
تريد أطروحة “ما بعد فلسفة الدين”، الإلفات إلى أنَّ الفلسفة يمكن أن تنال حظَّها من علم الوحي لو هي توفَّرت على شروط الارتقاء إلى ميتافيزيقا ناظرة بالخلق الأول، ومتبصِّرة فيه. فالمعرفة التي سدَّدها الإيمان، واستتبَّ شأنها به، لا تقطع الصِّلة بعالم المفاهيم، بل تتوسَّل هذا العالم من أجل الوصول إلى المعرفة العالية بعلم المبدأ. فالمفاهيم ما كان لها أن تولد إلَّا لأنَّ العقل المدرِك استخرجها من عوالم إمكانية هي محل عناية التدبير الإلهيّ.
في مقام إدراك كهذا، قد يُفتح للمعرفة المسددة بالإيمان أن ترى بوعي المتدبِّر تاريخيَّة الدين ووحيانيَّته سواءً بسواء. لذا جاء تسييل هذا الطور من الميتافيزيقا قصد تصويب خللٍ تكوينيٍّ غَشِيَ الفلسفةَ الأولى، ثمَّ سرى من بعدها إلى سائر الفلسفات الَّلاحقة. ولأنَّ التصويب الذي نحسبه ليس مجرَّد إصلاح لخللٍ أنطولوجيٍّ عارضٍ، فإنَّه في مهمَّته الجوهريَّة فعلٌ معرفيٌّ عزيزٌ له صلة وطيدة بالغاية الأصليَّة للفلسفة التي هي العلم بالموجود بما هو موجود. ذلك يفترض فحصًا استرجاعيًّا لمجمل الاختلالات التي عصفت بالهيكل الأنطولوجيِّ للوعي الفلسفي على امتداد عشرات القرون.
نرانا هنا، بإزاء فهم مخصوصٍ لفكرة “المابعد” جَاَزَ أن نقدِّمها تحت عنوان: “البَعديَّة الفائقة”. من سمات هذه “البَعديَّة” تساميها على مفاهيم الَّلحظة العابرة، وتراحمها في الوقت نفسه مع هذه المفاهيم تبعًا لشروط ظهورها وظروف إقامتها في ساحة المعرفة. ولكونها “بَعديَّة” ساعية إلى إنبات زرعٍ جديد في أرض الميتافيزيقا، فإنَّها لا تكتفي بالسؤال حين تسأل، وإذا أجابت أتى جوابها على غير عَجَلة، ولو طلبت المعرفة كانت على دراية من أنَّ الأشياء والأفكار تُعرف بأضدادها. وفوق ذلك، أنها “بَعديَّة” مدرِكة أنَّ السير باتِّجاه مستحدثٍ معرفيٍّ مجاوزٍ لفلسفة الدين بصيغتها الحداثية هو سيرٌ غير موقوف على النقد وبيان العيوب وحسب، بل هو أيضًا حفرٌ معرفيٌّ يقوِّضُ ما تراكم من أعطال كانت سببًا في تشيُّوء الفكر الفلسفيِّ.
من أجل ذلك، تأبى البعديَّة الفائقة مفارقة مفاهيم العقل الأدنى ومقولاته، بل تحتويها لتغدو مرتبة فهم دنيا ضمن هرمها المتعدِّد المراتب. مع السياق الانتقاديُّ التقويضيُّ ذاك، وبالتلازم معه، تشقُّ العمليَّة المعرفيَّة سبيلها نحو رؤية توحيديَّة جامعة بين الغيب والواقع. ما يومئ إلى ولادة دربة مستحدثة للتفكير لا تُدركُ آليَّات عملها إلَّا بمنهج جاوز المألوف وقام على لقاء الأضداد وتناغمها. لكن هو كيف للفاعل الفلسفيِّ والناظر الدينيِّ أن يستويا على أرض واحدة ونصاب مشترك؟
نحن إذًا، في محضرٍ من الضدِّيَّة التي سيكون بإمكانها المؤالفة بين الفاعل والناظر بوصف كونهما ضدِّيَّة تكامل وانسجام لا ضدِّيَّة نزاع وتناقض. فقد يطلق على الشيء أنَّه ضدُّ شيءٍ إذا كان مباينًا له، أمَّا التناقض فيدلُّ على أنَّ الشيء لا يمكن أن يكون حقًّا وباطلًا في الحال نفسه. وقد تتعدَّد أضداد الشيء إلَّا أنَّ نقيضه يبقى واحدًا. أما الضدَّانيَّة بصيغتها الخلَّاقة فهي أقرب حالًا إلى زوجيَّة المثنَّى التي لا تقبل الانفصال.
تلك الزوجيَّة التي يعمل كلُّ شيء فيها وفقًا لقانون التكامل والوحدة. وبهذا المعنى تصبح الضدَّانيَّة بما هي “زوجيَّة المثنَّى”، عروة وثقى توصلُ ظواهر تبدو للعيان أنَّها منفصلة، إلَّا أنَّها -على الحقيقة- موصولة بين طرفيها بحبل متين. لذا سنرى لاحقًا كيف يتماهى منطق الميتافيزيقا البَعديَّة في التعامل مع المتناقضات والضدِّيَّات، مع ما نجده في إخبارات الوحي، وهذا المنطق إذا أخذ على ظاهره سوف يتبدَّى للناظر على غير انسجام مع القوانين والقوالب المتداولة في التفكير، بل وينقض قواعد المنطق التقليديِّ بشكل صريح.
ولمَّا أن كان همُّ الحكمة معرفة المبدأ، والتعرُّف إلى العلل الأولى ومساءلتها عن موجِبِها الأول، كان السؤال المتأتِّي من حَيْرتها العظمى بحقيقة الوجود هو أوجَبَ واجباتها لمعرفة الوجود الأشرف. من أجل ذلك، وبناءً على مقتضيات المعرفة المبدئيَّة يتَّخذ الفيلسوف الدينيُّ دربة منهاجيَّة مركّبة على طيف من المقتضيات:
المقتضى الأوَّل: أنَّ الفلسفة ضرورة، كوساطة إدراك عقليَّة لفهم ظواهر الوجود، وما انبسطت عليه من سُنَنٍ وقوانين. إلَّا أنَّها في الآن عينه علمٌ وسائطيٌّ يترصَّد الوجود بالاستدلال والبرهان.
المقتضى الثَّاني: الوحي – بوصف كونه أساسًا للمعرفة “المابعديَّة”- يأتينا بالخبر اليقين.
المقتضى الثَّالث: الطريق إلى معرفة المبدأ والمآل، هو سيرورة مركَّبة يتضافر فيها العقل والوحي والفطرة، لينتج السير في هذا الطريق علمًا حضوريًّا مسدَّدًا بالكشف والشهود.
المقتضى الرابع: الوحي تمامُ العقل ونقيض الجاهليَّة، والدين الخاتم هو ثمرة الحكمة البالغة وبيانها الجَليِّ. وبناءً عليه، يصير التعرُّف على هذه الحقيقة وسيرورتها في تاريخ الإنسان، مبتدأ كمال العقل وصيرورة الإنسان الكامل.
ولتوسيع مساحة النظر في الميتافيزيقا البَعديَّة نقول: إنَّها فلسفة دينيَّة تتعالى عن تشييء الدين، وترى إلى الشأن الدينيِّ كحقيقة أصيلة في الواقع التاريخيّ. فإذا كانت فلسفة الدين قد عيَّنت غايتها بالنظر إلى الدين كظاهرة أنثروبولوجيَّة، فإنَّ الفلسفة الدينيَّة تنظر إلى الدين لا مجرَّد حضور في الزمان والمكان وحسب، وإنَّما أيضًا كحضور حيٍّ في المجالين العينيِّ والغيبيِّ، ومثل هذا النظر لا يدلُّ على تناقض واستحالة، بقدر ما يحيل إلى فهم يفارق الفيزيائيَّة الصلبة للفلسفة الباحثة عن الموجود بما هو موجود. بمعنى أنَّ الفلسفة الدينيَّة كميتافيزيقا بَعديَّة لا تجد حرجًا من الأخذ بنظريَّة معرفة تقوم على الإقرار بالصِّلة الذاتيَّة بين البادي للعيان من الموجودات، والحقيقة الكامنة وراء هذا البادي. بذلك يكون العلم بالدين فلسفيًّا لدى الميتافيزيقا البَعديَّة هو دراسة الوجود بتناهيه ولا تناهيه انطلاقًا من مدارك العقل ومباني الوحي بمراتبهما المتعدِّدة.
استنادًا إلى المسائل المذكورة، يصير بإمكان الفيلسوف الدينيِّ حيازة وعيٍ إشرافيٍّ يمكِّنُه من تظهير هندسة معرفيَّة توحيديَّة لعِلمَيْ الواقع والغيب بوصفهما علمًا واحدًا. ولأجل هذا المقصد يروح الفيلسوف التوحيدي يتَّخذ منهجًا يتَّسع لمنازل المعرفة ودروبها، ويعمل بحسبها وفق سعتها ومقاديرها. لذا تبدو الفلسفة في مساعيه كما لو أنَّها عقلٌ ناشطٌ اتَّخذ حَبْوتِهِ الأولى إلى الحقيقة. مع ذلك، فهو لا ينظر إلى الميتافيزيقا على أنَّها مجرَّد سؤال واستفهام، وإنَّما في كونها إمكانًا رحبًا لتحصيل اليقين. كذلك لا يرى إلى الفلسفة على نحو ما استألفه النُّظَّار وآنسوا إليه، من حيث إنَّها استعادة شارحة للمنجز اليونانيّ. على أساس هذا سوف يسلك دربًا يخشاه العقل الحسابيُّ، لأنَّه مسلك يوجب الشجاعة للإتيان بما هو غير اعتياديٍّ وهو يخوض لجّة المعرفة. ما يعني أن الوعي الفائق بالفائق من الوجود لزومه شجاعة الفاعل في تبديد الأوثان المهيمنة على عالم الأفكار.
فإذا كانت الفلسفة الأولى قد أسَّست للانشطار المعرفيِّ لمّا ألْزَمت نفسها بالتوقُّف عند تخوم الاستفهام القلق عن الوجود بذاته والموجود بغيره، فقد تتَّخذ الميتافيزيقا البَعديَّة مسارها المفارق من أجل تشكيل نظامها المعرفيّ الخاصّ. فلو كان لنا أن نجد نعتًا مناسبًا لهذا النظام الخاصِّ، لأقمناه تحت عنوان مجمل هو “الميتافيزيقا البَعديَّة”. والمُراد من مصطلح كهذا هو تبيين مقصده الأقصى لجهة الانتقال بالعقل إلى الضفَّة الأخرى من نهر الوجود حتى يقف على سرِّه المضمر والانفتاح على آفاقه الَّلامتناهية. فإنَّ ما ستفعله الميتافيزيقا البعدية، أنها تفتتحُ سبيلًا انعطافيًّا يحرّر القول الفلسفي من دنيا المقولات وصرامتها، ليعرج به إلى آفاق الميتافيزيقا وعوالمها الرحبة.
معنى (وعى) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ الضمير في: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾!
الشيخ محمد صنقور
ما بعد فلسفة الدين…ميتافيزيقا بَعدية (4)
محمود حيدر
أعظم امتحانات الحياة
السيد عباس نور الدين
بين الإنسان والملائكة
السيد محمد حسين الطبطبائي
لماذا لا يستطيع مرضى الزهايمر التعرف إلى أفراد أسرهم وأصدقائهم؟
عدنان الحاجي
تعقّل الدّنيا قبل تعقّل الدّين
الشيخ علي رضا بناهيان
الحِلم سجيّةُ أولياء الله وزينتهم
الشيخ محمد مصباح يزدي
(لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
التّوحيد والمحبّة
السيد عبد الحسين دستغيب
السيدة الزهراء: حزن بامتداد النّبوّات
حسين حسن آل جامع
اطمئنان
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
معنى (وعى) في القرآن الكريم
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ الضمير في: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾!
ما بعد فلسفة الدين…ميتافيزيقا بَعدية (4)
أعظم امتحانات الحياة
(الدّفء الرّساليّ) ديوان إلكترونيّ نبويّ للشّاعر والرّادود عبدالشّهيد الثّور
أحمد آل سعيد: متى أزور الطّبيب النّفسيّ؟
زكي السالم: مترادفات الفعل (كظمَ) في القرآن الكريم
دلالة التوقيت في الصلاة
معنى (ركض) في القرآن الكريم
بين الإنسان والملائكة