علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

التمهيد إلى ميتافيزيقا إسلاميّة بَعديّة (2)

عن ميتافيزيقا الحداثة ومعاثرها

 

في حقبة الحداثة التي أرسى ديكارت عمارتها الميتافيزيقيَّة بنسختها القبْليَّة المستأنَفة، سيظهر مسار متجدِّد من الولاء المطلق للعقل الإغريقيِّ المسكون بطبائع الكون المرئيِّ. فالبرنامج الديكارتيُّ القائم على التحليل الميكانيكيِّ سيرى أنَّ الطريقة الفضلى لفهم الإنسان هي النظر إليه كما لو كان آلة، تمامًا كما هو الحال مع فهم الكون بمجمله. كما رأى أنَّ سلوك الإنسان وعمل العقل ليسا سوى اثنين من الأفعال المنعكسة القائمة على مبدأي التحريض والاستجابة. وعلى هذا النحو، فإنَّ الأطروحة الرئيسة أو المقدِّمة الكبرى الواسعة الانتشار التي ترى أنَّ جميع تعقيدات الوجود البشريِّ ونظيره الكونيِّ، من شأنها أن تتفسَّر، آخر المطاف، من مسلَّمات مبادئ العلوم الطبيعيَّة.

 

واستتباعًا لهذا التنظير، سيكون من أهمِّ الحقائق في تاريخ الفلسفة الحديثة، هي عمليَّة التحويل الكبرى التي ستجعل العلم (الرياضيَّ والفيزيائيَّ) بديلًا للميتافيزيقا. الأثر الحاسم كان مع إسحق نيوتن حيث انطلق التنوير من ثقة غير مسبوقة بالعقل البشريِّ. وقد أفضى نجاح العلم في تفسير العالم الطبيعيِّ إلى التأثير في جهود الفلسفة على مستويين:

 

أ ‌- رؤية أساس المعرفة الإنسانيَّة في عقل الإنسان وتشابكه مع العالم المادّيّ.

 

ب - توجيه اهتمام الفلسفة إلى نوع من تحليل العقل المؤهَّل لتحقيق مثل هذا النجاح المعرفيّ.

 

من المبين أن نقول إنَّ ديكارت لم يكن ليهتدي إلى “الكوجيتو” لولا أن غَلَبته شَقْوَةُ فَقْدِ الوجود، ثمَّ سعى ليعثر عليه عن طريق “الأنا” المكتفية بذاتها. الخَيارُ سيكون شاقًّا، بل ويحتاج من المكابدات أقصاها. وَقَعَ الرجلُ في معثرةِ الجمعِ المستحيلِ بين نقيضين غير قابلين للتواؤم في هندسات العقل الأدنى: الإيقان بالألوهيَّة الذي لزومُهُ التّسليم والإيمان.. والبرهان بالفكر الذي مقتضاه السؤالُ، والسّببيَّةُ، والعلَّة المُفضيةُ إلى كشف المعلول والتعرُّف عليه.

 

لم يجد ديكارت ما ينفذُ به إلى مجاوزةِ هذه المَعْثَرة الممتدّةِ جذورُها إلى الميراثين الفلسفَييَّنْ اليونانيِّ والرومانيِّ، إلَّا أن يلوذَ بـ “الأنا” لكي ينجز مبتغاه. وهكذا قرَّر الرُّجوع إلى نقطة البداية؛ ليبيِّن لنا أنَّ الشّيء الوحيد الذي كان واثقًا منه، أنَّه هو نفسه كائن يشكُّ، وجوهرٌ يفكِّر. وبسببٍ من سطوة النَّزعة الدنيويَّة هذه على مجمل حداثة الغرب لم يخرج سوى “الندرة” من المفكِّرين الذين تنبَّهوا إلى معاثر الكوجيتو وأثره الكبير على تشكُّلات وعي الغرب لذاته وللوجود. وفي هذا المورد نشير إلى ثلاثة معاثر كبرى:

 

أوَّلًا: إنَّ “مبدأ الأنا أفكر” يؤدّي إلى قلب العلاقة التأسيسيَّة للوعي الميتافيزيقيِّ بجناحيه المتناهي والَّلامتناهي. والتساؤل البَدَهيُّ هنا على الوجه التالي: “كيف يمكن المرء أن يعرف الله بتفكير لا إلهيٍّ، أو بتفكير لا إلهَ فيه، أو بتفكير مدعوم إلهيًّا، مع أنَّ نفس وجود الله أو لا وجوده يُحدَّد فقط من خلال معادلة مختلَّة الأركان قوامها: “اللَّه موجود هو مجرَّد نتيجة للأنا موجود”.

 

ثانيًا: الـ “أنا موجود” (ergo sum) التي تلي “الأنا أفكِّر” (co gito) هي – في منطق ديكارت – تعبير عن كيان يريد إظهار نفسه بالتفكير والكينونة، بمعزل عن الله. وبسببٍ من كونه عاجزًا عن فعل هذا، يمنع تجلّي نفسه وتجلّي الله. فالموجود المتناهي – الإنسان – ومن خلال تأسيس يقينه الوجوديِّ والمعرفيِّ في “الأنا الواعي”، يحاول إظهار ذاته كموجودٍ مطلقٍ، ويجعل نفسه إلهًا مؤسِّسًا لذاته”.

 

ثالثًا: يشكِّل الكوجيتو الديكارتيُّ، بالأساس، انعطافةً أبستمولوجيَّةً نحو الأنا، الأمر الذي استلْزَمَ انعطافةً أنطولوجيَّةً تليها انعطافةٌ أبستمولوجيَّة. وفي أيَّة حال، ستؤدّي الأَنَويَّةُ الأبستمولوجيَّةُ والأنانةُ الأنطولوجيَّةُ لـ”الأنا أفكِّر أنا موجود” إلى ولادة أنانيَّة فلسفيَّة تخلد إلى المرئيِّ، وتقطع على نحو جائر مع الماوراء.

 

من بعد ديكارت، أراد كانط أن يستظهر الميتافيزيقا على هيئة لا قِبَلَ لها بها في سيرتها الممتدَّة من اليونان إلى مبتدأ الحداثة. هو يعترف بأنَّها أكثر الحدوس الإنسانيَّة قوَّة لكنَّها لم تُكتب بعد. شعر وهو يمضي في المخاطرة كأنَّما امتلك عقلًا حرًّا، بعدما ظنَّ أنَّه تحرَّر تمامًا من رياضيَّات ديكارت. راح يرنو إلى الإمساك بناصية الميتافيزيقا ليدفعها نحو منقلب آخر، إلَّا أنَّه حين انصرف إلى مبتغاه لم يكن يتخيَّل أنَّ “الكوجيتو الديكارتيُّ” رَكَزَ في قرارة نفسه ولن يفارقها أبدًا.

 

منظومة كانط المسكونة بسلطان الكوجيتو ومعاثره، سوف تُستدرج إلى تناقضٍ بيِّن في أركانها. نتساءل: كيف يمكن أن يستخدم العقل كوسيلة للبرهنة على أنَّ هذا العقل لا يستطيع أن يصل إلى المعرفة الفعليَّة بالأشياء كما هي واقعًا؟ ثمَّ كيف يمكن أن يعلن أنَّ المرء لا يستطيع تحصيل المعرفة بالشيء في ذاته، وفي الوقت نفسه يستمرُّ في وصف العقل كشيء في ذاته.

 

واضح أنَّ حجج كانط على الجملة لا أساس لها ما لم تكن قادرة على وصف العقل كما هو حقيقة. فإذا كنَّا لا نعرف إلَّا ظواهر الأمور، كيف يمكننا أن نعرف العقل بذاته؟ وإذا كنَّا لا نعرف إلَّا الظاهر فقط، فهل ثمَّة معنى، في التحليل النهائيِّ، لقولنا إنَّنا نعرف شيئًا ما؟ وأمَّا سبب هذه التناقضات فهي أنَّ الفلسفة الانتقاديَّة الحديثة استثنت معرفة اللَّه والدين النظريَّ من حقل المعرفة التي يمكن الحصول عليها فقط عن طريق العقل القياسيّ.

 

بسبب هيوم وشكوكيَّته، سيهتزُّ إيمان كانط بشرعيَّة المعرفة الميتافيزيقيَّة. من بعد ذلك سيميلُ نحو منفسح آخر من التفكير الفلسفيِّ ليحكم على الميتافيزيقا بالموت. لقد اضطرَّ لمواجهة اليأس من التعرُّف على “سرِّ الشيء في ذاته”، إلى أن يبتني أسُس المعرفة الميتافيزيقيَّة بوساطة العلم. ثمَّ استبدل التعريفات المجرَّدة بالملاحظة التجريبيَّة، حتى لقد خُيِّل للذين تابعوه كأنَّه يغادر الفلسفة الأولى ومقولاتها ليستقرَّ تمامًا في محراب الفيزياء.

 

وليس كلامه عن أنَّ “المنهج الصحيح للميتافيزيقا هو المنهج نفسه الذي قدَّمه نيوتن في العلوم الطبيعيَّة”، سوى شهادة بيِّنة على افتتانه بالفيزياء وجعلها ميزانًا لميتافيزيقاه النقديَّة. ولمَّا قال إنَّ كلَّ ما هو موجود، هو في مكان ما وزمان ما (irgendwannirgendwo und)، لم يكن يتوقَّع أن يؤدّي موقفه هذا إلى التخلّي عن الميتافيزيقابوصفها تعرُّفًا على ذات الموجود وسرِّهوأنَّه سيخلّي السَّاح للفيزياء كحقيقة واقعيَّة يدركها الفكر.

 

كذلك توسَّل كانط مرجعيَّتَي هيوم ونيوتن لتسويغ “رغبته” في تحويل الميتافيزيقا إلى علم يقدر على متاخمة المشكلات الحقيقيَّة للعالم الحديث. كان يرى أنَّ إلغاء الميتافيزيقا تمامًا سيكون مستحيلًا، وأنَّ أكثر ما يمكن فعله هو إزالة بعض الأنواع غير الصالحة منها، وفتح الباب أمام ما يسمّيه بالعقيدة العلميَّة الجديدة، وهي العقيدة التي سيضعها تحت عنوان “الإمكان الميتافيزيقيّ” في العالم الطبيعيِّ، والتي تقوم على التمييز المنهجيِّ بين عالَمين غير متكافئين: عالم الألوهيَّة وعالم الطبيعة.

 

أمَّا مقتضى الإمكان الميتافيزيقيِّ الكانطيِّ في صيرورة الميتافيزيقا علمًا متاخمًا للعلوم الإنسانيَّة وسيَّالًا في ثناياها، فهو النزوع نحو العقل الأدنى ومقتضياته الأنطولوجيَّة والمعرفيَّة والمنطقيَّة. لقد أكمل كانط رحلة الإغريق من خلال سعيه لإنشائها على نصاب جديد عبر تحويلها إلى موقف ينزلها من علياء التجريد إلى الانهمام بالعالم. لكنْ، بدل الاكتفاء بالتمييز والإبقاء على خيط تتكامل فيه العمليَّة الإدراكيَّة للموجود بذاته والموجود بغيره، راح يفصل بين العالَمين ليبتدئ زمنًا مستحدَثًا تحوَّلت معه الميتافيزيقا إلى فيزياء أرضيَّة محضة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد