مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ شفيق جرادي
عن الكاتب :
خريج حوزة قُمّ المقدّسة وأستاذ بالفلسفة والعلوم العقلية والعرفان في الحوزة العلميّة. - مدير معهد المعارف الحكميّة (للدراسات الدّينيّة والفلسفيّة). - المشرف العام على مجلّة المحجة ومجلة العتبة. - شارك في العديد من المؤتمرات الفكريّة والعلميّة في لبنان والخارج. - بالإضافة إلى اهتمامه بالحوار الإسلامي –المسيحي. - له العديد من المساهمات البحثيّة المكتوبة والدراسات والمقالات في المجلّات الثقافيّة والعلميّة. - له العديد من المؤلّفات: * مقاربات منهجيّة في فلسفة الدين. * رشحات ولائيّة. * الإمام الخميني ونهج الاقتدار. * الشعائر الحسينيّة من المظلوميّة إلى النهوض. * إلهيات المعرفة: القيم التبادلية في معارف الإسلام والمسيحية. * الناحية المقدّسة. * العرفان (ألم استنارة ويقظة موت). * عرش الروح وإنسان الدهر. * مدخل إلى علم الأخلاق. * وعي المقاومة وقيمها. * الإسلام في مواجهة التكفيرية. * ابن الطين ومنافذ المصير. * مقولات في فلسفة الدين على ضوء الهيات المعرفة. * المعاد الجسماني إنسان ما بعد الموت. تُرجمت بعض أعماله إلى اللغة الفرنسيّة والفارسيّة، كما شارك في إعداد كتاب الأونيسكو حول الاحتفالات والأعياد الدينيّة في لبنان.

النسيان من منظور الفلسفة الدينية (1)

قد ينتج النسيان بفعل بيولوجي تسببه أمراض أو اضطرابات أو الشيخوخة؟ وقد يكون أحيانًا سببًا لمعالجة الصدمات والأحداث الاجتماعية، بحيث إن نسيانها الوقتي أو الظرفي يخفف عن كاهل الضغط الذهني كثيرًا مما يعانيه عاطفيًّا أو بإرباكات تطرأ على المرء.

 

إلا أن بعض الناس قد يرى فيه خيرًا معرفيًّا لأنه ينسيه ما كان يعلمه، أو بدقة أكثر ما تعلمه مما هو سائد، ومنقول وقديم ويفتح أمام الذهن والعقل خيارات معرفية جديدة. لا يقيّدها السائد والمعروف، وبدقة أكثر مرجعيات التفكير التي كان يستند عليها، حتى تحول الأمر عند بعضهم أن شرط التجدد والإبداع هو قطع الصلة بالقديم والمرجعيات، وأن الولادات الجديدة للعقل والحياة رهن ذلك، كما هو المعروف مثلًا عند نيتشه.

 

لن أرهق نفسي والقارئ بأسماء وشخصيات، بل ومدارس بعضها فلسفي رأت في النسيان قطيعة خير بين الماضي والحاضر. لكنني أريد استثارة الذهن ببعض الأسئلة: إذ كيف يمكن لعلم من العلوم أو لأي معرفة وخبرة أن ينمو من دون تراكم؟ وهل التراكم إلا البناء على المستفاد من الماضي الخاص بركن من المعرفة، أو حصن من الخبرة، أو تطور متسق لعلم من العلوم؟ ثم أليست المعارف والعلوم على صنفين؟

 

صنف يشيخ ولا يعود صالحًا لأي استخدام بفعل الاختبار والحكم عليه بشكل مبرهن، وهذا يكون النأي عنه بفعل وعي فيه وإرادة تجاوز منفتحة على التطور كما الحاصل مع كثير من العلوم. وهناك صنف آخر يبقى يشكل مرجعية للتدبر والتأمّل والبناء عليه في أي تطور يعيد قراءته كالفلسفة والشعر والفن وبقية الأمور الإبداعية.

 

لماذا ما زالت مثلًا ملاحم الأساطير حيّة في أعمال المُحدثين، وأشعار الجاهلية تمثل نموذج الإبداع، وكتب الحكماء والأدباء محل نظر واستخراج لكنوز المعاني؟ لماذا ما زالت أسماء فلاسفة قدماء حيّة في ضمير كل فلسفة معاصرة تسعى للانطلاق من مقولاتهم وتبرز التجدد على وِفق المغاير أو المؤالف لهم؟ لماذا ما زالت مدارس الرواقية والأبيقورية، ومدارس الحكمة الهندية القديمة تلمع من حين لآخر في تجارب كتابات ومدارس فلسفية، إن كانت القطيعة أصل للتجدد والإبداع؟

 

إنها قضية الذاكرة بما تحمل من معنى التراث والنسيان، وبما يعني من حداثوية وقطيعة. وهذا أحد تجليات معنى النسيان وإشكالياته التي يمكن الإشارة إليها.

 

لكن النسيان قد يتحول ليكون إشكالية أخلاقية، فمثلًا هل يمكن التغاضي عن جريمة بشعة بسبب التقادم وطيها بالنسيان؟ وهل هذا يبرئ المجرم من ارتكاب فعلته؟ هل يبرّر النسيان شكر إنسان أخرجك من الدَيْن والفقر المدقع، وناصر قضيتك بكل ما يمكن من إمكانات ورهن جهده ووقته، بل ومستقبله وحياة عائلته من أجلك ومن أجل قضيتك، أن لا تلتفت إليه بكل صنوف المنّة والشكر حتى في اللحظة التي لاقيته فيها بعد إنقاذك، وأن تمر عليه كأي عابر سبيل، وعذرك في ذلك “نسيت”، دون أن تسمّى جاحدًا؟ هل يمكن لإنسان صالح أن ينسى إحسان والدين صالحين عليه في تنشئته وتربيته، فلا يبرّهما في حياتهما دون أن يسمّى عقوقًا؟

 

حتى الوطن الذي ينسى شهداءه وباذلي الأنفس من أجل حفظه وديمومة استمراره هو وطن بلا كرامة وعزة، بل وبلا تاريخ. ومن لا تاريخ له لا مستقبل له، ومن لا ذاكرة برّ عنده ووفاء تقضيان الشكر فإنه يخرج من حد الإنسانية إلى حد الضياع؛ إذ بعض هذا النسيان هو في حقيقته تنكّر أخلاقي وثقافي وسياسي، يلامس في أثره ولوازمه حدود النسيان الوجودي الآثم الذي قد يصنَّف شرًّا، لا خير فيه.

 

ومن أخطر النسيان وأكثره تغولًا واستغرابًا نسيان الذات؛ وهو معنى يختلف عن شجاعة بذل الذات من أجل بنائها، أو نصرة قضية عزيزة أو هيمانًا بالحق وفداءً من أجل رسالة أو وطن. فالنسيان هنا ليس نسيانًا، بل هو صبر في تحمّل الهم حد الشهادة التي تهب الحياة لكل شيء بإحياء النفس والذات على وفق المعنى وإقامة أركان كل ما هو طيب من الحياة وحقٌ في الوجود. أما النسيان بمعناه الوجودي الخطير فهو نسيان ما تقوم عليه النفس في وجوده، أو ترك جذورها والوفاء لها مما يشكل حقيقة هويتها، أو غفلتها عن مصيرها ومآلاتها الأخيرة. فإن هذا النسيان والغفلة والترك أثره الوجودي هو نسيان النفس نفسها.

 

ولقد وضعت الفلسفة الدينية موضوع النسيان والغفلة في مقابل الذكر والتنبه، بحيث إن بعض الفلاسفة الدينيين ذهب للقول: إن هذا النسيان هو منشأ الخطيئة الأصلية الذي سبب الاغتراب عن الوطن والنزول إلى الدنيا وولّد القطيعة مع الحياة، إذ كان هو سبب الموت.

 

كما واعتبرت الفلسفات الهندية الصوفية منها أن النسيان هو غلاف الحقيقة وخفاؤها، كما اعتبر بعض مؤولي فلسفة أفلاطون أن تجاوز النسيان إنما يكون بالعودة الكاملة للنفس نحو عالم المثل، وأن التذكر؛ لا الذكر؛ هو مفتاح كل معرفة حقيقية.

 

ما سأسعى لطرحه هنا يرتبط بمرجعية الفلسفة الدينية - الإسلامية. لأشدّد أن هذه المرجعية وإن انطلقت من زاوية القراءة أو الأسس الفلسفية إلا أنها عالجت أمور الوجود والحياة بتركيز كبير على النص الديني الذي يتمثل بالقرآن الكريم أساسًا. من هنا فهي تعاملت مع النسيان والغفلة في قبال الإشراق والذكر الذي أول ما يتجلّى عند النفس باليقظة، ولم تعتبر هذه الفلسفة أن الدنيا هي النسيان، أو أنها نشأت عن النسيان، بل ذهبت لاعتبارها دار بلاء، ومن هذا البلاء الغفلة والنسيان. الناتج عن كون الفطرة الإنسانية كما فيها قابلية الانفتاح الكمالي على عالم الوجود والحياة، فيها قابلية الانغلاق على المألوف حولها من مزاحمات الدنيا وبهارجها الذي يسبب نسيان نور الحقائق والحق الأول؛ أو تذكر الواجبات وإيلاء النفس حقها من إدراكها والتزامها بها إما بفعل تركها عن عمد، أو الغفلة والنسيان القهري أو الإرادي لتلك الالتزامات. مما يعبّر عن تراخ وانغماس في هوس الدنيا وتفاصيل متاعها، مما أطلق عليه القرآن الكريم اسم اللهو واللعب.

 

إن طبيعة النفس أن تتآلف وتعتاد المتكرر أمامها بحيث يصبح المألوف عندها هو المستقر، وبرغم أن مشاهد الموت ووقوعه خاصة فيمن هم أعزاء يوقظ النفس على حقيقة المآل، إلا أنها سرعان ما تنسى فتعود إلى ما كانت عليه دون أن يتحول حدث الموت إلى آية تدلّل وتشير إلى حقيقة ملاقاة المصير والعودة إلى الله، وعلى شاكلة الموت أمور كثيرة تقع أمام أعين الناس كذكرى تستفزها إلا أنها تعود فتغفل عنها، وقد صادق القرآن على هذه الحقيقة من واقع الناس حينما جاء في القرآن: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى[1].

 

الآية تعبير لواقع وجودي في بناء الذات الإنسانية قائم على لازمة العمى الناتج عن نسيان؛ بمعنى الغفلة والإهمال؛ لحقائق ساطعة أمام الناس فلا تثير فيهم تنبّهًا أو ذكرًا. أهملوها ونسوها بمعنى أنهم أعرضوا عنها ولم يولوها الاهتمام اللازم، فكان أثر ذلك هو سقوط في بؤرة الضياع عن الذات ضياعًا يتجلى لحظة المصير بصورة عمًى ناتج عن أن القيوم على كل ذات أفقد تلك الذات نورها وحضورها الماثل، فصارت هُملًا منسيًّا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  سورة فاطر، الآيتان 125و 126.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد