علمٌ وفكر

التفكير النقديّ محمد باقر الصدر أنموذجاً (2)

 

حيدر حب الله ..

النوع الثاني: التفكير الفهميّ

في هذا النوع من التفكير هناك أشخاصٌ رأيناهم في عموم المحافل العلميّة لديهم قدرةٌ جيّدة على النقد والتحليل، لكنّهم لا يملكون تلك القدرة على فهم ما يقوله الآخر. وهذا الأمر فنٌّ من الفنون.

فمن الممكن أن يفكِّر الشخص، وينتج أفكاراً، لكنْ قد يكون عاجزاً عن فهم أفكار الآخرين.

ولو تأمّل الإنسان قليلاً لرأى كيف أنّه ربما يعاني من هذه المشكلة، وهي العجز عن فهم الآخر، وتحليل أفكاره، واستيعاب جميع جوانب رأيه. وهذا ما يؤدّي إلى الوقوع في أخطاء كبيرة؛ إذ غالباً ما يكون النقد قائماً أو منبعثاً من عدم وجود فهمٍ صحيح للآخر، ومن ثمّ يصبح نقداً خاطئاً، حتّى لو كان النقد يكشف عن توقُّدٍ ذهنيّ وذكاءٍ خاصّ.

أوّل مهمّةٍ في العمليّة النقديّة هي فهم الشيء المراد نقده. وقدرة الفهم والاستيعاب ليست أمراً في متناول الجميع، ولا سيَّما إذا كان الآخر لم يُجْلِ نفسَه ويوضِّحها. وفي مثل هذه الحال لا بُدَّ من الحفر والتنقيب؛ لاستجلاء مكنون أفكاره وشرحه وتحليله. وبعد كلِّ هذا تأتي عمليّة النقد أو الموافقة.

هناك أشخاصٌ تجدهم أقوياء في النقد، لكنّهم ضعفاء في الفهم. والعكس صحيحٌ؛ إذ هناك أشخاص أقوياء في الفهم، ولكنّهم عاجزون عن نقد ما يُطْرَح.

والجمع بين الفهم والنقد ليس أمراً بسيطاً. والغالب في حياتنا العلميّة هو الوقوع في أحد الخطأين؛ إمّا خطأ الفهم؛ أو خطأ النقد. وهي مشكلةٌ أساسيّة في هذا الإطار.

وإذا جئنا إلى السيد الصدر فيكفينا كاشفاً عن وجود تفكير استيعابيّ وفهميّ لنظريّات وأفكار الآخرين عنده قدرتُه على شرحها؛ فإنّ أهمّ علامةٍ دالّة على استجلاء فهم الطرف الآخر للأفكار والرؤى هي التمكُّن من شرح الأفكار وإيضاحها بتسلُّطٍ وهيمنة. وكما عبّر بعض أساتذتنا: إنّ أولئك الذين لا يتمكَّنون من إيضاح الفكرة متَّهمون ـ في الجملة ـ بأنهم لم يفهموا حتّى فكرتهم أيضاً، وأمّا أولئك الذين قدروا على طرح الفكرة بأسلوبٍ واضح وجليّ، وشرحوها باستيعاب، فهم يملكون ذلك العقل القادر على فهم الأشياء، واستجلاء عناصرها، وتحليل مفرداتها ومكوّناتها.

وإذا رجعنا إلى (فلسفتنا) و(اقتصادنا) و(الأسس المنطقيّة)، حيث شرح النظريّات الاشتراكيّة والرأسماليّة والوضعية، بحَسَب ما توفَّر عنده من مصادر، وكذا إذا رجعنا إلى موروثه الفقهي والأصولي، أقول: مراجعة ذلك تكشف بطريقةٍ جليّة عن القدرة الواضحة على فهم الآخرين، والقيام بشرحٍ وتحليل لأفكارهم، بطريقة ربما تكون أكثر من قدرة أصحاب الفكرة نفسها على شرحها وتحليلها وتفكيكها في بعض الأحيان. وهذه علامةٌ مهمّة لضمان سلامة التفكير.

من هنا؛ ولكي تنتظم عمليّة التفكير، لا بُدَّ من استلهام المنهج الفكريّ المنظَّم من هذا الرجل العظيم، في مقابل العشوائيّة الضاربة في أوساط الكثيرين في العالم الإسلاميّ.

كما نستلهم منه أيضاً قدرة الفهم التي تحتاج إلى الصبر وعدم الاستعجال. ففي كثيرٍ من الأحيان نجد أنّ أشخاصاً كُثراً يعلِّقون على أفكار بعضهم ببعض التعليقات الكاشفة عن عدم قراءتهم، أو عدم فهم ما قاله الآخرون؛ جرّاء الاستعجال في الفهم. وهذه نقطةُ عيبٍ كبيرة جدّاً ومعقّدة.

وأعتقد أنّ هذه الخصلة عند السيد الصدر ـ وهي القدرة على البيان النابعة من القدرة على الفهم ـ يمكن أن تكون مُلْهِماً لنا في سبيل تطوير طرائق تفكيرنا، أو بتعبيرٍ أدقّ: لتجويد طرائق تفكيرنا في هذا الإطار.

 

النوع الثالث: التفكير النقديّ أو بصيرة النقد

التفكير النقديّ هو التفكير الذي ينبني على عدم التقليد، فأولئك الأشخاص الذين اعتادوا في حياتهم على أن يجعلوا عقولهم مقلِّدة لا يعرفون التفكير النقديّ في شيءٍ، بل من الصعب عليهم أن ينقدوا ذلك الذي قلَّدوه، ونقدُهم لغيره عادةً ما يكون تقليداً لمقلَّدهم في النقد. وأساس التفكير النقديّ هو التحرُّر من سلطةٍ فكريّة أقوى تهيمن على الإنسان، ومن ثَمّ فالخطوة الأولى هي أن يتجرّأ على توجيه السؤال العلميّ لهذه السلطة نفسها. وإذا لم يملك الإنسان هذه الجرأة ـ والتي هي بُعْدٌ تربويّ نفسي ـ فإنه لن يوفَّق في ممارسة أيّ تفكيرٍ نقديّ. نعم سيوفَّق رُبَما للدفاع عن فكرةٍ، لا في نقدها. وكثيرون في الساحات العلميّة يجيدون عمليّة الدفاع عن هذا المفكِّر أو الفقيه أو العالم أو ذاك، وعن هذه الدولة أو تلك، وعن هذا التنظيم السياسي أو ذاك، ولكنَّهم لا يجيدون نقدهم ونقد أفكارهم. فالدفاع يشبه النقد، لكنَّه يختلف عنه بخيطٍ رفيع.

 

التفكير النقديّ تفكيرٌ رافض للتقليد، ويطمح لتوجيه أسئلةٍ. وهو بطيء التصديق في الوقت نفسه؛ فإنّ الإنسان الذي يمتلك تفكيراً نقديّاً تجد التصديق عنده متأخِّراً؛ لأنّ الأفكار حين تأتي إلى ذهنه سوف تخضع لمعالجةٍ وتصفية، وكأنَّه يضعها في حقلٍ حراري أو إشعاعي معيَّن، ثمّ بعد ذلك تأتي مرحلة التصديق بها. فحين يسمع خبراً أو قصّة أو حادثة، أو يُنْقَل له كلامٌ، أو يرى فكرةً، فهو متريِّثٌ في الاقتناع بها، وبطيء التصديق، بخلاف المقلِّد، الذي هو سريع التصديق للجهة التي يقلِّدها عادةً. وهذه نقطةٌ مهمّة في هذا الموضوع.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد