثلُ الظاهرات الطبيعيَّة الأخرى، وإنَّما هو الظاهرة المركزيَّة في حياة الإنسان الشخصيَّة الجليَّة والخفيَّة في الوقت نفسه. هو إمكانيَّة جوهريَّة للإنسان، ولذلك فوجوده ضروريٌّ وكليٌّ، وهو ممكن أيضًا في كلِّ زمان ومكان.
ولأنَّ للإيمان أصلًا تكوينيًّا خلقيًّا في ماهيَّة الكائن الإنسانيّ، فلا يمكن إذّاك أن يضارعه العلم الحديث ولا عدميَّات الوضعانيَّة. أمَّا الذين يرفضون واقعيَّة الإيمان وحضوره الفعليَّ في حَيَوَاتِ المؤمنين، فإنَّما هم في الواقع يعبِّرون عن إيمانٍ ما، أو لنقَلُ عن اعتقاد معيَّن ولو كان هذا الاعتقاد متأتيًّا من أيديولوجيَّة إلحاديَّة، أو كان مرتبطًا بقضايا تنتسب إلى دنيا المحسوسات وعالم الأفكار المجرَّدة. ها هنا قد يصحُّ الكلام على وحدة فعليَّة بين الحقيقة الفلسفيَّة وحقيقة الإيمان. بيد أنَّ هذه الوحدة ليست مفتعلة، بل هي مقروءة وحاضرة بصورة فعليَّة في كلِّ نظام فلسفيّ. لهذا السبب تحظى مثل هذه الوحدة بين الحقيقتين بأهميَّة استثنائيَّة في عمل فيلسوف الدين، وكذلك في عمل المؤرِّخ وعالم الاجتماع على السواء. بل أكثر من ذلك، فإنَّ الفيلسوف الدينيَّ على وجه التخصيص سيرى إلى هذه الوحدة باعتبارها أصلًا ذا قيمة تكوينية في نظامه الميتافيزيقيّ.
هنالك إذًا، حقيقة إيمان في الحقيقة الفلسفيَّة، وحقيقة فلسفيَّة في حقيقة الإيمان. لكنَّ الإفصاح عن هذه المعادلة يفترض التعامل مع الحقيقة الفلسفيَّة من خلال المفاهيم وما تفضي إليه من دلالات.. كما يفترض التعاطي مع الحقيقة الإيمانيَّة من خلال التعبير الرمزيِّ عمَّا تختزنه من عناصر غير مرئيَّة. ولو كان من تأصيل أكثر عمقًا في هذا المنفسح، فلسوف نجد أنَّ ثمة فلسفة تسري بعمق في كلِّ رمز إيمانيّ. وفي الآن عينه، ليس بالضرورة أن يكون الإيمان عاملًا مقرِّرًا في توجيه حركة الفكر الفلسفيّ.
الشيء نفسه يسري على الفلسفة التي لا تستطيع تحديد ماهيَّة الإيمان ومستوى حضوره في قلب المؤمن. وعليه، يمكن لرموز الإيمان أن تفتح عيني الفيلسوف على خواصّ في الكون التي لا يمكن له أن يتعرَّف عليها من دونها. غير أنَّ الإيمان لا يأمر باتِّباع فلسفة بعينها، وإن كانت الحركات الَّلاهوتيَّة استخدمت الفلسفات الأفلاطونيَّة أو الأرسطيَّة أو الكانطيَّة أو الهيوميَّة. والحاصل، أنَّ بالإمكان تطوير المضامين الفلسفيَّة لرموز الإيمان بطرقٍ متعدِّدة، لكن ليس لأيٍّ من حقيقة الإيمان وحقيقة الفلسفة أيُّ سلطة على الأخرى (تيلش- بواعث الإيمان- ص 108).
تستحثُّ جدليَّة الاتِّصال والانفصال بين الحقيقتين الدينيَّة والفلسفيَّة على البحث عن نظريَّة معرفة يستوي فيها الدينيُّ والفلسفيُّ معًا على نصاب التكافؤ والعطاء المتبادل. السؤال الذي يُطرح من تلقائه في هذا الخصوص هو في إمكان تحقُّق مثل هذا الاستواء. إلى القول: إنَّ نظريَّة المعرفة الدينيَّة تفارق نظريَّة المعرفة الفلسفيَّة في ترجيح الإيمان على المعرفة. في حين أنَّ المعرفة الفلسفيَّة تشترط اليقين بالاستدلال العقليِّ والتجربة الحسّيَّة.
لكن، لا بدَّ من التذكير بأنَّ الإيمان بما هو إيمان هو معرفة كامنة في المشاعر وإن لم يفصح عنها صاحبُها بالكلمات. هذا يعني أنَّ المعرفة الاكتسابيَّة التي ينتجها العقل الاستدلاليُّ يستحيل أن تصبح علَّة تامَّة للإيمان. بيان الأمر أنَّ الإيمان يتأبَّى على المفاهيم ويعمل خارج قيودها المنطقيَّة. قد لا يؤمن الإنسان رغم حصوله على المعرفة، وقد يؤمن ويبلغ إيمانه درجة عالية من سكينة الفؤاد وانشراح الصدر من دون أن يحوز على معرفة مكتسبة. فالإيمانُ معرفة صدريَّة فؤاديَّة تنتمي إلى ما نسمّيه “اليقين الرضيِّ”.
ولأنَّه بهذه المنزلة، فلا يشترط عليه بالضرورة أن يكون تحقُّقه مشروطًا بتحقُّق المعرفة المنطقية الصوريَّة. مع أن هذه الأخيرة تبقى تمثِّل شرطًا لازمًا لتحقُّق الإيمان المتلازم مع اليقين العقلي. بعبارة محدَّدة، يمكن القول: إنَّ المعرفة هي الشرط الَّلازم للإيمان ولكنَّها ليست شرطًا كافيًا؛ ذلك لأنَّ الإيمان خبرة عمليَّة تقوم على الإرادة والاختيار. والدليل، أنَّ كثيرين من الذين عرفوا أصول الدين ومقاصده النظريَّة لم يؤمنوا، أو أنَّهم لم يفلحوا بالإيمان ولو سعوا إليه أو رغبوا فيه. وهذا عائد إلى أنَّ معرفتهم بالدين وقفت عند تخوم التحصيل وجدران المفاهيم، إلا أنها لم تتحوَّل إلى واقعة شعوريَّة إحساسيَّة تصل بصاحبها إلى علمٍ حضوري ويقين راسخ.
في هذه الحال لا يعود للاعتقاد حاجة إلى المعرفة الاكتسابيَّة إلَّا إذا شاء المرء أن يرقى بإيمانه إلى الحدِّ الذي تصير فيه معرفته علَّة تامَّة لإيمانه. فإذا صارت المعرفة علَّة تامة للإيمان، نكون قد انتقلنا إلى طور أرقى جاز أن يُطلق عليه المعرفة في مقام الرحمانيَّة. تأسيسًا على هذا الفهم يصير الإيمان معرفة عليا بالوجود، وإن لم تُعرب عن نفسها بالعبارات والمفاهيم. فهو الطاقة الوحيدة التي تستطيع الإحاطة معرفيًّا بالحقائق الإلهيَّة، ذلك أنَّها على خلاف محدوديَّة الإدراكات الطبيعيَّة الموقوفة على مقولات العقل الأدنى ومفاهيمه. فالإيمان نظير الاستبصار الداخليِّ الذي يسدِّده الروح القدس، ويفضي إلى انشراح الصدر وسكينة الفؤاد، وتلك تعبيرات تفوق قدرات العقل القياسيِّ، رغم أنَّها مخبوءة فيه.
في طور كهذا من الفهم، سنكون مع فيلسوف دينيٍّ حوى من المعارف ما يتعدَّى حصريَّة ما وقفت الفلسفة الأولى. فمن أخصِّ سماته تأبِّيه على الانحصار في أحاديَّة المنهج. من أجل ذلك، نراه جامعًا إلى العلوم الإلهيَّة والمعارف الدينيَّة، الفلسفة وعلم الأخلاق وعلم الكلام، ناهيك بالعرفان بجناحيه النظريِّ والمسلكيّ. غير أنَّ منجزه المعرفيَّ على تنوُّعِه وتعدُّد منفسحاته يظلُّ موصولًا برباط وطيد بعلم الوحي كمبدأ مؤسِّسٍ وراعٍ للحقول جميعًا. وتلك خاصِّيَّة ذات أثر بيِّن في نظم نَسَقِه الميتافيزيقيّ. لذا يؤثِرُ الفيلسوف الدينيُّ التعرُّف على حكمة الوجود بآفاقها ودروبها المتعدِّدة، فلا يكتفي مثلًا بما جاء به العقل القياسيِّ من قواعد البرهان ومبادئ الاستدلال، بل يتطلَّع إلى طور أعلى من التعقُّل تنطلق فيه إمكانات العقل نحو فتوحات لا قِبَل له بها.
ثمَّ إنَّه على ريب مقيم من ذكاء العقل القياسيِّ لجهة ادِّعائه الإحاطة بماهيَّة الموجودات. فهو ينظر ببصيرة المتدبِّر لفهم الموجود كما هو في ذاته. يفعل ذلك خلافًا للذين أعرضوا عن المبدأ، فما بلغوا فهم الشيء في ذاته، ولا أدركوا علم البَدء، ولا انتهى بهم علمُهم إلى إدراك ما وراء الحواسِّ ومقولاتها العشر. وسيظهر له أنَّ الفكر المستغرقَ في الأعراضِ العارضِة لا يقوى على إبرام ميثاق مع الأصل. وما دام العقلُ مفصولًا عن جاعله، نائيًا منه، لن يتيسَّر له أن يمسَّ الحقيقة الخافية أو أن يُقِرَّ لها بالحضور. ثمَّ له أن يعلم أنَّ السؤال الساكنَ في العالم الفاني لا يقدر أن يطلبَ الإجابةَ من عالَمٍ لا يدنو منه الفناءُ قيدَ لمحة. فالذي حالُه الفناء، لن يفلح في التعرُّف على الذي شأنُه الحياة والديمومة.
معنى (ركض) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
بين الإنسان والملائكة
السيد محمد حسين الطبطبائي
القيادة الحائرة بين القيم.. ما الذي ينبغي أن نقدّمه لتحقيق التقدّم؟
السيد عباس نور الدين
ما بعد فلسفة الدين…ميتافيزيقا بَعدية (3)
محمود حيدر
لماذا لا يستطيع مرضى الزهايمر التعرف إلى أفراد أسرهم وأصدقائهم؟
عدنان الحاجي
تعقّل الدّنيا قبل تعقّل الدّين
الشيخ علي رضا بناهيان
القرآنُ مجموعٌ في عهد النبيِّ (ص)
الشيخ محمد صنقور
الحِلم سجيّةُ أولياء الله وزينتهم
الشيخ محمد مصباح يزدي
(لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
التّوحيد والمحبّة
السيد عبد الحسين دستغيب
السيدة الزهراء: حزن بامتداد النّبوّات
حسين حسن آل جامع
اطمئنان
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
دلالة التوقيت في الصلاة
معنى (ركض) في القرآن الكريم
بين الإنسان والملائكة
القيادة الحائرة بين القيم.. ما الذي ينبغي أن نقدّمه لتحقيق التقدّم؟
ما بعد فلسفة الدين…ميتافيزيقا بَعدية (3)
لماذا لا يستطيع مرضى الزهايمر التعرف إلى أفراد أسرهم وأصدقائهم؟
(حافر الزعفران) رواية جديدة للكاتب عبدالعزيز آل زايد
آل إبراهيم واليوسف ممثّلا البيت السّعيد في المنتدى الخليجيّ الخامس للسّياسات الأسريّة في الكويت
تعقّل الدّنيا قبل تعقّل الدّين
معنى (مال) في القرآن الكريم