
هنا لا أتحدث عن وقت تعيشه بلا إنجاز أو إنتاج. لا أتحدث عن هروبك من المسؤولية، أو عن تقطيع الوقت بالنوم حتى العشق، أو الجلوس على الكنبة وأنت تدخن وكأنك تنتظر شيئًا لا تفكر فيه أصلًا. بل إني هنا لا أتحدث حتى عن الموت.
الموت يحتمل في تصوراتنا أمورًا كثيرة تشابه الحياة، أو تتمازج معها، حتى لو كان الموت يعني وحدة في قبر مقفل حد الإطباق التام، لكنها وحدة أنت فيها. حتى لو كان الموت يعني عذابًا وشقوة وسوء مصير، لكنك حاضر بوجودك بأناك، نعم أنت حاضر.
ما أتحدث عنه فراغ لا (الأنت)، ولا (الأنا) فيه. فراغ كامل يضاهي حد العدم، ذلك أنّ العدم أمرٌ متصور وله نحوٌ من الوجود الذي يختزنه ذهننا. ما أتحدث عنه فراغ…
تخيل مثلًا أنك تركت هذه الحياة الدنيا وتوقف عندك كل شيء حتى كلمة أنك تسير نحو الموت انتهت؛ لأنها تحتضن نحوًا من الوجود، والذي يسير ويمضي غيرك. ملايين من السنين تتوالى وأنت في فراغ لا نبض ولا إحساس ولا شعور ولا خاطرة أو فكرة. عند ابن سينا استدل على حضور النفس بمثال الرجل المعلق في الفضاء. تصور أن هذا الحضور المبدع للنفس عندك ضاع وانتهى.
السؤال هنا هل يمكنك تصور ذلك؟
إن كانت الإجابة نعم، يمكن ذلك من حيث التصور الافتراضي، لكن هل يمكن من حيث التصور الواقعي الذي يترك أثرًا؟ وهل يمكن لهذا الأثر إلا أن يكون وجعًا قاسيًا حد الجنون؟
في عمق وجودنا، إن أعظم إهانة معنوية يمكن أن نتعرض لها هي الإهمال وازدراء الآخرين وصغار شأننا في نظر الذين يحوطوننا، وهو أمرٌ لطالما قامت ثورات بسببه، وقدّم فيه الناس أنفسهم شهداء على خط استرجاع الكرامة، واعتبروا ذلك هو معنى الحياة. فكيف إن كان الأمر ثقب الفراغ الأسود المعتم اللاشيء؟
لهذا آمن الناس بعقولهم أن الوجود لا يصير عدمًا، لأنهم ببديهة ما عندهم الفراغ محال يستوجب المحال. ولهذا قالوا: إن لا ضامن للخروج من فرض المحال إلا أن الوجود الدائم هو عين الضرورة اليقينية، والوجوب الكامل الذي نستند إليه فنسميه بما هو حريٌّ به أن يُسمّى، القيوم.
به كنا وبه نستمر وبه ندفع عنا ثقب الفراغ الأسود.
هنا لا عجب أن نقرأ في أدعية الأولياء كلامًا يخاطبون به الله ويعبرون عن حبهم له فيقول: إلهي لو أدخلتني النار لأعلمت أهلها أني أحبك.
هناك ما يفوق ألم النار هو الذي استدعى إعلان الحب، هو كرامة الوجود. وبرغم كل شيء ليس من طبع الرحمن أن يحرم عبده هذه الكرامة، وهو ما يلتقطه العارف أو الولي من معنى كرامة الوجود، فيعلن حبه الممزوج بالأمل اتجاه محبوبه أن يقبله في مقامات الأنس والخروج من الشقاء.
ليعود الأمر فينعكس في دنيا الحامدين لربهم رغم بلاءاتهم، إلا أنه ينظر للأمر بعين الناتج من حياة الدنيا وفراغ الثمار الإيجابية فيها ليقول: “فقد أفنيت بالتسويف والآمال عمري، وقد نزلت بك منزلة الآيسين من خيري، فمن يكون أسوأ حالًا مني”.
خياران أمام مواجهة الفراغ:
الخيار الأول: إما تحمّل البلاء بالحمد.
الخيار الثاني: وإما اليأس بعد طول الأمل والتسويف.
إن الفراغ، بل حتى مجرد تصور فكرة الفراغ أمرٌ لا يُحتمل. لذا، نبحث عن الوجود، وهذا ما عبّر عنه القدماء حينما قالوا: إن الطبيعة لا تحتمل الفراغ، ولهذا أقرّ الفلاسفة أن لا خلاء، بل الحياة والعالم والوجود كله ملاء؛ أن الوجدان لا الفقدان هو الحياة والعالم والوجود.
لن نستغرق كثيرًا في مدلهمات الفكرة، فالمهم أن وقوف المرء مع نفسه ووجوده يقتضي أن ينظر بنحو من الاستنارة إلى كل حقيقة ليحققها في سيره في الحياة ومدارات النظر الذي يُخرج الصورة إلى حاضرة البصيرة، بكل ما تقتضيه البصيرة من سد النقص لاستكمال السير نحو منبع الكمال بأبهى تجلياته ومصدر منبعه. وهنا نقف عند حافة الخيبة فيما نعرف وفيما نعيش. صحيح أن بداياتنا الأولى كانت أن ننفتح على الحياة والعالم، لنرقب ما فيهما بطفولة بريئة تمزج الاندفاع لمعرفة كل شيء بجمال ما يحيطنا.
نعدو خلف فراشات الأفكار والأحلام مذهولين مسرورين بأكوانها المتنوعة وطيرانها الفاتن، نلاحقها بلهفة من الفرح وتسلية وأنس للإحساس، لكن سرعان ما نكتشف أنها أطياف وموجودات عابرة. وهكذا كل ما كنا نحب ونتعلم ونعرف في وسط عيشنا الحي والأسرة والأصدقاء والمدرسة وأحاديث العابرين، أو المتخلفين هنا وهناك، نرصدها برغبة وحب، لكن كلّ شيء يتحول في سير من الزمن إلى أشبه بخاطرة مرّت، أو حلم مضى، لنستيقظ على ألم الفقدان والوقوع في فراغ، وأن نسعى نحو سلوى النسيان أو الخيبة، وهل هما إلا نحو من أنحاء الفراغ النسبي أيضًا؟
ترهقنا فكرة أن الموت يتولد من الولادة، وأن الفقدان أثر من الأنس والحب والعشرة، وأن الضياع كان وما زال نتيجة ما أمّلنا.
ترهقنا رغبتنا الطفولية أن نصبح كبارًا، فلمّا نكبر نكاد نلعن العمر والزمن الذي تقدم بنا، والذي فهمنا أنه كان فخ التردّي والمرض والموت، وثقل الحياة المعقدة التي لم نفهمها في الطفولة، ولم نفهمها بعد تقادم العمر. وغلب علينا الظن أنّ ملء أقداح الحياة بالأماني يقفل على يد القدر الإذنَ أن تَشغّر حياتنا بما تشاء.
لعل الأمر أننا لم نجن من الحياة ما ينبغي لأمان الواقع والمصير، لم نغرف من قدرات الحياة، ومن تراكم المعرفة ما يقفل أبواب النحوس والخيبة، لكن الخطورة الكبرى هي هنا، أننا كلما راكمنا أكثر تعبنا أكثر، عندما تصير قيمتك تتبرأ منك لأنك في نظر نفسك وفي نظر الناس إليك قيمتك ما يمكنهم أن يستغلوه مما تملك ولست أنت، فيقع بين ذانك وأقرب المؤنسين للوحشة غربة فراغ الظن في كهف السوء. وإذا ما تفرّعت ونمت معارفك بصيغ الحياة في ألغازها ونشاط فعالياتها أكثر، فأنت تصبح أكثر فأكثر أسير فراغ الصلة حتى تدمن العزلة والبعد، تتمنى أن لا تعرف أكثر، وأن لا تتعايش أكثر. هنا البصيرة إذا ما انبلجت وانقدحت أنوار أشعتها في عقلك ونفسك لعلك تتمرد على كل من أسمى الهداية الإلهية في الأديان أنها وصفات جاهزة، وذلك عندما تكتشف أنها حقائق ماثلة.
فليست الحياة الدنيا إلا متاع ودار غرور. حينها يأتي التحدي، فهل تجرؤ أن تقول لمِلء الوجود وقد نزلت بك منزلة الآيسين من خيري؟ وهي صرخة قرار نابع من عمق كيانك ومن وعيك للوجود والحياة، صرخة وعي لها ما بعدها، لتعيد ترتيب المشهد في الحياة على غير الفراغ وعبثية المعنى التي كنت عليها، لتقر الآن أن كل شيء، وكل صفحة من سجل العمر كان مملوءًا بالله بملء الوجود “أنا الصغير الذي ربيته، وأنا الجاهل الذي علّمته، وأنا الضال الذي هديته، وأنا الوضيع الذي رفعته، وأنا الخائف الذي آمنته، وأنا الجائع الذي أشبعته، وأنا العطشان الذي أرويته، وأنا العاري الذي كسوته، وأنا الفقير الذي أغنيته، وأنا الضعيف الذي قويته، وأنا الذليل الذي أعززته، وأنا السقيم الذي شفيته، وأنا السائل الذي أعطيته، وأنا المذنب الذي سترته، وأنا الخاطئ الذي أقلته، وأنا القليل الذي كثّرته، وأنا المستضعف الذي نصرته، وأنا الطريد الذي آويته”.
يقظة وعي تُحدث انقلابًا فيما كان من قلق الخيبة ليكون روح المعنى، خروج من الغربة إلى الوطن، ومن الفراغ إلى نعمة الوجود. انقلاب في عيش اللحظة من الحياة بما هي قطيعة مع ماضٍ ومستقبل، أو قطعٌ مع الرجاء والخير، إلى أن تصبح اللحظة نقطة التقاء مع وجود لا قطع معه، ولا قطيعة فيه. فطفولتي في محضر الوجود بدأت وهكذا استمرت.
أنا في كل ما مرَّ، كنت عندك وأبحث عنك، وأسأل عنك ولم ألتفت إلى حضورك؛ إذ حال بيني وبينك وهم العابرين وشخوصاتهم، والأنا ورغباتها، وكنت أنت الحقيقة الغامرة التي ما التفتّ إليها إلا عندما قتلني خوفي من فراغ الكهف والخيبة، فولدت من الموت من جديد لأعلم أنك أنت.
الدلالة الصوتية في القرآن الكريم (2)
الدكتور محمد حسين علي الصغير
عناصر الحياة نعم كبرى
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
هل تصورت الفراغ يومًا؟
الشيخ شفيق جرادي
اصنع ما تصنعه النملة!
عبدالعزيز آل زايد
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
معني (أبّ) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
فينومينولوجيا الغيب، بَداؤها عينُ خفائِها (4)
محمود حيدر
البيـت: قانون أو محبّة؟
الشيخ حسين مظاهري
الدماغ يوظف المعرفة القبلية بعد تفكيكها وإعادة تركيبها
عدنان الحاجي
مناجاة الذاكرين (8): اذكروني أذكركم
الشيخ محمد مصباح يزدي
الإمام الهادي: غربة على شفير السّمّ
حسين حسن آل جامع
سيّد النّدى والشّعر
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
الدلالة الصوتية في القرآن الكريم (2)
عناصر الحياة نعم كبرى
هل تصورت الفراغ يومًا؟
الرّويعي يدشّن ديوانه الشّعريّ الجديد (عطر الشّجرة الوحيدة)
اصنع ما تصنعه النملة!
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}
معني (أبّ) في القرآن الكريم
ما نأكله يُسبب السّمنة والأمراض، لكنّ الحلول في متناول اليد
أحمد آل سعيد: قضم الأظافر مشكلة سهلة الحلّ بشروط
فينومينولوجيا الغيب، بَداؤها عينُ خفائِها (4)