علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
عدنان الحاجي
عن الكاتب :
من المترجمين المتمرسين بالأحساء بدأ الترجمة عام ٢٠١١، مطّلعٌ على ما ينشر بشكل يومي في الدوريات العلمية ومحاضر المؤتمرات العلمية التي تعقد دوريًّا في غير مكان، وهو يعمل دائمًا على ترجمة المفيد منها.

نظرية الدوافع والاتجاهات الشخصية: كيف نستخدمها لتعزيز الهناء النفسي؟

المترجم: عدنان أحمد الحاجي

 

تُعدّ نظرية تقرير المصير [أو نظرية الدوافع والاتجاهات الشخصية (SDT)] (2، 1) من أكثر المقاربات رسوخًا وفعاليةً في مجال الهناء (الرضا) النفسي في أدبيات العلوم النفسية. ومع ذلك، لا يبدو أنها قد شقّت طريقها إلى النقاشات حول الرّضا النفسي والسعادة ومساعدة الذات (أي الاعتماد على الذات لتحقيق الأهداف الذاتية - أي العصامية). وهذا أمر مؤسف، لما لهذه النّظرية من إسهامات كبيرة.

 

من الأفكار الأساسية في نظرية تقرير المصير أن لدينا ثلاث احتياجات نفسية أساسية: الاستقلالية، والجدارة، والشعور بالارتباط.

 

الاستقلالية هي حاجة الفرد إلى التحكم في حياته لا أن يكون خاضعًا لسيطرة الآخرين. أما الجدارة فهي الحاجة إلى الشعور بالقدرة على أداء المهام التي يحتاجها لتحقيق النجاح والإنجاز [امتلاك المهارات والمعرفة اللازمة للقيام بعمل ما]. أما الشعور بالارتباط فهو شعور المرء بحب ورعاية الآخرين له، والشعور بالانتماء إلى مجموعة تُقدم الدعم الاجتماعي له (2).

 

إذا لُبّيت احتياجات الفرد النفسية الأساسية، فمن المرجح أن يشعر بالسعادة والرضا النفسي. ومن مظاهرها الانفعالات الإيجابية، كالشعور بالفرح والحيوية والقدرة على النمو والتطور والحماس في العمل، على سبيل المثال، لأننا نقدم على فعل الأشياء التي نحبّها. فمن المرجح أن نشعر بآن للحياة معنىً (3) ورسالة دافعها الهدف من وجودنا الذي نسعى لتحقيقه وذلك لأننا نعيش في مجتمع نحترم ثقافته وقيمه.

 

وبخلاف ذلك، عندما يُحال بيننا وبين تلبية احتياجاتنا الأساس، لابد أن نشهد أعراض غياب الرضا النفسي. يتفاقم الغضب والإحباط والملل حين يتحكم أولياء الأمور أو البيروقراطيون أو الرؤساء أو قوى أخرى في سلوكنا، وذلك بسبب تأثيرهم في تسخير قدراتنا لصالح غاياتهم.

 

يُصبح الاكتئاب هو السائد عندما تتأثر قدراتنا وقيمتنا الذاتية سلبًا بسبب تكرر الفشل والإحباط. والقلق غالبًا ما يكون بسبب الانفعال الاجتماعي [ومنه الشعور بالذنب والحرج وغيره] (4) الذي ينبثق حين نشعر بالقلق بشأن ما إذا كانت جماعتنا أو مجموعتنا تهتم بنا.

 

لذا، يجب أن ننمي احتياجاتنا النفسية الأساس [وذلك بتحديد الأشياء الضرورية لهنائنا النفسي والسعي لتحقيقها بشكل سليم ومستدام] - ولكن كيف؟ على المرء أن يكتشف ما يرغب في فعله في حياته [أي التعرف على شغفه وقيمه ونقاط قوته، ثم مواءمتها مع أهدافه وأفعاله الهادفة، وذلك باستكشاف الجوانب المختلفة من حياته، وتحديد أهدافه، واتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيقها]، وما هي المهارات والقدرات التي يرغب في أن يصبح متخصصًا مقتدرًا فيها، ومن يحملون نفس المشتركات ليتواصل وليتعاطف معهم، وما المجتمعات [مثلًا، من أصحاب التخصص] يمكن أن يكون له دور فيها.

 

توظيف الدوافع لتحقيق الهدف بنجاح

 

هنا تكمن فائدة الفكرة الأساسية الثانية في نظرية تقرير المصير (SDT)، كما أوضحتُ في كتابي الجديد (5) "Beyond Happy: How to rethink happiness and find fulfilment". تقترح نظرية تقرير المصير طيفًا من الدوافع يمتد من الدافع الخارجي من طرف إلى الدافع الداخلي من الطرف الآخر. معرفة موقعك على هذا الطيف في نشاط أو مهمة معينة يمكن أن يساعدك في العمل على أن تكون أكثر سعادة.

 

كلما زاد دافع الشخص الخارجي لتحقيق شيء ما، زادت حاجته إلى ضبط نفسه أكثر. على سبيل المثال، عندما يفر الناس من بلدانهم بسبب الحروب الدائرة ويصبحون لاجئين، غالبًا ما يرغب قسم كبير منهم في البقاء في بلد المهجر. قوة الإرادة مطلوبة للتصرف خلاف تلك الرغبة. في المقابل، سلوكبات الدوافع الداخلية تنبثق من داخل الشخص بشكل تلقائي. فهو ليس بحاجة إلى قوة إرادة ليستمر في ممارسة هواياته.

 

لكل نوع من الدوافع أمارات انفعالية مختلفة (سواء أكانت لفظية أو من خلال لغة الجسد)، وفهمها يساعدنا على تحديد القيم والسلوكيات والانتماء إلى المجموعات التي تناسبنا.

 

على سبيل المثال، يقع الدافع "المُدرك (6)" بين الدافع الخارجي والدافع الداخلي على طيف الدوافع.. ويحدث عندما نُقدّر نشاطًا من الأنشطة ولكننا لا نستمتع به بطبيعتنا. ولذلك، عادةً ما يُقابل النجاح في التعرف على سلوك الشخص بالشعور بالإنجاز أو ذلك الشعور الدافئ واللطيف الذي ينتاب الشخص عندما يقوم يفعل الشيء الصحيح أو المناسب، مثل بذل جهد إضافي للخروج من البيت لوضع القمامة في حاوية القمامة.

 

في المقابل، الدافع المستبطن (7) "بفعل مؤثر خارجي" هو حين يُقيِّم شخصٌ الشيء بناءً على سلوك الآخر المدرك ويجعله جزءًا من قناعاته. على سبيل المثال، يكره الكثير منا الذهاب إلى الصالة الرياضية، لكننا في المقابل ما زلنا نرتادها لأن لدينا رغبة في المحافظة على صحتنا. قد لا يرغب الطفل في التدرب على التشيلو (الكمان)، لكنه يحتاج إلى موافقة من أبويه [مما يعني أن ذلك التدريب كان استجابةً لرغبة أبويه لا لرغبته].

 

ولأن الدافع المستبطن هو نسبيًّا بمثابة دافع خارجي، فإنه يتطلب قوة إرادة، وربما قوة إرادة أكثر بقليل مما يتطلبه سلوك تحت المراقبة أو الملاحظة، غالبًا ما يُقابل إتمام نشاط مستبطن (بسبب ضغط خارجي) بالشعور بالراحة لا بالشعور بالإنجاز وعدم الرغبة في الاستمرار.

 

أحيانًا، قد تجعلنا الأمور التي تعتمد على السلوك المستبطن بالتعاسة. ففي مسلسلات دراما المراهقين (التي تركز على شخصيات في سن المراهقة)، على سبيل المثال، غالبًا ما يفعل البطل شيئًا ما رغبةً منه في الشهرة، ولكن عندما يحظى بقبول الشباب المميزين، يُدرك أن هؤلاء الشباب لئيمون وضعفاء.

 

لماذا لا تُشعرك الأموال والسلطة والمكانة الاجتماعية بالسعادة؟

 

في الواقع، حددت نظرية تقرير المصير بعض القيم المشتركة: الشعبية، والشهرة، والمكانة الاجتماعية، والسلطة، والثروة، والنجاح (7). هذه كلها دوافع خارجية لأنها ليست حكرًا على الشخص. أنْ يصبح ثريًّا بسسب عمله فيما يرغب فيه أو على ما يرغب فيه، فهذا رائع، لكن الكثير منا لا يفكر حتى فيما يرغب، وذلك بسبب انشغاله بالتفكير في امتلاك الثروة فحسب.

 

الدوافع الخارجية في نهاية المطاف ضارة بصحتنا، لأنها بدائل رديئة للاحتياجات السيكولوجية الأساسية. عندما يجهض أولياء أمورنا أو معلمونا الصارمون محاولاتنا في الاستقلال والاعتماد على أنفسنا، نتوق إلى السلطة أو القوة. عندما لا نعرف ما هي القدرات والمهارات التي نحتاج إلى إتقانها والتخصص فيها، فإننا نتبنى مفاهيم الآخرين عن النجاح بدلًا من أن نبي قدراتنا ونصبح أكثر اعتمادًا على أنفسنا.

 

المساعي والأهداف المدفوعة بعوامل خارجية [سواء أكانت هذه العوامل جزرة أو عصا] غالبًا ما تنبثق من جرحٍ نفسي عميقٍ وردة فعلٍ اتقائية [ردة الفعل الاتقائية هي استجابة نفسية وانفعالية توصف بوقاية المرء نفسه من الانتقاد أو التهديدات المُتصوَّرة. وقد يتجلى ذلك في سلوكيات متنوعة، مثل اختلاق الأعذار، أو إنكار الادعاءات، أو التهرب من اللوم]. على سبيل المثال، عندما نشعر بالوحدة أو حين نشعر من بغض أو عدم حب الآخرين لنا، إما بسبب هويتنا و/أو شخصيتنا و/أو اعتقاداتنا، قد نعوض ذلك الشعور المحبِط بالسعي وراء الشهرة أو الشعبية. ونبدأ مثلًا، بالكتابة عن إنجازاتنا على شبكة لينكدإن LinkedIn الاجتماعية (9).

 

المشكلة هي أن الذين ينجذبون إلى مثل هذه المساعي لا يقدرونك بالضرورة، بل ما يُقدّرون فيك هي قوتك، أو مكانتك، أو أموالك فقط. تشعر أنك إذا فقدت هذه الأشياء يومًا من الأيام، فستفقد هؤلاء الأشخاص أيضًا [وكأن القول المأثور عن الإمام علي حاضر لدى كاتب هذا المقال: إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه].

 

نظرية تقرير المصير يمكن أن تساعد المرء على تعلم الإنصات لمشاعره وتفسير دوافعه، وتوظيفها لتوجيهه نحو القيم والأنشطة والأشخاص المناسبين له بغرض الانتماء إليهم.

 

على سبيل المثال، لو شعرت بالسعادة والرضا حين تنجح في حل لغز معقد، فربما أخذت في الاعتبار مهنة تنطوي على مثل هذا النشاط، مثل القانون أو الهندسة. ولكن لو وجدت صعوبة وعدم راحة في حل مثل هذه الألغاز، فربما كانت هذه أمارة لتأخذ في الاعتبار مجالًا مناسبًا لك يكون أكثر ارتباطًا بالعلاقات الاجتماعية، أو باتخاذ قرارت بناءً على الحدس والبديهة، مثل الخدمات الاجتماعية (10).

 

عندما تسعى وراء استقلالك الذاتي (11) في قراراتك وفقًا لما تمليه عليك شخصيتك وقيمك وقناعاتك أو معتقداتك، بغض النظر عن الضغوط الخارجية، فإن ذلك يدعم شعورك بالاستقلالية. ستكتسب الجدارة والتخصص في هذه الأنشطة لأنها مدفوعة بدوافع ذاتية داخلية. وستُكوّن علاقات وطيدة مع الذين تلتقي بهم وذلك لوجود إعجاب صادق متبادل بين بعضكم البعض. ومن شأن ذلك أن يعود على الجميع بالشعور بالرضا النفسي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- "تعتبر نظريَّة الدوافع والاتجاهات الشخصية (وتعرف بنظرية تقرير المصير) Self-Determination Theory (SDT) إحدى النَّظريّات القائمة على الأساس التجريبي للدَّوافع الشخصية، والنَّمو، والعافية، والتي تفسر طبيعة وتأثير الدّوافع على أداء الفرد، كما تركّز النظرية على أنواع الدَّوافع الذّاتيَّة للاستقلاليَّة، والتَّحكم، والشعور بالارتباط (ومنه الشعور والاهتمام بالآخر)، والتي قد تؤثر في أنشطة الفرد وتتنبأ بالأداء وبالهناء النَّفسي، وتفترض نظرية تقرير المصير بوجود دوافع داخليَّةٍ جوهريَّةٍ internisic (غريزية) ودوافع خارجية externsic، وكلاهما يؤثران في سلوك الفرد، كما توكِّد نظريَّة تقرير المصير على دور هذه الدَّوافع الدّاخليَّة والخارجيَّة في التطور الادراكي والاجتماعي وفي الفروق الفرديَّة". مقتبس ببعض التصرف من نص ورد على هذا العنوان: 

https://jfeps.journals.ekb.eg/article_352209_d2b51b501683c3c14c61d656ddcc6b40.pdf

2- https://obstan.org/نظرية-تقرير-المصير/

3- https://ar.wikipedia.org/wiki/معنى_الحياة

4- https://ar.wikipedia.org/wiki/العواطف_الاجتماعية

5- https://profmarkfabian.substack.com/p/coming-soon

6- "الدافع المُدرك هو نوع من الدوافع الذي يُدرك فيه المرء ضرورة أداء مهمة أو إكمالها، إلا أنه لم يتخذ بعدُ أي خطوة لتلبية هذه الحاجة. الدافع المُدرك هو ما يشعر به الشخص حين ليس لديه دافع للعمل على مهمة من المهمات، لكنه يُدرك أو يقر بأهميتها. وهو شكل قوي من أشكال الدوافع يُهيئ الفرد للعمل على المهمة. وهو ذو تأثير كبير بشكل خاص في سياق العمل، لأن الاعتماد على الآخرين لتحفيزه ودفعه أمر غير عملي في معظم الحالات". ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان:

https://davidburkus.com/2023/05/what-science-tells-us-about-motivating-your-team/

7- "الاستبطان ويقال له الاستدماج هو قبول الفرد لمجموعة من المعايير الاجتماعية التي أنشأها الناس أو الجماعات والتي لها تأثير كبير في الفرد. وتبدأ العملية بفهم هذه المعايير، وبعد ذلك يبدأ في إدراك أهميتها، وفي نهاية المطاف يتقبلها وكأنها جزء من قناعاته". مقتبس ببعض التصرف من نص ورد على هذا العنوان:

https://ar.wikipedia.org/wiki/استبطان_(علم_الاجتماع) 

8- https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1002/ejsp.85

9- https://ar.wikipedia.org/wiki/لينكد_إن

10- https://ar.wikipedia.org/wiki/خدمة_اجتماعية

11- https://ar.wikipedia.org/wiki/استقلال_ذاتي

المصدر الرئيس

https://theconversation.com/self-determination-theory-how-to-use-it-to-boost-wellbeing-259829

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد