مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

التوسّل بدعاء الرسول الأكرم

 

الشيخ جعفر السبحاني .. 

إنّ للنبي الأكرم مكانة مرموقة عند ربّه ليس لأحد مثلها، فهو أفضل الخليقة، وقد بلغت عناية القرآن الكريم ببيان نواح من مناقبه إلى حد لا ترى مثل ذلك إلاّ في حق القليل من أنبيائه، وربما يطول بنا الكلام إذا قمنا بعرض جميع الآيات الواردة في حقّه، وإنّما نشير إلى بعضها.

فقد أشار الذكر الحكيم إلى مكانته المرموقة ولزوم توقيره وتكريمه وأنّه لا يصلح دعاؤه كدعاء البعض للبعض بقوله سبحانه: { يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيِّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } (الحجرات/2) وقال سبحانه أيضاً: { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } (النور/63).

وإلى كماله الرفيع وإمامته وكونه قدوة وأُسوة للمؤمنين يتأسّون به في قِيَمه ومُثُله العليا، بقوله سبحانه: { لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً } (الأحزاب/21).

وإلى عظمته وكرامته عند الله بحيث يصلّي عليه سبحانه وملائكته فأمر المؤمنين أن يصلّوا عليه بقوله: { إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً } (الأحزاب/56).

وإلى صفاء نفسه وقوة روحه وجمال خلقه بقوله: { إنّك لعلى خُلق عظيم } (الشعراء/137).

وإلى عكوفه على عبادة ربّه وتهجّده في الليل وسهره في طريق طاعة الله بقوله: { إنّ ربّك يعلم أنّك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك } (المزمل/20).

وإلى غزارة علمه بقوله: { وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً } (النساء/113).

وإلى أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد الأمانين في الأرض بقوله: { وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون } (الأنفال/33).

قد بلغت كرامة الرسول ـ عند الله ـ إلى حدّ يتلو اسمه، اسم الله وينسب إليهما فعل واحد ويقول: { وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردّون إلى عالم الغيب والشّهادة } (التوبة/94).

وقال سبحانه: { من يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } (الأحزاب/71).

وقال الله سبحانه: { وما نقموا إلاّ أن أغناهم الله ورسوله من فضله } (التوبة/74).

إلى غير ذلك من الآيات التي اقترن فيها اسم نبيه إلى اسمه سبحانه ونسب إليهما فعل واحد وشهدت بكرامته عند الله وقربه منه، فإذا كانت هذه منزلته عند الله، فلا يرد دعاؤه، وتستجاب دعوته، فيكون دعاء مثل تلك النفس غير مردود، والمتمسك بدعائه متمسكاً بركن وثيق وعماد رصين، ولأجل تلك الخصوصية نرى أنّه سبحانه يأمر المذنبين من المسلمين إلى التمسّك بذيل دعائه، ويأمرهم بأن يحضروا الرسول الأعظم ويستغفروا الله في مجلسه ويسألونه أن يستغفر لهم أيضاً، فكان استغفاره لهم سبباً لنزول رحمته وقبوله توبتهم، قال سبحانه: {وما أرسلنا من رسول إلاّ ليطاع بإذن الله ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لهم الرَّسول لوجدوا الله توّاباً رحيماً } (النساء/64).

نرى أنّه سبحانه في آية أُخرى يندّد بالمنافقين بأنّه، إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله، لوّوا رؤوسهم، يقول سبحانه: { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لوّوا رؤوسهم ورأيتهم يصدّون وهم مستكبرون } (المنافقون/5).

وما هذا إلاّ لأنّ دعاء الرسول دعاء مستجاب، ودعوته مقبولة، واستغاثته مستجابة، لأنّه نابع من نفس طاهرة مؤمنة راضية مرضية.

إنّ من الظلم الواضح تسوية دعاء النبي بسائر المسلمين والتعبير عن دعائه (صلى الله عليه وآله وسلم) بدعاء الأخ المؤمن! وجعل الجميع تحت عنوان واحد، فإنّ لدعاء الأخ المؤمن مقاماً رفيعاً، ولكن أين هو من دعاء الرسول؟!

إنّ التوسّل بدعاء الإنسان الأمثل كان رائجاً في الرسالات السابقة، نرى أنّ أبناء يعقوب بعدما كُشِفَ أمرهم وبان ظلمهم توسّلوا بدعاء أبيهم النبيّ وقالوا له: { يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنّا كنّا خاطئين * قال سوف أستغفر لكم ربّي إنّه هو الغفور الرحيم } (يوسف/97 ـ 98).

ففي هذه الآيات دلالة واضحة على أنّ رحمة الله الواسعة تارة تنزل على العبد مباشرة وبدون واسطة، وأُخرى تنزل على طريق أفضل خلائقه وأشرف رسله، بل مطلق رسله وسفرائه.

وفي ذلك دلالة على وهن ما يلوكه بعض الناس ويقولون: إنّه سبحانه أعرف بحال عبده وأقرب إليه من حبل الوريد يراه ويسمع دعاءه، فلا حاجة لتوسط سبب والتوسّل بمخلوق و...، هذه الكلمات تصدر عمّن ليس له إلمام بالقرآن الكريم ولا بالسنّة النبوية ولا بسيرة السلف الصالح إذ ليس الكلام في علمه سبحانه، بل الكلام في أمر آخر وهو أنّ دعاء الإنسان الظالم لنفسه ربما لا يكون صاعداً إلى الله تبارك وتعالى ومقبولا عنده، ولكنّه إذا ضمّ إليه دعاء الرسول أصبح دعاؤه مستجاباً وصاعداً إليه سبحانه.

وللشيخ محمد الفقّي ـ من علماء الأزهر الشريف ـ كلام في المقام نأتي بملخّصه.

لقد شرّف الله تعالى نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأسمى آيات التشريف، وكرّمه بأكمل وأعلى آيات التكريم، فأسبغ عليه نِعَمه ظاهرة وباطنة، وتوّجه بأعظم أنواع التيجان قدراً وذكراً، وأرفع الأكاليل شأناً وخطراً. فذكر منزلته منه جلّ شأنه حياً وميتاً في قوله تعالى: { إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيّها الّذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً } فأيّ تشريف أرفع وأعظم من صلاته سبحانه وتعالى هو وملائكته عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وأيّ

تكريم أسمى بعد ذلك من دعوة عباده وأمره لهم بالصلاة والسلام عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

ولم يقف تقدير الله تعالى له عند هذا التقدير الرائع، بل هناك ما يدعو إلى الإعجاب ويلفت الأنظار إلى تعظيم على جانب من الأهمية، ألم تر في قوله تعالى: { لعمرك إنّهم لفي سكرتهم يعمهون } ما يأخذ بالألباب ويدهش العقول، فقد أقسم سبحانه وتعالى بنبيّه في هذه الآية: { وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم } قال ابن عباس (رضي الله عنه): ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفساً أكرم على الله من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): وما سمعتُ أنّه تعالى أقسم بحياة أحد غيره، والقرآن الكريم تفيض آياته بسموّ مقامه، وتوحي بعلوّ قدره، وجميل ذكره، فقد جعل طاعته (صلى الله عليه وآله وسلم) طاعة له تعالى وقوله عزّ من قائل: { من يطع الرَّسول فقد أطاع الله } وعلّق حبّه تعالى لعباده على اتّباعه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما بعث به وأرسل للعالمين، إذ يقول سبحانه: { قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله }.

وممّا يدل على مبلغ تقديره، ومدى محبة الله تعالى، وتشريفه لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه } ، قال عليّ (رضي الله عنه): " لم يبعث الله نبياً من آدم فمن بعده إلاّ أخذ عليه العهد في محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لئن بعث وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه ويأخذ العهد ".

ففي ملازمة جبريل له (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة إلى بيت المقدس أكبر مظهر من مظاهر الشرف والفخار، وأسمى آية من آيات التقدير للرسول الأعظم في حياة الأُمم وتأريخها. فهذه الآيات التي قصصتها وجئتكم بها وإن كانت كلّها بصائر وهدى ورحمة لقوم يؤمنون لا أرى مانعاً من ذكر ما عداها، ففيها تنبيه الغافلين إلى مزيد من النظر فيما عساه أن يقنعهم ويهديهم إلى الإيمان بما جاءت به الآيات البيّنات، وما يوحي به الدين وتعاليمه القويمة، فمن روائع ما يتمتع به من العظمة الصلاة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) عند بدء الدعاء وختمه، فإنّ في ذلك القبول والاستجابة، فقد صحّ عن عمر وعليّ ـ رضي الله عنهما ـ أنّهما قالا لرجل دعا ولم يصلِّ على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يرفع ولا تفتح له الأبواب حتى يصلّي الداعي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومثل هذا لا يقال من قبيل الرأي فهو في حكم المرفوع، بل قد ثبت هذا مرفوعاً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وأخيراً قد دلّ قوله تعالى: { ورفعنا لك ذكرك } على علوّ مكانته وجليل قدره وعظم شأنه، إذ المعنى في ذلك أنّنا قرنّا اسمك باسمنا، وجعلنا الإيمان لا يتحقّق إلاّ بالنطق بالشهادتين، وغير ذلك من براهين الشريعة وأدلّتها التي لا تحصى ولا يمكن أن تستقصى.

وإليك ما قاله حسان بن ثابت صاحب الرسول وشاعره:

اغرَّ عليه للنبوّة خاتم  من الله من نور يلوح ويشهد

وضمّ الإله اسم النبيّ إلى اسمه  إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشقَّ له من اسمه لِيُجلَّه   فذو العرش محمود وهذا محمد

إنّ السبب الواقعي لاستجابة دعائه إنّما هو روحه الطاهرة ونفسه الكريمة وقربها من الله سبحانه، وهي التي تضفي للدعاء أثر التأثير وتجعله صاعداً ومدعماً لدعاء الغير.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد