لقاءات

زهراء الشّوكان: الحزن شعور قويّ يترك ندوبًا في الرّوح، لذلك نعبّر عنه أكثر

"لا بدّ من الشّعور بالثّقة، إن لم تؤمن بنفسك، فلن يؤمن بك أحد، ولا بدّ أيضًا من التّزوّد بالطّموح".

بريشتها الشّعريّة وبكلّ ثقةٍ، وبمنسوب عالٍ من الطّموح، رسمت أجمل الأبيات الشّعريّة من الواقع المحسوس، بعيدًا عن استنساخ تجارب الآخرين، فجاءت الأبيات متجدّدة متميّزة بالبعدين الأدبيّ والفكريّ.

 حروفها تتألّق وتتأنّق في "رحلة البحث الدّائم عن الإجابات، وعدم الحصول على الرّضا والسّكون"، فهي تؤمن بأنّ الفلسفة والشّعر يلتقيان عند التّفكير والتّأمّل، وبأنّ مجازات الشّعر "نجاة من الواقع المؤلم، وهروب إلى عالم آخر جميل متخيّل".

 إنّها الشّاعرة زهراء الشّوكان، التي أجرينا معها حوارًا شعريًّا أدبيًّا فلسفيًّا

 حاورتها: نسرين نجم

 

 كيف بدأت رحلتك في عالم الشّعر؟ ولماذا اخترت الشّعر بالذّات؟ وهل تؤمنين بأنّ الشّعر يولد من رحم الإحزان؟ وإذا كان كذلك فهل تكون ولادة الشّعر ولادة عسيرة؟

"حول البداية الشّعرية، أذكر أنّي بدأت بعمر مبكر في هواية الرسم وكتابة القصة، وجاءت المحاولات الشّعريّة متأخرة بعدها، ففي عمر الثّالثة عشر، كانت أوّل قصيدة شعريّة جادّة، وكانت شعرًا عموديًّا على بحر الطويل.. ولكنّني أعترف أنّني بعد عمر العشرين، ظفر الانشغال بالشّعر بالجزء الأكبر منّي.

الحقيقة أنّ الأديب والفنّان، لا يختار صنفه الذي يمارسه بقرار يتّخذه، وإنّما يجد نفسه منغمسًا فيه بشكل تلقائيّ، فلو اختاره لوجده عبئًا عليه، وكأنّه وظيفة ما يؤدّيها، وأنّه بقدر ما يحبّ هوايته، سيضحّي لها، ويبدع فيها، ويندفع لها. إنّ الأدب والشّعر والفنون، تحقق لممارسها الرّاحة والمتعة، فالشّعر تعبير عن الذات، وتنفيس عن الشجى والهموم والقلق وجنوح للخيال، والواقع الآخر الذي يعيش فيه الشّاعر مجازًا ما تبدعه مخيّلته..

نحن قد ننسى لحظات السّعادة التي نعيشها، أو ننسى تلك البهجة التي مرّت بنا، ولكنّنا لا ننسى تلك المرارة التي غصّت بها أرواحنا، وذلك الشّجن الذي اعتصر قلوبنا، إنّ الحزن شعور قويّ يترك ندوبًا في الرّوح، لذلك نعبّر عنه أكثر..

ولادة الشّعر ليست عسيرة إذا كانت عفويّة، إي إذا حضرت القصيدة بنفسها، ولم نتعمّد استحضارها، ولكن نعم، إذا كنّا نبوح بألم عميق ومتجذّر، فإنّ حركة الكتابة ستشبه حركة الأشواك والأضلاع المكسورة، لأنّها ستهيّج الألم، فلو كان على سبيل المثال هذا الألم ألم ذكرى ما مضت، فالشّعر سيبعث هذا الألم حيًّا طريًّا ناضحًا من جديد..

ومما قلته في وصف هذا، ما جاء في قصيدتي "غرقُ الشّعر" أنقل لكم بعض أبياتها:

وإنّما الشّعر مأساتي ومعضلتي 

ملحٌ به جرحيَ المنسيُّ ينفتقُ

وإنّما الشّعرُ إدماني ووسوستي 

لهمسِ شيطانهِ أُصغي ولا أثقُ

كقهوةٍ أحتسيها معْ مرارتها       

علَّ الجراحَ التي في القلبِ تنسحقُ

أو كالحبيبِ الذي أحكي حكايتهُ     

وأدّعي أنّنا في الحبّ نتّفقُ

هو الدّواءُ الذي صعبٌ تجرّعهُ     

ولفظهُ هُوّةٌ للموتِ تنبثقُ

أبحرتُ فيهِ ومِلْئِي همُّ شاعرةٍ   

أعياهُ في لـجِّها التّجديفُ والغرقُ".

 

حصلت على كثير من الجوائز والتّكريمات، ماذا تعني لك بشكل عامّ؟ وهل الجوائز والتّكريمات عامل مؤثّر في الشّاعر ونتاجه؟

"لا شكّ أنّ لتكريم أيّ فرد منتج ومنجز ومبتكر في المجتمع أثر إيجابيّ في نفسه، إنّ الشّعور بمحبّة الآخرين وتقديرهم واعتزازهم بما تقدّمه، يهبك دعمًا معنويًّا لمواصلة الطّريق، وكذلك فإنّ الشّعور بعدم الاهتمام واللّامبالاة، وعدم الالتفات للطاقات، يدعو للإحباط بلا شكّ..

وأنا ممتنّة جدًّا لكلّ منصّة أهدتني جائزة تقديرية أو تكريمًا، ولكلّ فرد توقّف ليهبني كلمة طيّبة أتزوّد بها لمواصلة الطريق".

 

 ما هي أبرز الخصائص التي تنفردين بها عن سواك من الشّعراء الآخرين؟

"أظنّ أنّ هذا السّؤال يجيب عليه القارئ المطّلع على النّتاج المحليّ والعربيّ، والمتذوّق للسّاحة الشّعريّة المحليّة والعربيّة والعالميّة.. ولكن قال عدد من النّقّاد إنّ ديواني تميّز بالمزج بين روح الفنّ التّشكيليّ والشّعر.. وترين ذلك جليًّا حتى من عنوانه "أُلوّنُ صوتَ المجاز". فمفردات "الّلون، والرّسم، والنّقش، والرّقش، والشّفّ، وغيرها هي مفردات تتمازج مع صور قصائدي وخيالاتها، وبعض قصائدي تتحدّث بشكل صريح عن الفنّ التّشكيليّ كقصيدة "الموناليزا" ومـمّا جاء فيها:

"الموناليزا" بهمسٍ وشوشتْ لغتي

لتستفزَّ بعتمِ الليلِ أَسئلتي

واستنطقَ الحرفَ "بيكاسو" على عمدٍ

ليقفزَ الشّعرُ مجنونًا على شفتي

"دافينشي" مرتقبٌ يُصغي لهلوستي

لوحاتهُ شاغلتْ أنفاسها رئتي

"فان جوخ" بَعثَرَ لَطْخَ الّلونِ فارتبكتْ

كلُّ القصائدِ لا تدنو لمحبرتي

و"سلفادورُ" إذا ما عاثَ كارثةً

صبَّ الجنونَ وطالتْ فيهِ معضلتي

أفتشُ اليومَ عن نفسي مصادفةً

وجدتُ في شعري المدفونِ ترجمتي

وجدتني والمرايا في مواجهةٍ

أزيلُ عن وجهها المحجوبِ أقنعتي

أذوقني كي أرى طعمي على وجلٍ

ألفيتني في رؤى الأحلامِ ذائقتي

أُعلَّمَ الفنّ للآفاقِ أرسلهُ

طفلاً نما كاملًا في دفءِ عاطفتي

أرقّقُ الذّوقَ والإحساسَ أصقلهُ

أهذّبَ الرّوحَ والإبداعُ أسلحتي

حبُّ الجمالِ أنـمَّي في النّفوسِ بهِ

يُـخّلقُ الفِكر حُرًّا  تلكَ معجزتي

وهذا الحديث عن روّاد المدارس الفنّيّة، والفنّ التّشكيليّ، والتّفاعل المجازيّ معهم في بعض قصائدي، هو شيء طبيعيّ وعفويّ..كوني خريجة فنون جميلة، ومعلّمة تربية فنّيّة، فأنا لا أزال أنقل هذه الفنون الجميلة للأجيال، كما أنّي نشيطة في مجال المشاركة في المعارض الفنّيّة..

أظنّ أنّ هذا ما تميّز به شعري (الميل للفنون الجميلة)، كما تميّزت أيضًا كتابتي القصصيّة بالّلغة الشّعرية الطّاغية، وكذلك تميّزت بعض قصائدي بالأسلوب القصصيّ، لأنّ الفنون في حقيقتها تكامليّة، كلٌّ منها يغذّي الآخر، وهي تعكس شخصيّة مَن يعبّر عنها، خاصة إذا كان يعبّر عنها بشفافيّة دون حذر، فستكون مرايا صادقة، تعكس جوانب من مشاعره وهواجسه، وما يؤمن به وما يجنح إليه".

 

 

إلى أين يأخذك الشّعر بين الواقع والحلم؟ متى يكون الشّعر حلمًا؟ ومتى يكون يقظة؟ ومتى يكون حلم يقظة أو يقظة حلم؟

"أرى أنّ الشّعر لا بدّ أن يكون ضربًا من ضروب الأحلام، ولا بدّ أن يكون الشّاعر حالـمًا، يقول أندريه موروا: (يهدف الفنّ إلى خلق عالم أكثر إنسانية، موازٍ للعالم الحقيقي..) فالفنّ والأدب يخلقان هذا العالم المتخيّل، الذي نتمنّى أن نعايشه.. والشّعر في إحدى أشكاله هروبٌ من الواقع، لا يمكن أن يكون الشّعر مادّيًّا، ملموسًا، واقعيًّا، منطقيًّا، فالشّعر مساحة واسعة للتّأمّل والتّأويل، والشّعر هو شيءٌ من الجنوح للخيال والجنون، هو أن تحلم بعالم آخر، للحبيب، للصّديق، للطّفولة، للمجتمع.. عالـمٌ تبنيه الخيالات الشّاعريّة، وهنا سيختلفُ الشّعر عن التّقرير الصّحفيّ والدّراسة العلميّة، يجب أن لا يُنتظر من الشّاعر أن يكون واقعيًّا، فالشّاعر ليس عالم فيزياء، ولا مؤرخًا تاريخيًّا، وإن كان يعبّر عن الحياة، ولكنّه لا يستنسخها كما هي..

يكون الشّعر يقظة.. حين يعيش النّاس حالة من السّبات تجاه قضيّة ما، سيتحتّم على الشّاعر والأديب والفنّان أن يكون تلك الصّرخة، وذلك النّداء الذي يمثّل ضميرًا إنسانيًّا واخلاقيًّا..

ويكون حلم يقظة، إذا كان الشّعر هروبًا من واقع ما، إلى واقعٍ حالمٍ متخيّلٍ أجمل..

ويكون يقظة حلم، إذا كان الشّعر يحرّك الأحلام الغافية، ويدفعنا نحو تحقيقها..

نعم، إنّ في مجازات الشعر نجاة من الواقع المؤلم، وهروبًا إلى عالم آخر جميل متخيّل..

وقريبًا من هذا المعنى، أقول في بعض أبيات قصيدتي "بين هاجسين" في حقّ الشّعر:

دثّرتهُ طعمَ المجازِ مشرّبًا

حبًّا وشوقًا كي يُجيدَ لغاتي

ووضعتُ في كفّيهِ كلّ جراحةٍ

نزفتْ عميقًا وانتظرتُ نجاتي

فوجدتُ في رسمِ الخيالِ حقيقتي

ووجدتُ صبحي فيهِ حقًّا آتي

ولذا شددتُ الشّعرَ فوقَ أضالعي

ومضيتُ تتبعُ خطوتي أبياتي".

 

هل استطعت الوصول الى إجابة عن سؤالك الشّعريّ الدّائم عن الحياة؟ وكيف استطعت أن تدمجي الفلسفة بالشّعر؟

"يُقال إنّ الفلسفة بدأت شعرًا، خصوصًا في بحثها عن أصل الكون والأشياء، كما أنّ العلاقة بين الفلسفة والشّعر ظلّت مثيرة للجدل. يقول الفيلسوف الألماني هايدغر: «إنّ كلّ تفكير تأمّليّ يكون شعرًا، وإنّ كلّ شعر يكون بدوره نوعًا من التّفكير».

ولا شكّ أنّ الفلسفة ضرب من التفكير والتأمل، والشّعر كذلك، فهما يلتقيان هنا، أمّا عن الوصول للغاية، فالإجابة في هذا المجال مهمّة صعبة جدًّا، فأنت كلّما كبرت، وكلّما قرأت، وكلّما نضجت، تعلّمت شيئًا جديدًا.. المعرفة ليست شيئًا محدودًا يمكن الوصول لنهايته..

وفي معنى البحث الدّائم عن الإجابات، وعدم الحصول على حالة الرّضا والسّكون، أقول في قصيدة "الموناليزا":

أنا التي سافرتْ في روحها أبدًا

 لكي أشكَّلَ في دنياي جوهرتي

أنا التي عَثرتْ في نفسها زمنًا

تستلهمُ الغيبَ كي تأتي بأجوبةِ

أنا اليقينُ وكنهُ الشك في خَلَدٍ

 يقتاتُ روحيَ مشتاقًا لآخرتي

طالَ المسيرُ ولا أدري بأيهما

هذا اليقينُ تُرى؟ أم صوتُ وسوسةِ؟

 

 

برأيك، هل يصل الشّاعر إلى مرحلة يرضى فيها عن نتاجه؟ أمّ أن هناك مزيدًا من الشّعر ما وراء الشّعر؟

"إذا وصل الشّاعر لحالة الرّضا عن نفسه وعن نتاجه، فقد خطَّ بيده نهاية تطوّره، وعطّل استمراره في مسيرة التّألّق والإبداع، يجب أن يستمرّ الشّاعر في التّجدّد والنّموّ، وليحقق ذلك لا بدّ له أن يتوقّف لا عن استنساخ التجارب الأخرى فقط، بل ويبتعد عن استنساخ نفسه أيضًا، حتى لا يقف مكانه. الشّعور بالرّضا عن الذّات أمر يشبه الموت، الطّموح الدّائم للارتقاء للأعلى هو ضمان النّموّ المستمرّ..

وقريبًا من هذا المعنى أقول في قصيدتي "رقيّ":

قد لمستُ النّجمَ حقّا

فانظروا

كم سوفَ أرقى!!

وانظروا لونَ سمائي

أشرقَتْ

رعدًا وبرقا!!

 قد تجدين في هذين البيتين لونًا من ألوان الاعتزاز بالنّفس والتّحدّي..

حيث اتحدّث عن معنى العلوّ والتألّق في وصفٍ لحالة الارتقاء، ولكنّني لا أتحدّث عن حالة الوصول والسّكون.. وإنّما هو اشتعالٌ دائم..

وأنا أرى أنّ هناك فرقًا كبيرًا بين تقدير الذّات والاعتزاز بما حقّقناه من إنجازات، وبين الشّعور بالرّضا التّامّ إلى ما وصلنا إليه..

لا بدّ من الشّعور بالثّقة، إن لم تؤمن بنفسك فلن يؤمن بك أحد، ولا بدّ أيضًا من التّزوّد بالطّموح، أرى أنّ على الفنان/الأديب أن يبقى متعطّشًا دائمًا نحو بلوغ الأجمل ....".

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد