قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

التأويل في مقابل التنزيل


الشيخ جعفر السبحاني ..
القرآن الكريم معجزة خالدة يشق طريقه للأجيال بمفاهيمه ومعانيه السامية ، فهو حجّة إلهية في كلّ عصر وجيل في عامّة الحوادث المختلفة صوراً والمتحدة مادة ، يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع ، وما حل مصدَّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تُحصى عجائبُه ولا تُبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ».
فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تُحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه » يرشدنا إلى الإمعان في القرآن في كلّ عصر وجيل والرجوع إليه في الحوادث والطوارق ، كما أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وله ظهر وبطن » يرشدنا إلى أن نقف على ظهره وبطنه ، والمراد من البطن ليس هو التفسير بالرأي ، بل تحرّي المصداق المماثل للمصداق الموجود في عصر الوحي وبه فسّره الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قال : « ظهره تنزيله ، وبطنه تأويله ، منه ما مضى ، منه ما لم يجئ بعد ، يجري كما تجري الشمس والقمر ».
فالتأويل هنا في مقابل التنزيل ، فالمصداق الموجود في عصر الوحي تنزيله ، والمصاديق المتحقّقة في الأجيال الآتية تأويله ، وهذا أيضاً من دلائل سعة آفاقه ، فالقرآن كما قال الإمام يجري كجري الشمس والقمر ، فينتفع منه كلّ جيل في عصره كما ينتفع بالشمس والقمر عامة الناس ، ولذلك يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « إذا نزلت آية على رجل ثمّ مات ذلك الرجل ، ماتت الآية مات الكتاب ! ولكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى ».
فالقرآن منطو على مادة حيوية قادرة على علاج الحوادث الطارئة عبر الزمان إلى يوم القيامة ، وذلك عن طريق معرفة تأويله في مقابل تنزيله.


ولنأت ببعض الأمثلة :
نماذج من التأويل في مقابل التنزيل
١. يقول سبحانه : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولا أُنْزلَ عليهِ آيةٌ مِنْ رَبّهِ إِنّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوم هاد ).
نصّ القرآن الكريم بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشخصه منذر كما نصّ بأنّ لكلّ قوم هاد ، وقد قام النبي بتعيين مصداق الهادي في حديثه ، وقال : « أنا المنذر وعليٌّ الهادي إلى أمري »  ولكن المصداق لا ينحصر بعلي ، بل الهداة الذين تواردوا عبر الزمان هم المصاديق للآية المباركة ، ولذلك نرى أنّ الإمام الباقر عليه‌السلام يقول : « رسول اللّه المنذر ، وعليٌّ الهادي ، وكلّ إمام هاد للقرن الذي هو فيه ».
فالهداة المتواردون كلّهم تأويل للآية في مقابل التنزيل.


٢. يقول سبحانه : ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا في دِينكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمّةَ الكُفرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ).
فهذه الآية تعطي ضابطة كلية في حقّ الناكثين للعهد الشرعي ، قد احتجّ بها أمير المؤمنين عليه‌السلام في يوم الجمل، روي عن الإمام الصادق عليه‌ السلام قال : « دخل عليّ أُناس من أهل البصرة ، فسألوني عن طلحة والزبير ، فقلت لهم : كانا من أئمّة الكفر ، إنّ عليّاً يوم البصرة لمّا صفَّ الخيول ، قال لأصحابه : لا تعجلوا على القوم حتى أُعذِّر فيما بيني وبين اللّه عزّ وجلّ وبينهم ، فقام إليهم فقال :
« يا أهل البصرة هل تجدون عليّ جوراً في حكم اللّه؟ »
قالوا : لا.
قال : « فحيفاً في قسم ( جمع القسمة )؟! ».
قالوا : لا.
قال : « فرغبت في دنيا أخذتها لي ولأهل بيتي دونكم ، فنقمتم عليّ فنكثتم بيعتي؟! ».
قالوا : لا.
قال : « فأقمت فيكم الحدود وعطّلتها عن غيركم؟! ».
قالوا : لا.
قال : «فما بال بيعتي تُنكث ، وبيعة غيري لا تُنكث؟! إنّي ضربت الأمر أنفَه وعينَه فلم أجد إلاّ الكفر أو السيف»، ثمّ ثنى إلى أصحابه ، فقال :
إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول في كتابه : ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا في دِينكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمّةَ الكُفرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ).
فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « والذي فلق الحبة وبرئ النسمة واصطفى محمداً بالنبوة إنّهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا منذ نزلت ».
ثمّ إنّ النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم هو الذي سمّى هذا النوع من القتال ـ حسب ما ورد في الرواية ـ تأويلاً في مقابل التنزيل ، فقال مخاطباً لعلىّ : « تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت معي على تنزيله ، ثمّ تقتل شهيداً تخضب لحيتك من دم رأسك ».
روى ابن شهر آشوب عن زيد بن أرقم ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا أُقاتل على التنزيل ، وعليّ يقاتل على التأويل ».
فهذا هو عمار قاتل في صفين مرتجزاً بقوله :
نحـن ضربنـاكم على تنزيلـه
فاليوم نضربكم على تأويله
فوصف جهاده في صفين مع القاسطين تأويلاً للقرآن الكريم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد