مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

أهمية الأخلاق في القرآن والأحاديث


الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ..
البحث الأخلاقي يعدّ من أهم الأبحاث القرآنيّة والحديثية، ويعتبر من أهمّ أهداف الأنبياء كذلك، إذ لولا الأخلاق، لما فهم الناس الدّين ولَما استقامت دنياهم وكما قال الشّاعر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بَقيتْ *** فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذَهبوا
فلا يُعتبر الإنسان إنساناً إلاّ بأخلاقه، وإلاّ سوف يصبح حيواناً ضارياً كاسراً، يحطّم ويكتسح كلّ شيء، وخصوصاً وهو يتمتّع بالذّكاء الخارق، فيثير الحروب الطّاحنة، لغرض الوصول لأهدافه الماديّة غير المشروعة، ولأجل أن يبيع سلاحه الفتّاك، يزرع بذور الفُرقة والنّفاق ويقتل الأبرياء!
نعم، يمكن أن يكون متمدّناً في الظّاهر، إلاّ أنّه لا يقوم له شيء، ولا يميّز الحلال من الحرام، ولا يفرّق بين الظّلم والعدل، ولا الظّالم والمظلوم!
بعد هذه الإشارة نعرّج على القرآن الكريم لنستوحي من آياته الكريمة التالية، تلك الحقيقة:
1- (هُوَ الَّذي بَعَثَ في الأمّيينَ رَسُولا مِنْهُم يَتلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلال مُبين)(الجُمعة:2).
2- (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمؤْمِنينَ اِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلال مُبين)(آل عمران:164).
3- (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(البقرة151:).
4- (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزيزُ الْحَكِيم)(البقره:129).
5- (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها)(الشّمس:9-10).
6- (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى * وَذَكَرَ اسْمَ ربِّهِ فَصَلّى)(الأعلى:14-15).
7- (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلّهِ)(لقمان:12).
الآيات الأربع الأُول: تقرّر حقيقةً واحدةً، ألا وهي، أنّ إحدى الأهداف المهمّة، لبعثة النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، هو تزكية النّفوس وتربيّة الإنسان، وبلورة الأخلاق الحسنة، في واقعه الوجداني، بحيث يمكن أن يقال: إنّ تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة التي أشارت إليها الآية المباركة الأولى، يعُد مقدمة لمسألة تزكية النّفوس وتربية الإنسان، والذي بدوره يشكّل الغاية الأساسيّة لعلم الأخلاق.
ولأجل ذلك يمكن تعليل تقدم كلمة: "التزكية"، على: "التعليم"، في الآيات الثلاث، من حيث إنّ "التّزكية" هي الهدف والغاية النهائيّة، وإن كان "التّعليم" من الناحية العمليّة مقدمٌ عليها.
وإن نظرنا "للآية الرابعة": من بحثنا هذا، وتقديمها لكلمة التّعليم على التّزكية، فهي ناظرةٌ إلى المسألة من حيث الترتب العملي الطبيعي لها، باعتبار أنّ التّعليم مقدمةٌ "للتربية والتّزكية".
ولهذا نرى أنّ الآيات الأربع الأولى، كلّ منها تنظر إلى المسألة من منظارها الخاص.
وليس بعيداً احتمال رأيٌ آخر، من التّفسير في الآيات المباركة الأربع، وهو أنّ الغرض، من التّقديم والتّأخير الحاصل لهذين الكلمتين: (التّربية والتعليم)، باعتبار أنّ إحداها تؤثّر في الأخرى، يعني كما أنّ التعليم الصّحيح يكون سبباً في الصّعود بالأخلاق، وتزكية النّفوس، تكون تزكية النفوس هي الأخرى مؤثّرة في رفع المستوى العلمي، لأنّ الإنسان بوصوله للحقيقة العلميّة، يكون قد تطهر من "العناد" و"الكِبر" و"التّعصب الأعمى"، حيث تكون الأخيرة مانع من التّقدم العلمي، ومعها سوف يُران على قلبه على حد تعبير القرآن الكريم، ولن يرى الحقيقة كما هي في الواقع.
ويمكن الإشارة إلى نكات أخرى في الآيات الكريمة الأربعُ:
الآية الأولى: تشير إلى أنّ بعث رسول يُعلِّم الأخلاق، هي من علامات حضور الباري تعالى في واقع الإنسان لتفعيل عناصر الخير في وجدانه، وأنَّ النقطة المعاكسة (للتربية والتعليم) هي الضّلال المبين، فهي تبين مدى اهتمام القرآن الكريم بالسلوك الأخلاقي للإنسان في حركة الحياة.
الآية الثّانية: نجد فيها أن إرسال رسول يُزكيهم ويُعلّمهم الكتاب والحكمة، هي من المنن والمواهب الإلهيّة العظيمة، التي منّ الله بها علينا، وهي دليل آخر على أهميّة الأخلاق.
الآية الثّالثة: وهي الآية التي نزلت بعد آيات تغيير القبلة، من القدس الشّريف إلى الكعبة المشرّفة، حيث عُدَّ هذا التغيير من النّعم الإلهيّة الكبرى، وأنّ هذه النعمة هي كإرسال الرسول للتعليم والتّزكية وتعليم الإنسان أموراً لم يكن يعلمها ولن يتمكن من الوصول إليها إلاّ عن طريق الوحي الإلهي1.
الآية الرّابعة: تتحدث عن أنّ إبراهيم الخليل عليه السلام، وبعد إكماله لبناء الكعبة، طلب من الباري تعالى: أن يخلق من ذريّته اُمّةً مسلمةً; وأن يبعث فيهم رسولًا من ذريّته، ليزكّيهم في دائرة التربية الأخلاقيّة، ويعلّمهم الكتاب والحكمة.
الآية الخامسة: نجد أن القرآن الكريم، وبعد ذكر أحدَ عشرَ قَسَماً مهماً، وهي من أطول الأقسام في القرآن، قسماً بالشّمس والقمر والنّجوم والنفس الإنسانية ، وبعد ذلك قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها).
وهذا التأكيد المتكرّر والشّديد في هذه الآيات، يدلّ على أنّ القرآن الكريم، يولّي أهميّةً بالغةً لمسألة الأخلاق، وأنّ التّزكية هي الهدف الأهم للإنسان، وتكمن فيها كلّ القيم الإنسانيّة، بحيث تكون نجاة الإنسان بها.
ونفس المعنى أعلاه ورد في: "الآية السّادسة"، واللّطيف فيها أَنّ ذكر التّزكية جاء قبل الصلاة، وذكر الله تعالى، إذ لولا التّزكية وصفاء الرّوح لا يكون للصّلاة معنى، ولا لذكر الله.
وجاء في "الآية الأخيرة"، ذكر لُقمان الحكيم، حيث عبّر عن علم الأخلاق بالحكمة، فقال: (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلّهِ).
وبالنّظر للآيات الشّريفة، نرى أنّ خصوصيّة: "لقمان الحكيم"، هي تربية النّفوس والأخلاق، ومنها يتّضح أنّ المقصود من الحكمة هنا، هو الحكمة العمليّة وتعاليمها المؤدّية إليها، وبعبارة أخرى يعني: "التّعليم" لأجل "التّربية".
ويجب الانتباه ، إلى أنّ أصل معنى "الحكمة" هو لجام الفرس، وبعدها أطلقت على كلّ شيء رادع، وباعتبار أنّ العلوم والفضائل الأخلاقيّة، تردع الإنسان عن الرّذائل فأطلقت عليها هذهِ الكلمة.
النّتيجة
نستوحي من هذهِ الآيات، الاهتمام الكبير للقرآن الكريم بالمسائل الأخلاقيّة وتهذيب النفوس، باعتبارها مسألةً أساسيّةً، تنشأ منها وتبتني عليها جميع الأحكام والقوانين الإسلاميّة، فهي بمثابة القاعدة الرّصينة والبناء التحتي، الذي يقوم عليه صرح الشّريعة الإسلاميّة.
نعم إنّ التّكامل الأخلاقي للفرد والمجتمع، هو أهم الأهداف التي تعتمد عليه جميع الأديان السّماوية، إذ هو أساس كلّ صلاح في المجتمع، ووسيلة رادعة لمحاربة كلّ أنواع الفساد والانحراف، في واقع الإنسان والمجتمع البشري في حركة الحياة.
والآن نعطف نظرنا إلى الروايات الإسلاميّة، لنرى أهميّة هذه المسألة فيها
أهميّة الأخلاق في الرّوايات الإسلاميّة
لقد أولت الأحاديث الشّريفة هذه المسألة أهمية بالغةً سواء كانت في الروايات الواردة عن الرّسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، أم عن طريق الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ونورد بعضاً منها:
1- الحديث المعروف عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
"إِنّما بُعثتُ لأُتمَمَ مكارمَ الأخلاقِ"2.
وجاء في حديث آخر: "إنّما بُعثتُ لأُتمَمَ حُسنَ الأخلاقِ"3.
وجاء في آخر: "بُعثتُ بمكارمِ الأخلاقِ ومحاسِنه"4.
ونرى أن كلمة "إنّما" تفيد الحصر، يعني أنّ كلّ أهداف بعثة الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، تتلخص في التّكامل الأخلاقي.
2- وجاء في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام، حيث قال "لَوكُنّا لا نَرجوجنّةً ولا ناراً ولا ثواباً ولا عِقاباً، لكان يَنبغي لَنا أن نُطالِبَ بِمكارمِ الأخلاقِ فإنّها ممّا تَدُلُّ على سبيلِ النجاحِ"5.
يبيّن لنا هذا الحديث أهمية الأخلاق وفضائلها، إذ هي ليست سبباً في النجاة في الأخرى فقط، بل هي سبب لصلاح الدّنيا أيضاً.
3 ـ الحديث الآخر الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال "جَعَلَ اللهُ سُبحانَهُ مكارمَ الأخلاقِ صِلةً بينه وبين عبادِهِ فحسب أَحدِكُم أَن يتمسّكَ بخُلق مُتَّصل باللهِ"6.
وبعبارة أخرى: أنّ الباري تعالى هو المعلم الأكبر للأخلاق، وهو مربّي النّفوس، ومصدر لكلّ الفضائل، والقرب منه تعالى لا يتمّ إلاّ بالتّحلي بالأخلاق الإلهيّة.
وعلى هذا نرى أنّ كلّ فضيلة يتحلى بها الإنسان، تؤدي إلى تعميق العلاقة بينه وبين ربّه، وتقربه من الذّات المقدّسة أكثر فأكثر.
وحياة المعصومين عليهم السلام كلّها تبيّن هذهِ المسألة، فإنّهم كانوا دائماً يدعون إلى الأخلاق، والتّحلي بالفضائل، وهم القُدوة الحسنة في سلوك هذا الطريق، ويكفي شرفاً للرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أنّ الله تعالى نعته في سورة القَلم: (وإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيْم)(القلم:4).


الهوامش:
1- ففي جملة: (وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ)، إشارةً إلى أنّ الوصول إلى هذا العلم، لا يمكن الاّ بالوَحي.
2- كنز العمّال: ج 3، ص 16، ح 52175.
3- المصدر السابق، ح 5218.
4- بحار الأنوار: ج 66، ص 405.
5- مستدرك الوسائل، ج 2، ص 283 الطبعة القديمة.
6- تنبيه الخواطر، ص 362.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد