من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

أول شهيدٍ يوم الطف (1)


الشيخ محمد صنقور

إنَّ أول شهيد بحسب ما ورد في زيارة الناحية عن الإمام الحجة المروية في كتاب الإقبال للسيد ابن طاووس بسنده عن أبي جعفر الطوسي وبسند أبي جعفر الطوسي إلى الشيخ محمد بن غالب الأصفهاني هو مسلم بن عوسجة، فقد ورد في الزيارة المخصَّصة للشهداء: "السلام على مسلم بن عوسجة الأسدي القائل للحسين وقد أذن له في الانصراف أنحنُ نُخلِّي عنك، وبمَ نعتذر عند الله من أداء حقِّك... ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم لقذفتُهم بالحجارة ولم أفارقك حتى أموت معك، ...وكنتَ أول من شَرَى نفسه، وأول شهيدٍ من شهداء الله قضى نحبَه ففزتَ وربِّ الكعبة، شكر اللهُ استقدامك ومواساتِك أمامك..."(1).
ويؤيد ما ورد في الزيارة ما أفاده بعض المؤرِّخين مثل ابن كثير في البداية والنهاية حيث قال: "إنَّ أول مَن قُتل من أصحاب الحسين (ع) هو مسلم بن عوسجة"(2)، وكذلك ما أفاده أبو مخنف في كتابه مقتل الحسين (ع) حين قال: "فصُرع مسلم بن عوسجة أول أصحاب الحسين (ع)" وروى ذلك الطبري في تاريخه عن أبي مخنف كما أفاد ذلك ابن الدمشقي في كتابه جواهر المطالب(3).
وفي مقابل ذلك أفاد ابن الأثير في كتاب الكامل أنَّ أول من قُتل من أصحاب الحسين (ع) هو أبو الشعثاء الكندي قال: (وجثا أبو الشعثاء الكندي وهو يزيد بن أبي زياد بين يدي الحسين (ع) فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم، وكلَّما رمى يقول له الحسين (ع): "اللهم سدِّد رميته واجعل ثوابه الجنَّة..." فقاتل بين يديه وكان أول من قُتل) (4).
والظاهر أنَّ ذلك وقع منه اشتباهً وأنَّ الصحيح هو ما نقله الطبري في تاريخه عن أبي مخنف مِن أنَّ أبا الشعثاء (كان في أول مَن قُتل) فالنصُّ الذي ذكره ابنُ الأثير هو عينه الذي نقله الطبري عن أبي مخنف، ومن المعروف أنَّ ابن الأثير يعتمد كثيراً على الطبري، فلعلَّ حرف الجر (في) سقط منه غفلةً أو أسقطه النساخ سهواً.
فإذا كان الصحيح هو ما نقله الطبري عن أبي مخنف فإنَّ أبا الشعثاء يكون في أوائل من استُشهد من أصحاب الإمام الحسين (ع) وليس هو الأول فيمن قُتل من أصحابه (ع)، فلا يكون هذا النص منافياً لما ورد في زيارة الناحية وغيرها من النصوص التاريخية التي أفادت أنَّ أول من استُشهد من أصحاب الإمام الحسين (ع) هو مسلم بن عوسجة الأسدي.
نعم ورد في عدة من النصوص التاريخية ما يُشعر بأنَّ أول من قُتل من أصحاب الإمام الحسين (ع) هو الحرُّ بن يزيد الرياحي:
منها: ما أفاده ابن طاووس في كتاب اللهوف أنَّ الحرَّ بن يزيد الرياحي قال للحسين (ع) بعد أنْ أبدى ندمه ممَّا كان قد بدر منه وأعلن عن توبته أمامه قال للحسين (ع): "فإذا كنتُ أولَ من خرج عليك فأذن لي أنْ أكون أول قتيلٍ بين يديك لعلِّي أكون ممَّن يُصافح جدَّك محمداً (ص) غداً في القيامة"(5).
ونقل صاحبُ البحار قريباً من هذا المضمون عن محمد بن أبي طالب وصاحب المناقب قال: إنَّ الحرَّ أتى للحسين (ع) فقال: "يا ابن رسول الله (ص) كنتُ أول خارجٍ عليك فأذن لي لأكون أولَ قتيلٍ بين يديك وأولَ مَن يصافح جدَّك غداً"(6).
هذا وقد حمل ابن طاووس كلام الحر على أنَّه أراد بأنه أول قتيل من حين قوله، وأما صاحب البحار فحمل كلامه على أنَّه أراد أول قتيل من المبارزين، وكلاهما أعتمد على قرينةٍ واحدة وهي أنَّ وقت كلام الحرِّ كان بعد أنْ قُتل جماعة من أصحاب الحسين (ع) فلا يمكن أنْ يكون مراده الأول حقيقة.
إلا أنَّ ما أفاده ابن طاووس خلاف الظاهر جداً، والقرينة التي أعتمدها وإنْ كانت تقتضي أنْ لا يكون مراد الحر من الأول هو الأول حقيقة ولكنها لا تقتضي أن يكون مراده الأول من الآن، إذ إنَّ إطلاق عنوان الأول مع فرض علمه بأنَّه قد قُتل عدد من أصحاب الحسين (ع) غير متعارَف عند أهل اللسان والمحاورة، وكذلك فإنَّ هذه القرينة لا تقتضي أنْ يكون مراده من الأول هو أنَّه أول المبارزين كما أفاد صاحب البحار، إذ أنَّ أقصى ما تقتضيه هذه القرينة وهي استشهاد عددٍ من أصحاب الحسين (ع) قبل قوله هو أنَّ الحر لم يقصد من الأول حقيقة أما أنَّه يقصد ذلك أنْ يكون أول الشهداء من المبارزين فذلك أخصُّ ممَّا تقتضيه هذه القرينة.
والصحيح أنْ يقال إنَّه لم يثبت أنَّ الحر قال ذلك بعد نشوب المعركة واستشهاد بعض أصحاب الحسين (ع)، بل المستظَهر من عبائر المؤرِّخين أنَّ كلام الحر الذي أبدى فيه رغبته لأنْ يكون أول قتيل وقع في سياقٍ واحد مع تعبيره عن ندمه وتوبته وذلك وقع منه حين وصوله للحسين (ع) وقبل نشوب المعركة، وعليه يكون مراده من الأول هو الأول حقيقة، ولكنَّ ذلك لا يقتضي أن يكون هو الأول واقعاً، إذ أنَّ ما أفاده الحر لم يكن أكثر من أمنية عبَّر عنها أو أنَّه تعبير عن الاستعداد للشهادة فهو وإن كان قد أراد أن يكون القتيل الأول بين يدي الحسين (ع) إلا أنَّ من الممكن أن لا يكون قد حظَيَ بنيل هذه الأمنية، فلا يكون هذا النص منافياً لما ورد في الناحية المقدسة وغيرها من أنَّ مسلم بن عوسجة هو الشهيد الأول من شهداء كربلاء.
 ـــــــــــ

1- إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس: ج3/76، المزار لمحمد بن المشهدي: 491.
2- البداية والنهاية لابن كثير: ج8/197.
3- مقتل الحسين (ع) لأبي مخنف الأزدي: 136، تاريخ الطبري: ج3/331.
4- الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج4/73.
5- اللهوف للسيد ابن طاووس: 61.
6- البحار للمجلسي: ج45/10.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد