علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

صفات الأيديولوجي؛ معاينة لرحلة الفاعل في ممارسة الأفكار (1)

من صفات ما يجمع الأيديولوجيا إلى الفاعل الأيديولوجي أنها بالنسبة إليه مرآة ذاته، في الحقول المتعددة لأفعاله وأحواله. ومع هذا فلا يملك أن يَكْسَبَ صِفَتَه ما لم يُلقِ رغبته في التجربة. فإنه بذلك يختبر ذاته حين يجعل الفكرة التي يحملها في نفسه عن نفسه، خطاب قوة، إما للإعلان عن هوية كامنة، أو للدفاع عن حقٍّ يتهدَّده خطب جلل.

 

كل فكرة هي أمر ذاتي، يهتدي إليها المفكر إثر مخاض جدل داخلي في مواجهة ما مع الخارج. ليس بالضرورة أن يكون هذا الخارج متحيِّزاً أو متمفصلاً على حدود أو تعيُّنات واضحة المعالم. يكفي أن يرسل الموضوع شيئاً من حرارته لكي تتحفز الذات المفكِّرة لممارسة التفكير به. ثم لتتحد فيه اتحاد الواحد مع نفسه، ثم لتنتقل تلك الوحدة إلى الشعور وصولاً إلى الشغف. فيتحصّل من ذلك ضرب من عالم ذهنيّ يطوي تصوراً مفترضاً لما ينبغي أن يكون عليه العالم الخارجي من اتساق هندسي شديدة المطابقة وعالم الذات المتصوِّرة.

 

بهذا تظهر الفكرة المتشكلة ضمن مدارج جدلية الذات / الموضوع كما لو كانت مرآة لنفس المفكر. بها تطمئن نفسه إلى أنها فارقت غربتها. فأصبح معها حالاًّ في دائرة الاعتراف. يُسمع ويُرى، وينظر إلى كلماته بوصفها نصاً مطلوباً للقراءة. غير أن الأيديولوجي  في مجال صفته المرآوية غالباً ما يستدعي كل نواحي المشهد إلى ذاتيته كما لو كان يريد أن يجعله ظلاًّ له. أنه يسمع كل الأصوات، لا لكي تشاركه صوته، وإنما ليرى إلى أحوال نفسه عبر مراياها المتعددة. ذلك أن الأيديولوجي في النهاية لا يأنس إلا لأصداء كلماته. أو للإشارات والعلامات التي تناهت إليه في مرآة فكرته بعد ما تحولت تلك الفكرة إلى كينونة ضاجّة بالحياة.

 

في عرضه وتعليقه على مقالة الفيلسوف الماركسي لوي التوسير بعنوان “الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية” سوف نتبيَّن من تأويلية بول ريكور كيف عالج التوسير مقولة الذات في الأيديولوجيا. معتبراً أن وظيفة الأيديولوجيا تتمثل في أن كلاً منهما يعطي مضموناً للآخر. وأن مقولة الذات تكوِّن كل الأيديولوجيا، مضيفاً في الوقت نفسه ومباشرة، أن هذه المقولة تكوِّن كل الأيديولوجيا طالما قامت الأيديولوجيا بوظيفة “تكوين” الأفراد الملموسين بوصفهم ذوات.

 

وفي سياق بحثه عن زوايا الخلل في مقولة الذات التي تكونها الأيديولوجيا عند ألتوسير، يلاحظ ريكور أن من العسير جداً تكوين مفهوم الذات برمته على أساس العكس المرآتي النرجسية الضيقة. ويرى أن من الأسهل فهم هذه العلاقة بصفتها ذات طابع تشويهي لتكوين ما، ولكن يصعب علينا فهمها بوصفها داخلة في التكوين هي نفسها. ثم يوضح أن ظاهراتية الأنا تقع ضمن مفهوم الأيديولوجيا من حيث كونها تعرِّف الأيديولوجيا على أنها النزعة الإنسانية. والنزعة الإنسانية تعتمد على مفهوم الذات، والأيديولوجيا هي التي تكوِّن الذات.

 

لكن ريكور يأخذ على التوسير أنه يتحدث بلغة شديدة السلبية حيال مقولة التكوين المتبادل. حيث الأيديولوجيا والذات يكونان بعضهما على نحو متبادل. وها هو يقول: نحن مجبرون على أن نضع في جانب الأيديولوجيا، ما هو بمعنى ما، أكثر المشاكل الفلسفية إثارة للاهتمام: كيف نصبح ذواتاً؟ إن منح الأيديولوجيا  كل هذه الأهمية من أجل إنكارها – والكلام لريكور – لمحاولة جريئة حقاً من جانب التوسير. وهذا هو ما دعاه إلى القول بـ ” أن علينا إذا ما أعطَيْنا العلم الكثير، أن نعطي الأيديولوجيا ما هو أكثر. فهنالك صعوبة متزايدة في التعامل مع الأيديولوجيا كمجرد كلمة تشير إلى الأوهام والبنيات الفوقية، فإن هي تدخل إلى هذا الحد في تكوين ما نحن عليه، يجعل ما تكون عليه، إذا ما انفصلنا عنها، أمراً مجهولاً تماماً. ما نحن عليه هو بفضل الأيديولوجيا تحديداً، – بحسب منطق التوسير – وعبء الأيديولوجيا أن تخلق منا ذواتاً. وهي حالة فلسفية غريبة – كما يقول ريكور – ذلك ما دام وجودنا الملموس موجود في جانب الأيديولوجيا.[1]

 

إن الأيديولوجيا بهذه المنزلة. أي بما هي صفة مرآوية للذات، تتأتى على أشد ما يكون في مجال السياسة. تعييناً في مجال الكشف عن الهوية السياسية. تتأتى الأيديولوجيا هنا، من جدلية التمثل والتمثيل التي تمارسها الذات مع الموضوع في إطار لعبة التبادل. لكن في اللحظة التي تتحول فيها الذات (كأفراد أو كجماعات) إلى جهاز أيديولوجي تبدأ التشوهات تحفر مجراها في المرآة، حتى لتغدو الذات أسيرة ما قد ابتنته بشغفها المحموم، ثم لتقع في الغربة، وتروح تهيم في ليل المعنى باحثة عن شمس تضيء لها مراياها الجديدة.

 

ليس بالضرورة لفكرة يجري توظيفها في جدلية التمثُّل والتمثيل أن تكون وُضعت لقصديات أو استراتيجيات الحقل الذي وظفت فيه فيما بعد. لكن لكل فكرة، بالضرورة، غاية وقصد، بداية ونهاية. وإلاّ كفت عن أن تتوفر لها استعدادات الولادة من الذات المفكرة التي أصدرتها. إذ عندما تفارق الفكرة رأس المفكر، وتروح تتنقَّل في حقول التداول، بين آخذ بها، أو معترض عليها، فإنها تكون قد انفصلت عن واضعها، وتتحرر من سلطانه. بل قد تصبح هي سلطانة عليه. فلا تعود تتصل به بعدئذٍ إلا بقدر حملها لاسمه، وانتمائها الرمزي إلى والديةٍ لم تعد شرائط العلاقة معها هي نفسها قبل الولادة. أي من قبل أن يُخضِعَهَا الناسُ لأهوائهم وأغراضهم، بعد أن وضعوا لها شراط أخرى.

 

زئبقيـة المتكلم الأيديولوجي

 

من الصفات التي جُعلت للغة الأيديولوجي حين يتكلَّم، صفة كونها لغة زئبقية لا تستطيع أن توقفها على لون واضح محدد. فإنها مزيج من ألوان، وحروف تترجم أحوالها، وتعكس طبائعها. وهي، في الممارسة السياسية، من التكثيف واللّبس، حتى تكاد لا تنضبط إلا في منطقة التشكيل. أي في تلك المنطقة الرمادية التي يبقى ظهور كل لون فيها رهناً بحضورٍ موازٍ لنظيره. إن لغة الأيديولوجي في انبساطها السياسي متحركة، متوترة، سيّالة. هي سهلة على الفهم وممتنعة عنه في الوقت نفسه. لأنك سوف تحتاج إلى مشقة التفكيك، والتحليل، والفطنة، والدراية، لكي تتميّز مواطن الصدق والكذب، والكشف والحجب، والخفاء والظهور، وأنت تعاين مسيرتها الشعائرية لبلوغ أهدافها. فكرة الأيديولوجي وموقعيته وغايته هي التي تقرر اللغة المناسبة لما ينبغي أن يكون عليه مساره، وممارسته، ووفقاً لشروط زمان ومكان حراكه داخل الشبكة الإجمالية للقوى المختلفة.

 

عندما يقول الأيديولوجي قوله لا يعود هذا القول مجرد كلمات مرسلة إلى المخاطَبين، فإن قوله يعود ليرتد إليه على شكل أصداء تؤكد مشروعية الكلمات وصدقها؛ خصوصاً إذا استجاب المخاطَبون إلى تلك الكلمات وتماهوا معها، حتى لتجري في وجدانهم مجرى الدماء في العروق.

 

اللغة السياسية في خطاب الأيديولوجي، ذات طبيعة وجودية (أنطولوجية). فلا تمر لحظة على واضع الخطاب وإلا وقصد منه مفعولية، تروح فيها الكلمات تحفر في الزمن لتقيمه على نشأة أخرى. حتى لتبدو حركية هذه اللغة متجهة نحو موضوعها السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي بوصفه حقلاً للتفكيك، أو إعادة التأليف، أو الأمرين معاً. وهي إذ ترفعه من سياقه الرتيب، فإنَّها تُدخلُهُ في منطقها ليصبح ذلك الحقل بعدئذٍ ظلاَّ لحدودها وعلاماتها ورموزها الدلالية.

 

تفترض الطبيعة الأنطولوجية لخطاب الأيديولوجي أن تتحول الكلمات المرسلة كذات ناطقة للمرسل وكذلك كذات جمعية للمخاطب المتماهي أو المذعن في آن. فالكلمات صادقة لا ريب فيها بالنسبة لواضع الخطاب. فهو قد تمثّلها من قبل أن ينطقها؛  ثم تمثَّلها كرَّة أخرى حين عادت إليه مزهوة بتمثلها في ضمائر المخاطبين. لقد كان ميشيل فوكو غالباً ما يعرب عن استحسانه ترديد فقرة رائعة من رواية لصمويل بيكيت “يجب أن أقول الكلمات إلى أن تقولني.. إلى أن تعثر عليّ…

 

يحرص منشئ الخطاب الأيديولوجي على المطابقة بين المرسِل والرسالة والمرسَل إليه. فإنه يدرك أن بطلان المقاصد العليا للخطاب عائد إلى القطيعة، وبالتالي إلى عدم الانسجام بين الأطراف المشكَّلة لمثلث الخطاب. لذا يبذل جهده لكي يوطِّد صلات الوصل داخل المثلث وصولاً لتحقيق استراتيجيته. لكن حين نتحدث عن تلك  الاستراتيجية لا نعني بها باعتبارها غاية نهائية بعيدة المدى للجهاز الأيديولوجي. قد تستهلك القضية الأيديولوجية لكي تنجز استراتيجيتها وقتاً محدوداً. ربما لأسابيع أو شهور أو سنوات. يتوقف الأمر على أن ينجز  المخطط العام للقضية الأيديولوجية دورته الكاملة. وهذا يعني أن الإستراتيجية ووسائطها يجريان على نظام تحول دائم، في حين تبدو الكلمات كما لو كانت تتولى صناعة ذلك النظام المتحول.

 

كان اللسانيون يقولون إن الخطاب معادل للكلام، لأنه منجز لغوي. لكن الخطاب الأيديولوجي لا يتوقف على كونه كلاماً وحسب. فإنه فضلاً عن كونه كذلك، هو خطاب مركّب حيث يتركب فيه الكلام على مواضيعه المستقلة عنه استقلالاً نسبياً ومؤقتاً؛ حتى إذا اكتمل التركيب ظهر في صيغة بيان يترجم ما نشأ وتكوَّن في الواقع. ولأنَّ خطاب الأيديولوجي ذو وظيفة إيصالية بطبعه وطبيعته. فإنه يؤول إلى الإبلاغ عن هدف يراد للمستهدَف أن يبلُغَه، كما يؤول إلى إفهام المبلَّغ (بفتح اللام) أن هذه هي الكلمات التي ينبغي أن يتخذها ليشارك المبلِّغ (بكسر اللام) سعيه في جعل تلك الكلمات أشياء في الواقع.

 

على هذا الخط، لا تكون لغة الخطاب عند الأيديولوجي هدفاً بحد نفسه. وإنما هي حركة ضمن هذا الهدف. فلا تكاد تبلغه حتى يستغنى عنها، ثم ليستأنف المبلِّغ رحلته إلى هدف تالٍ بلغة جديدة وبكلمات مختلفة. كل الذي حصل هنا هو البيان عن قضية بدأت وانتهت داخل مساحة المكان ومسافة الزمان التي حدَّدتها العلاقة بين المرسِل والمرسل إليه. إن هذا بالضبط ما عنيناه من الاستراتيجية الإيصالية للخطاب. وهي استراتيجية تقوم على نشاط ثلاثة فاعلين:

 

ـ الفاعل الأول، أي (قيادة الجهاز الإيديولوجي) وهو واضع تلك الاستراتيجية.

 

ـ الفاعل الثاني، هو اللغة الموصِلة أو الموجّهة لتكتمل جدلية التخاطب فتلعب اللغة هنا دوراً وسائطياً، من دون أن يكون هنالك انفصال مع مرسِلِها، أو مع من سيبلَّغ كلماتُها. وهو ما يُعرف بالرسالة.

 

ـ الفاعل الثالث هو الحلقة الأخيرة في توليد العملية الإجمالية للخطاب الأيديولوجي. وهو اكتمال الدورة الخطابية بإفهام المرسَل إليه فحوى الرسالة. فلو تلقَّاها الفاعل الثالث على الدرجة الفضلى، لبلغ البيان مراده، واطمأن المبيِّن إلى أن فكرته باتت حية تسعى في ثنايا الزمان والمكان.

 

إذا عاينا هذه الجدلية سنرى كأن الخطاب من حيث هو شكل لغوي يقيمه نظام المخاطب، يغيب – بعد اكتمال الدورة المشار إليها- عمَّا يقول، ليبقى ذلك المخاطب نائباً عنه ودالاً على معنى ما يقول. والجدير بالملاحظة أنه كلما طغى حضور المرسِل (المخاطب) بوصفه كائناً باثاً، ازدادت عملية الإيصال وضوحاً وتحققت أهدافها. وما كان ذلك ليكون إلا لأن هدف الإيصال هو نقل فكرة المرسِل، لا نقل لغة الخطاب التي يتم الإرسال بها.

 

وسنقرأ الجاحظ في “البيان  والتبيين” في هذا الخصوص قوله: “إن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام. فبأي شيء بلغت الإفهام، وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان  في ذلك الموضع”. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الخطاب الإيصالي في مقصوده، هو المرسِل فيما يريد أن يخبر عنه. وهو بهذا – أي المرسِل – يستمر بقاء لأنه يحقق وجوده الاجتماعي.[2]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – بول ريكور – محاظرات الأيديولوجيا واليوتوبيا – تحرير جورج هـ. تيلور – ترجمة فلاح رحيم – دار الكتاب الجديد المتحدة- بيروت 2002 – (ص 222).

[2] – انظر – منذر عياشي – النص: ممارسته وتجلياته – مجلة الفكر العربي  المعاصر – عدد (96-97) 1992.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد