قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

النسخ في القرآن إطلالة على آية التبديل (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ) (1)

تمهيد

 

النسخ من الموضوعات الشائكة والواسعة في التراث الإسلامي، ولا نريد الوقوف على كلّ تفاصيله الآن، وإنّما نقف على آية قرآنية واحدة تتعلّق بهذا الموضوع؛ للتأمّل فيها ودراستها؛ لمعرفة مدى ارتباطها بموضوع النسخ في القرآن الكريم.

 

لقد اعتمد علماء الإسلام مجموعة من النصوص القرآنيّة التي قالوا بأنّها دالّة مباشرةً على وقوع النسخ في الشريعة الإسلاميّة، وعلينا رصد هذه النصوص وتحليلها؛ لنرى ماذا يمكنها أن تقدّم لنا من معطيات على صعيد بحثنا هذا.

 

عمدة النصوص القرآنية هنا ثلاث آياتٍ قالوا بأنّها تتكلّم عن وقوع النسخ في الشريعة الإسلاميّة، وسوف نتحدث عن آية واحدة وهي: آية التبديل.

 

آية التبديل، قراءات وتفاسير

 

قال تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (النحل: 101)، وبعدها فوراً جاء قوله تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل: 102 ـ 103).

 

اعتبرت هذه الآية الكريمة دليلاً على وقوع النسخ في القرآن، على أساس أنّ الظاهر من كلمة “الآية” فيها هو الآية القرآنيّة، أي أنّ المعنى سيكون هكذا (وإذا بدلنا آية قرآنية مكان آية قرآنية أخرى والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر)، وهي صريحة في وقوع تبديل آيةٍ بآية، ويبدو أنّ الكافرين كان لهم تعليق على هذا الموضوع جعلهم ينسبون القرآن إلى النبيّ وأنّه مفترٍ، لأن الله هو العالم المطلق ولا يمكن للعالم المطلق أن يغيّر رأيه يوماً بعد يوم، وبما أنّك ـ يا محمّد ـ تغيّر من الآيات القرآنية، فهذا معناه أنّ القرآن من عندك وليس من عند الله، وكان جواب القرآن عليهم أنّ أكثرهم لا يعلمون، وهذا خير دليل على تحقّق ظاهرة النسخ داخل النصّ القرآني نفسه.

 

ويتأكّد المراد من كلمة “الآية” هنا وأنّه ذو صلة بالنص القرآني لا بأمرٍ آخر، من خلال عنصرين خارجي وداخلي:

 

العنصر الخارجي:

 

وهو عبارة عن مراجعة نصوص المفسّرين الأوائل في القرن الأوّل وشطرٍ من الثاني الهجري، فإنّ هؤلاء لم يفهموا من كلمة “الآية” إلا الآية من القرآن الكريم، ويبدو أنّه لم يخطر في بالهم معنى آخر.

 

ولنأخذ، على سبيل المثال، تفسير الطبري الذي ينقل لنا في العادة نصوص المفسّرين الأوائل من الصحابة والتابعين، فنحن لا نجده يذكر وجهة نظر تفسيريّة لهذه الآية تتكلّم عن غير النسخ، وكأنّ المفسّرين المسلمين الأوائل من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين لم يفهموا هذه الآية القرآنيّة إلا بوصفها تتحدّث عن النسخ، ومن ثمّ فإنّ ظاهرة النسخ موجودة في القرآن الكريم.

 

يقول ـ بعد أن يذهب هو إلى تفسير الآية المتقدّمة بما قلناه ـ: «وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: وإذا بدّلنا آية مكان آية، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: .. عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: وإذا بدّلنا آية مكان آية، رفعناها فأنزل غيرها. حدثنا القاسم.. عن ابن جريج، عن مجاهد: وإذا بدّلنا آية مكان آية، قال: نسخناها، بدّلناها، رفعناها وأثبتنا غيرها. حدّثنا بشر.. عن قَتَادة، قوله:(إذا بدّلنا آية مكان آية) هو كقوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها). حدّثني يونس.. قال ابن زيد في قوله: (وإذا بدّلنا آية مكان آية) قالوا: إنما أنت مفترٍ تأتي بشيء وتنقضه، فتأتي بغيره، قال: وهذا التبديل ناسخ، ولا نبدّل آية مكان آية إلا بنسخ..» [1].

 

إنّ عادة الطبري أن يذكر التأويلات المختلفة للآية عند الأجيال الأولى من المفسّرين، غير أنّه في هذه الآية لم ينقل غير وجهة نظرٍ واحدة، وهذا يؤكّد أنّهم لم يفهموا شيئاً آخر غير النسخ هنا.

 

كما أضاف السيوطي في الدرّ المنثور نصوصاً أخرى عن بعض قدامى المفسّرين علاوة على ما نقله الطبري، فقال: «(وإذا بدّلنا آية مكان آية) الآيتين.. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: وإذا بدّلنا آية مكان آية، قال: هذا في الناسخ والمنسوخ. قال: إذا نسخنا آية وجئنا بغيرها، قالوا: ما بالك قلت كذا وكذا، ثمّ نقضته. أنت تفتري..» [2].

 

ولا يقتصر هذا الأمر على الرواية أو الأثر السنّي، بل نجد في الموروث الإمامي ما يؤكّد ذلك وإن كان حجمه أقلّ بكثير، فقد نقل عليّ بن إبراهيم القمي ـ في التفسير المنسوب إليه ـ قائلاً: «وقوله: (وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر). قال: كانت إذا نسخت آية قالوا لرسول الله‘: أنت مفترٍ، فردّ الله عليهم فقال: (قل لهم ـ يا محمد ـ نزّله روح القدس من ربك بالحقّ) يعني جبرئيل..» [3].

 

وينقل الطبرسي ـ يتبعه غيرُه مثل العلامة المجلسي ـ عن ابن عباس التفسيرَ عينه [4].

 

كما نقلت كتب أسباب النزول ما يشهد لهذا الأمر، وعلى سبيل المثال يذكر الواحدي النيسابوري فيقول: «قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) قال المفسّرون: إنّ المشركين قالوا: أترون إلى محمّد يأمر أصحابه بأمرٍ، ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً، ما هذا في القرآن إلا كلام محمّد بقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضاً، فأنزل الله: وإذا بدّلنا آية مكان آية.. الآية، وأنزل أيضاً: ما ننسخ من آية أو ننسأها نأت بخير منها.. الآية» [5].

 

العنصر الداخلي:

 

وهو يظهر بالانتقال من الفضاء التاريخي إلى داخل النصّ القرآني، حيث نلاحظ أنّ ما يعزّز ذلك ويحصر تفسير هذه الآية بالنسخ نفسه هو السياق كذلك، فإنّ الآيتين اللاحقتين واضحتان في ربط القضيّة بالنصّ القرآني، وأنّ عمليّة التبديل بين الآيات كانت سبباً في اتهام النبيّ بالافتراء، وأنّ ما يأتي به ليس من عند الله تعالى بل من نفسه أو تعليم بشرٍ له، كما أنّ النسخ في اللغة يتضمّن الإزالة، والتبديل ضرب من الإزالة كما بحثنا ذلك في محلّه في الدلالة اللغويّة والاصطلاحيّة لمفردة النسخ، مضافاً إلى ذلك جواب القرآن فوراً بأنّ الله أعلم بما ينزّل، وهذا مرتبط مباشرةً بتنزيل الوحي والكتاب.

 

كما أنّ آيةً أخرى تساعد على هذا المعنى وهو قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس: 15)، فقد استخدمت هذه الآية مفردة “التبديل” وعنت به تغيير آية بآية أو القرآن كلّه بغيره، وهذا يعزّز أنّ المراد في الآية التي نحن فيها هو هذا المعنى نفسه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 [1] جامع البيان 14: 230 ـ 231.

 [2] الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 4: 131.

 [3] تفسير القمي 1: 390.

 [4] انظر: مجمع البيان 6: 200؛ وبحار الأنوار 9: 117.

 [5] الواحدي، أسباب النزول: 21.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد