قراءة في كتاب

رسالة الأربعين الهاشمية، مصنَّف فريد في المعارف الإلهية

 

لا يسع قارئ (رسالة الأربعين الهاشمية) للمتفقّهة العارفة وعالمة الدين السيدة نصرت أمين الأصفهانية، إلّا أن يتوقف مليّاً أمام عمل نادر ومميّز في حقل العرفان والعلوم الإلهية.
الكتاب الصادر عن «دار المعارف الحكمية» في بيروت، يدخل ضمن سلسلة «إلهيّات المعرفة» التي يعكف المعهد على إصدارها، وهي تتضمّن تحقيقات لأبرز أعمال العلماء والعرفاء في مجال الأخلاق، وآداب السير والسلوك، وفلسفة العرفان.

(رسالة الأربعين)
أمّا ما يتّصل بكتاب (رسالة الأربعين الهاشمية) وهو موضوع قراءتنا، فيُمكن إنزاله بلا ريب، منزلة الأعمال التأسيسية المعاصرة في المعارف الإلهية.
الرسالة تدور مدار الشرح المعمَّق لمجموعة من الأحاديث المنسوبة إلى أهل العصمة عليهم السلام، وقد وردت في أهم الكتب المرجعية لأبرز علماء الإسلام، ولا سيّما علماء  الإمامية.
على المستوى المنهجي، تؤسّس السيدة المؤلِّفة كتابها على الحديث الشريف لسيّد الخلق صلّى الله عليه وآله: «مَن حفظ مِن أحاديثنا أربعين حديثاً بَعثَه اللهُ يومَ القيامة فقيهاً عالماً».

ففي مقدمة الكتاب، وبعد أن تحمد الله تعالى على لطفه وتوفيقه في إنجاز عملها، تقول:
«وقفتُ على الأحاديث المروية المتواترة عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله، الناطقة بأنّه: (مَن حفظَ على أمّتي أربعين حديثاً ممّا يحتاجون إليه في أمرِ دِينِهم، بعثَهُ اللهُ عزّ وجلّ يوم القيامة مع النّبيِّين والصدِّيقينَ والشّهداءِ والصّالحينَ، وحَسُن أولئك رفيقاً). ولقد أحببتُ تأليف كتاب مشتمل على أربعين حديثاً من طرق أهل بيت النبوّة والولاية، ومتضمّن لحلّ مشكلاته ومعضلاته، تأسّياً بالسلف من العلماء العاملين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فنظرتُ وتفكّرت وقلت إنّي لم أكن من فرسان هذا الميدان، على أنّ مَن صنف فقد استهدف، فرأيتُ أنّ ما لا يدرَك كلُّه لا يُترك جلُّه، فجمعت الأحاديث بعون الله القديم من مواطن عديدة ومواضع شريدة، وأردفتُ كلّ حديثٍ ببيان ما لديّ يحتاج إلى البيان، والمرجوّ من فضله العميم أن يوفّقني لإتمام ما أرجوه، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون. وها أنا أشرع في المقصود بعون الملك المعبود».

مقاصد الأحاديث
لعلّ الأهمية التي تنطوي عليها الرسالة، أنّها تتّخد من الأحاديث الشريفة أبواباً لمقاربة ثوابت في العقيدة، والمعاملات، والأخلاق، وآداب السير والسلوك. وهذه الثوابت تدخل عموماً في ميادين العقل والنقل والشهود.
وهنا يمكن أن نذكر على وجه الإجمال ما تضمّنته شروح الأحاديث في الميادين المذكورة وهي: ميدان العلم بالله ومعرفته – ميدان العلم بالكتاب الإلهي – وميدان التخلّق بمكارم الأخلاق النبوية.
وهذه الميادين جميعاً تكمل بعضها، لتكتمل في دائرة التوحيد الإلهي إنطلاقاً من الإيمان بالمبدأ والمعاد.

ومن عيون القضايا التي تتطرّق إليها الرسالة في شرح الأحاديث، ما يلي:
- معرفةُ الله بالله، والعلم به تعالى على ثلاثة أركان: آية محكمة، وفريضة عادلة، وسنّة محكمة.
- صفات الله تعالى، وأنّه وإن لم تَرَهَ العيون بمشاهدة الأبصار، بل رأته القلوب بحقائق الإيمان.
- تنزيه الباري، وأنّ الله تعالى أجَلُّ من أن يُعرف بخلقه.
- في أنّ الأئمة عليهم السلام، هم المعنيّون بقوله تعالى: ﴿..وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ..﴾ الأعراف:46، وأنّه لا يُعرف الله إلّا بسبيل معرفتهم.
- في بيان معنى الإيمان، والصبر، والزهد، والتقوى، والإخلاص، والتوكّل، والدعاء، والتوبة، إلى سائر العناوين التي تملأ الأدبيات الأخلاقية والتراث العرفاني الإسلامي.

القول في خصائص الرسالة
ومن المفيد أن نشير في هذا الصدد إلى جملة من الخصائص المميّزة في هذا العمل ذكرها بعضها الباحث حسين السعلوك، وقد جاءت على النحو التالي:
أولاً: الإحاطة والموسوعية، وذلك لما كانت تتوافر عليه شخصية السيّدة المصنّفة العلمية من مخزون معرفي كبير؛ فقد كانت، رحمها الله، محيطة بحقول علمية عقلية ونقلية شتّى، من الفقه، والأصول، والعقائد، والتفسير، والأخلاق، والحديث، والرجال، والفلسفة، والعرفان وغيرها، فأسهم ذلك في جعل قراءتها للنصوص الدينية قراءة موسوعية متعدّدة الوجوه.
ثانياً: تنوّع الحقول المعرفية؛ حيث إنّ الكتاب يحوي مطالب أخلاقية ووعظية حيناً، ومطالب عقلية فلسفية حيناً آخر، ومطالب فقهية استدلالية ثالثاً، هذا فضلاً عن أنّ الكتاب زخر بمطالعات عرفانية نظرية، وأصولية، ورجالية ليكون شاملاً في مقارباته لأبواب وحقول معرفية متعددة.
ثالثاً: العمق والغزارة، وهي سمَة يكفي للقارئ الاطلاع على شرح واحد من شروحات الأحاديث المطروحة لاستشفافها، والتيقّن أنّ في متناوله عملاً فريداً في صنفه يقف على أمّهات المطالب والمعاني، فيحفر في دلالاتها عميقاً ليستخرج المكنون فيها من الجواهر.
رابعاً: المنهجية الجدلية المنتجة، حيث إنّ المؤلّفة عند مواجهتها لأيٍّ من المطالب، تطرح على نفسها جملة من الإشكاليات المفترضة، ثمّ تقدّم الرد المناسب وفق منهجية: «إن قلتَ، قلتُ»، وهي الجدلية المعروفة تقليدياً في المباحث الكلامية النظرية. وهذا أمر له ما لا يخفى من البركات، فهو من جهة يمتِّن الطرح ويرسّخ صوابيّته، ومن جهة أخرى ينمّي عند القارئ الحسّ النقدي والإشكالي الذي يحتاجه كلّ باحث في مطالعاته العلمية.

خامساً: التوظيف التضافري للنقليات، حيث إنّ السيدة الكاتبة، ونظراً لسعة اطّلاعها على كتب الأحاديث والمروّيات، ولطول باعها وتخصّصها في علم الحديث وتشعّباته، سعت إلى إضفاء منهجٍ حديثيٍّ تكامليّ في شرحها للأحاديث الأربعين، حيث عمدت فيه عند وقوفها على كلّ واحدٍ من الأحاديث أن تلحظ جملة من الآيات القرآنية والمرويّات التي تناولت موضوع الحديث المشروح، وهو ما يُسهم في تشكيل خارطة نقلية متكاملة العناصر حول الموضوع نفسه.
ولعلّ هذا المنهج يحمل، بوجه، خصائص منهجين تفسيريين برزا في مراحل متأخّرة، هما منهج العلامة السيّد محمد حسين الطباطبائي- المعاصر للسيدة المصنّفة – في تفسيره القرآن، حيث أرسى منهجاً لتفسير القرآن بالقرآن، وفسّرت هي النصّ بالنصّ، وكذلك منهج السيد الشهيد محمّد باقر الصدر الذي أرسى منهجاً لتفسير القرآن تفسيراً موضوعياً.
سادساً: التوظيف التراكمي للتراث العلمي، ذلك أنّ المصنّفة في شرحها للأحاديث تلحظ آراء العلماء السابقين وتوظّفها في سبيل إنضاج البحث، فتوافق بعض المطروح فيها، وتوضح موسّعةً بعضاً آخر، وتردّ مشكلةً بعضاً ثالثاً، فنصبح حينئذٍ أمام بحث يلحظ المطروح ليبني عليه، لا بحث يغمض عينه عن التراث.

ولا شك بأنّ لهذا الأمر فوائد جمة، ليس أوّلها توفر البحث على آراء متعدّدة لعلماء أفذاذ مختلفين في قضية واحدة، وليس آخرها السعي إلى تطوير المنظومة الفكرية الإسلامية عبر تقديم خطوات استكمالية لِما قدّمه العلماء المشهورون من الذين استفادت من آرائهم المؤلفة؛ كالعلّامة المجلسي، والشيخ البهائي، ونصير الدين الطوسي، والملا صدر الدين الشيرازي، والغزالي، وغيرهم، وكلّ واحد منهم هو اسمٌ بارزةٌ موقعيّته وتأثيره الفريد.
وبلحاظ ما ذُكر من خصائص، يصحّ القول إنّ هذا الكتاب يقدّم منهجاً تفسيرياً فريداً يمكن وسمُهُ بالمنهج الحكمي المتكامل، الذي يرتكز إلى نصّ المعصوم كركيزة ينطلق منها، فيُسائلها موظّفاً المخزون الكبير لعلوم العقل والنقل، ويطرق، انطلاقاً من ذلك، أبواباً شتّى في مختلف الحقول العلمية، ويفتح للتأويل الموزون آفاقه الواسعة، ما يثمر إبداعاً متّصلاً ورفداً مستداماً للمنظومة الفكرية الإسلامية.
ــــــــــ
مجلة شعائر 83

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد