قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

الألفة والانفراديّة في القرآن الكريم (1)

إنّ الإسلام يرى أنّ «يَدُ اللهِ مَعَ الجَماعَةِ» كما ورد في الحديث الشريف، وإنّ أي ابتعاد عن صفوف المسلمين يؤدّي إلى نفوذ الشيطان واستيلائه على الإنسان كما ورد في نهج البلاغة: «والشَاذُّ مِنَ الغَنَمِ لِلذِّئِبِ» [1]. ولنستعرض الآيات القرآنية الشريفة في هذا الموضوع:

 

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [2]. (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) [3].

 

(هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[4]. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) [5]. (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) [6].

 

تفسير واستنتاج:

 

إنّ كل واحدة من الآيات الشريفة المذكورة آنفاً تشير إلى جهة خاصة من مسألة أهميّة المعاشرة والاجتماع، وأهميّة الوحدة والاتّحاد بين أفراد المجتمع، ففي «الآية الأولى» نقرأ دعوة إلى الاعتصام بحبل الله والتمسك به وعدم سلوك طريق الفرقة والاختلاف وتقول: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً).

 

أمّا ما هو المراد من حبل الله الوارد في الآية الشريفة؟ فإنّ المفسّرين اختلفوا في ذلك، وقد ورد في بعض الروايات الشريفة أنّ المراد منه هو القرآن الكريم الذي ينبغي أن يتّخذه المسلمون محوراً لوحدتهم وتماسكهم، وفي بعض الروايات الأخرى ذكرت أنّ المراد من حبل الله هو أهل البيت (عليهم ‌السلام)، ومعلوم أنّ كل هذه المعاني تشترك في حقيقة واحدة، وهي أنّ حبل الله تعالى هو ما يربط الإنسان بالله تعالى سواء عن طريق القرآن الكريم أو النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم ‌السلام).

 

وكما نرى أنّ هذه الآية الشريفة تؤكّد على مسألة المودّة ووشائج المحبّة بين المسلمين وترك العداوة والفرقة، ومن المعلوم أنّ ذلك لا يتوافق مع عزلة الإنسان وانزوائه عن المجتمع ولا مفهوم حينئذٍ للاعتصام بحبل الله تعالى، واللطيف أنّ القرآن الكريم في الآية أعلاه يقرّر أنّ العداوة هي من سنن الجاهلية وأنّ المحبّة والصداقة هي من خصائص الإسلام ويقول في ذيل الآية الشريفة مؤكّداً على هذا المعنى: (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها).

 

والجدير بالذكر أنّ الإسلام لا يرى العلاقة بين المسلمين هي علاقة الصداقة فحسب، بل علاقة الأخوة التي تعمّق في الناس الرابطة العاطفية بين الإخوان القائمة على أساس المساواة والمحبّة المتبادلة.

 

وبديهي أنّ هذه المحبّة الأخوية لا يمكن أن تتجلّى وتتفاعل في حال ابتعاد الأخوة عن بعضهم البعض، فلا بدّ لتفعيل هذه العاطفة الإنسانية من الحياة المشتركة والمعاشرة فيما بين الأخوة.

 

والملاحظة المهمّة الأخرى هي أنّ الأمور المادية والدنيوية لا يمكن أن تكون محور وحدة المجتمع وأداة قويّة لتعميق الروابط الاجتماعية بين الأفراد، لأنّ الأمور المادية عادة تكون سبباً للتنازع والاختلاف والفرقة، فحاجات الناس الدنيوية والمادية غير محدودة، وأمّا الأمور المادية في الطبيعة فمحدودة، ومن هنا ينشأ التضاد والاختلاف، ولكن حبل الله تعالى والارتباط مع الله تعالى هو أمر معنوي وروحاني ويمكنه أن يحقّق أفضل رابطة عاطفية بين أفراد البشر من كل قوم ولون وقبيلة ولغة.

 

وتأتي «الآية الثانية» لتتحدّث لنا عن المصير المؤلم للأشخاص الذين يعيشون بعيداً عن جماعة المسلمين ويسلكون سبيلاً مستقلاً ومنفصلاً عن المجتمع الإسلامي وتقول: (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).

 

هذه الآية تدلّ بوضوح على أنّ الله تعالى يأمر المسلمين في المجتمع الإسلامي بضرورة الالتزام الاجتماعي وعدم الانفصال والفرقة وأن يسير المؤمنون سويّة في خط الإيمان والانفتاح على الله تعالى، ومع الأخذ بنظر الاعتبار جملة (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) وكذلك عبارة (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) يتّضح جيداً أنّ المراد هو التنسيق بين أفراد المجتمع الإنساني من خلال اتّباع النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) والسير إثر خطواته الحكيمة في خط الإيمان والطاعة لله تعالى حيث تكون التقوى والإيمان محوراً للسلوك الاجتماعي، وإلّا فلا معنى لأنّ تعني الآية مفهوم المعاشرة الاجتماعية بدون هذا المحور المعنوي.

 

ولا شكّ أنّ النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) مع الجماعة دائماً، فكان يصلّي معهم خمسة مرّات في اليوم ويصلّي صلاة الجمعة في اجتماع أعظم، وكذلك في اجتماع المسلمين العام لمراسم الحج، فكل هذه البرامج العبادية تنضوي تحت مدلول الآية الشريفة، ومعلوم أنّ الأشخاص الذين يعيشون الانزواء والعزلة وينفصلون عن جماعة المؤمنين سيكونون مشمولين للتهديد والوعيد وبالعذاب الأليم المذكور في الآية الشريفة.

 

بعض علماء أهل السنة استدلّوا بهذه الآية الشريفة على حجّية الإجماع، ونحن لا نرى مانعاً من الاستدلال بهذه الآية على حجّية إجماع المسلمين، ولكنّ هذا الإجماع يجب أن يتضمّن حضور الإمام المعصوم أيضاً، وفي الاصطلاح الأصولي يعبّر عنه بالإجماع الدخولي أو الإجماع الكشفي الذي يكون هو الحجّة في عملية الاستدلال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] نهج البلاغة ، الخطبة 127.

[2] سورة آل عمران ، الآية 103.

[3] سورة النساء ، الآية 115.

[4] سورة الأنفال ، الآية 62 و 63.

[5] سورة الصف ، الآية 4.

[6] سورة الحديد ، الآية 27.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد