عرفة منزل الدعاء والاستجابة، فيها يصعد الدعاء إلى الله، وإليها تنزل الاستجابة من عند الله... والدعاء في كل مكان يصعد إلى الله، والاستجابة في كلّ مكان تنزل من عند الله إلى العباد.
ولابد لهذا الأمر من توضيح وشرح، فأقول:
إنّ الذنوب تحبس الدعاء، وتقطع الرجاء من عند الله... وقد ورد في الدعاء الذي علّمه أمير المؤمنين (ع) لكميل بن زياد: «اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء... اللهم اغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء».
وعن أمير المؤمنين (ع): «المعصية تمنع الاستجابة».
عن علي بن الحسين (عليهما السلام): «الذنوب التي تردّ الدعاء وتظلم الهواء عقوق الوالدين» «1» فيدعو الإنسان، فيحبس الدعاء عن الصعود إلى الله، أو تقطع رجاء العبد بالله تعالى، فلا يتوفق العبد للدعاء، وهو أشدّ وأعظم من الأول، وفي الرواية: «إن الذنوب التي تردّ الدعاء سوء النيّة، وخبث السريرة، والنفاق، وترك التصديق بالإجابة، وتأخير الصلوات المفروضات، وترك التقرب إلى الله بالبر والصدقة، واستعمال البذاء والفحش» «2».
ولكن العبد إذا تاب إلى الله، واستغفر من ذنوبه، تتساقط الحجب بينه وبين الله، فيصعد دعاؤه إلى الله، ويتفتّح قلبه على الله تعالى، وتنفتح عليه أبواب الرجاء، وتنزل عليه الاستجابة من عند الله في كل مكان، في عرفة وغير عرفة... وهذا كله لا ريب فيه.
إلّا أنّ لوادي عرفة يوم عرفة بعد الزوال إلى الغروب، خصوصيةً وامتيازاً، لا توجد في غيرها إلّا نادراً.
ففي وادي عرفة بعد الزوال من يوم عرفة، تتساقط كل الحجب بين العبد وبين الله، ويصعد الدعاء إلى الله، وتتفتح القلوب على الله، وتنزل الاستجابة من عند الله على عباده بدون حجاب.
عن الإمام الرضا (ع) قال: «كان أبو جعفر (الباقر) (ع) يقول: ما من برّ ولا فاجر يقف بجبال عرفات، فيدعو الله إلّا استجاب الله له، أما البرّ ففي حوائج الدنيا والآخرة، وأمّا الفاجر ففي أمر الدنيا» «3» وقد سمع علي بن الحسين (عليهما السلام) يوم عرفة سائلًا يسأل الناس، فقال له: «ويحك! أغير الله تسأل في هذا اليوم؟ إنه ليرجى لما في بطون الحبالى في هذا اليوم أن يكون سعيداً». «4»
كيف ندعو الله؟ وماذا نطلب من الله؟
ولا شك أنّ لكيفية الدعاء تأثيراً فيما ينال الإنسان من رحمة الله.
فإذا حضر الإنسان منازل الدعاء والاستجابة، كان عليه أن يعرف كيف يدعو الله، كما يجب عليه أن يعرف: ماذا يطلب من الله في الدعاء.
فإنَّ الرحمة الهابطة على عرفة، إذا كانت عظيمة لا حدّ لها، فإنّ فرصة الدعاء من الزمان محدودة... فينبغي أن يعرف الإنسان كيف يدعو وماذا يدعو؟ لئلا يخسر هذه الفرصة الزمانية المحدودة ولا يهدرها.
كيف ندعو الله؟
وأول ما يجب على الإنسان أن يعرفه: كيف يدعو الله؟... فإن لكيفية الدعاء أثراً مباشراً، كما قلنا فيما ينال الإنسان من رحمة الله.
الاجتهاد في الدعاء:
جاء في فقه الرضا (ع): «فإذا زالت الشمس (من يوم عرفة) فاغتسل، أو قبل الزوال، ثم ائت الموقف، فادع بدعاء الموقف، واجتهد في الدعاء والتضرع، وألحّ قائماً وقاعداً إلى أن تغرب الشمس». «5»
اللواذ بالله:
عن حماد بن عيسى قال: «رأيت أبا عبد الله (الصادق) (ع) بالموقف على بغلة، رافعاً يده إلى السماء حتى انصرف، وكان في موقف النبي (ص)، وظاهر كفيه إلى السماء، وهو يلوذ ساعة بعد ساعة، بسبابتيه». «6»
التحضير للدعاء والاستعاذة:
ساعات عرفة بعد الزوال محدودة، والرحمة الهابطة على عرفة غير محدودة، فلكي يتمكن الحاج أن ينال من رحمة الله أكثر ما يسعه وعاؤه النفسي، عليه أن يحضّر نفسه لاستقبال هذه الرحمة الإلهية الواسعة الهابطة... وأفضل ما يحضّر الإنسان لاستقبال هذه الرحمة العظيمة الهابطة القرآن والذكر، فإنّ القرآن والذكر يفتحان القلوب المغلقة، ويعدّان الإنسان لاستقبال رحمة الله بأوسع ما يتحمله وعاء نفس المؤمن.
كما أن الاستعاذة بالله من الشيطان، يحُصّن الحاج من وساوس الشيطان وخطراته، ومكره، وكيده... فإن الشيطان لا يهرع إلى صدّ المؤمن وحجبه عن الله، وإشغاله عن الدعاء والاستغفار، كما يهرع في عرفة... ففيها يحسّ الشيطان بأن الخطر يهدد كلّ ما عمله وكل ما جاء به، خلال مدة طويلة، في تحريف المؤمن وصدّه عن الله... ولذلك يبذل كلّ ما في وسعه لإشغال المؤمن عن الذكر والدعاء والاستغفار.
ومن أجل ذلك يجب الاستعاذة بالله في عرفة كثيراً من الشيطان، لئلا يصحب الشيطانُ المؤمنَ في حرم أمن الله في عرفة، وفي الساعات العزيزة الغالية، فيسلبه توفيق الدعاء والاستغفار والذكر.
عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: «إنما تعجل الصلاة وتجمع بينهما لتفرغ نفسك للدعاء، فإنه (يوم عرفة) يوم دعاء؛ ثم تأتي الموقف، وعليك السكينة والوقار؛ فاحمد الله وهلّله، ومجّدْه، وأثن عليه، وكبّره مئة مرة، واحمده مئة مرة، وسبّحه مئة مرّة، واقرأ قل هو الله أحد مئة مرّة، وتخيّر لنفسك من الدعاء ما أحببت، واجتهد فإنّه يوم دعاء ومسألة، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنّ الشيطان لن يذهلك في موطن قطّ أحب إليك من أن يذهلك من ذلك الموطن، وايّاك أن تشتغل بالنظر إلى الناس، وأقبل قُبَلَ نفسك، وليكن فيما تقوله: اللهمّ إنّي عبدك فلا تجعلني من أخيب وفدك، وارحم مسيري إليك من الفج العميق» «7».
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (الصادق) (ع) قال: «إذا أتيت الموقف فاستقبل البيت وسبح الله مئة مرّة، وكبّر الله مئة مرّة، وتقول ما شاء الله لا قوة إلّا بالله مئة مرّة... ثم تقرأ عشر آيات من أول سورة البقرة، ثم تقرأ (قل هو الله أحد) ثلاث مرّات، وتقرأ آية الكرسي حتى تفزع منها...» «8».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) معاني الأخبار : 270
(2) المصدر نفسه : 271
(3) بحارالأنوار 251 : 99 وقرب الإسناد : 166 ؛ ووسائل الشيعة ، 13 : 545 ، ط آل البيت
(4) وسائل الشيعة 13 : 555 ، ح 18431 ؛ بحارالأنوار 99 : 252 ، ح 9
(5) فقه الرضا : 26 ؛ وبحارالأنوار 99 : 255
(6) قرب الإسناد : 22 ؛ وبحارالأنوار 99 : 250 ، ح 3
(7) وسائل الشيعة 13 : 538 ، ح 18394
(8) المصدر السابق 13 : 540 ، ح 18397
السيد عباس نور الدين
محمود حيدر
عدنان الحاجي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ محمد صنقور
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد مهدي النراقي
الشيخ باقر القرشي
الشيخ محمد الريشهري
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فتح صفحة جديدة مع الله تعالى
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (2)
علماء فلك يرصدون جرمًا غامضًا يصدر ومضات غريبة إلى الأرض كل 44 دقيقة
أهميّة الحجّ بين الواجبات الإسلاميّة
عرفة منزل الدعاء والاستجابة
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (1)
عرفة روح الحج
﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾
المسيرة الإلهية الكبرى
ماذا يهدف إليه الحجّ؟