مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
عن الكاتب :
الشيخ محمد مهدي شمس الدين، (1936م-2001م) عالم دين ومفكر إسلامي ومحدّث، كان رئيساً للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان. بدأ نشاطه العلمي والسياسي في مدينة النجف الأشرف ودرس عند السيد محسن الحكيم والسيد الخوئي. عاد عام 1969م إلى لبنان وتولّى رئاسة الاتحاد الخيري الثقافي الذي أسس عام 1966م و باشر بنشاطات ثقافية وفكرية وتبليغية. من مؤلفاته: نظام الحكم والإدارة في الإسلام، مطارحات في الفكر المادّي والفكر الديني، ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، بين الجاهلية والإسلام وغير ذلك.

المغيَّبات (2)

 

الشيخ محمد مهدي شمس الدين
وهنا نقول كلمتنا في المسألة. نحن نؤمن بالعلم قوة في يد الإنسان وسبيلًا إلى إنماء الحياة الإنسانية وإغنائها. ونحن نؤمن بالتجربة منهجًا للبحث أفضل من جميع المناهج الأخرى. ولكننا نؤمن بالعلم إلى حد محدود، ونؤمن بالتجربة منهجًا للبحث فيما هو قابل للتجربة. إن الميدان الأصيل للعلم التجريبي هو الموضوع القابل لأن يقع تحت أدوات التجريب: يد الإنسان وعينه وحاسة الشم فيه وموازين الحرارة والضغط والمشارط وأنابيب الاختبار وما إليها. فكل موضوع خارجي يصلح أن يقع تحت أداة التجريب يصلح أن يكون ميدانًا للعلم الذي يستخدم هذه الأداة، ويمكن أن يتوصل فيه بواسطتها إلى نتائج معتمدة نسبيًّا. 
ونتساءل: هل الروح من هذا القبيل ؟ وهل يمكن أن تقع موضوعًا صالحًا لأداة التجربة المعملية ؟ اللهم لا. فالباحثون عنها لا يجرؤن على القول بأنها شئ ذو كيان يمكن أن يصل إليه الحس أو ما يصطنعه الإنسان من أدوات. ونتساءل كرة أخرى: إذا كانت الروح شيئًا لا يمكن أن يقع موضوعًا لأداة التجربة فكيف يصح أن تتخذ هذه الأداة سبيلًا إلى البت في أمرها ؟ نعم، إن (أساطين) السيكولوجيا - وخاصة السلوكيون - والفيزيولوجيا يقولون لنا إن باستطاعتهم أن (يختبروا) وجود الروح عن طريق مراقبة الانفعالات التي تطرأ على مختلف أجهزة الإنسان بفعل السوائل الكيماوية المختلفة. ونتساءل ثالثة: هل عواطف الإنسان ومطامحه وأفكاره تتجمع كلها في بضعة من عصب، تنفعل بالسوائل الكيمائية التي تراق عليها لنحكم بأن لا روح ولا شئ سوى هذه البضعة الخاضعة للفعل الكيماوي؟ وهل يمكن أن يعتمد على نتيجة هذه مقدماتها في تقرير موقفنا من الحياة والكون، وفي تحديد مصيرنا الذي نريد؟ 
إن العلم التجريبي نفسه يأبى علينا الأخذ بنتيجة هذه مقدماتها، فنتيجة كهذه لا يمكن أن تسمى نتيجة علمية بحال. وإذن، فلا دليل يمكن أن ينهض على أن الروح الإنسانية لا واقع لها، وأكثر من دليل يدل على أن الروح الإنسانية، أعظم واقعية من بعض الأشياء التي نحسبها واقعية. ما هو الواقعي ؟ أهو الشئ الذي تدركه حواسنا ؟ لا، لقد أصبح هذا التفسير الساذج (للواقعي) شيئًا بعيدًا عن المفهوم العلمي الحديث، ولو شئنا أن نفسر الواقعي بهذا التفسير لوجب علينا أن نكفر بأشيع الحقائق في حياتنا الحاضرة وأعني بها الكهرباء. (فالكهرباء - كما يقول يعقوب فام في البراجماتزم - لا صورة ذهنية لها عندنا ولا شكل نستطيع أن نراه بعين العقل أو نتخيله، ومع ذلك فمدلوله له وجود ذاتي مستقل في هذا النظام الموضوعي للكون. وبعبارة أخرى: الكهرباء موجود حقيقي وإن كان الذهن لا يستطيع أن يتخيلها لأننا نشاهد آثارها وعملها في الحياة اليومية). 


وإذن، فليس الواقع هو ما نحسه، وإنما الواقع هو ما يعمل على صياغة حياتنا بآثاره وإن لم يبلغ علمنا مدى كنهه. وإذا كان هذا هو الواقع فما الذي يمنع أن تكون الروح حقيقة من الحقائق الجمة التي تصنع حياتنا بآثارها ؟ إن جهلنا بحقيقتها لا يبرر نكران وجودها. وقد عرفت ان الذين ينكرونها يبنون نكراهم على ما لا يصلح أن يكون أساسًا للموقف العقلي الذي التزموه تجاه الروح فالأداة التي اصطنعوها لمعرفة الروح قاصرة عن أن تنيلهم ما أرادوا. لقد حدس القدماء فلم يهدهم حدسهم إلى شئ، ولقد جرب المحدثون فلم تهدهم تجربتهم إلى شئ، ويقف الإنسان مكتوف اليدين أمام غياهب الأسرار، ويردد حكم القرآن في اعتراف بالعجز: (ويسئلونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). 
ونخلص من هذا كله إلى القول بأن منكري (المغيبات) ليسوا سوى طائفة من الناس تنظر إلى الإنسان من أحد جوانبه وتبني أحكامها على ما ترى غير حاسبة أن ثمة غير هذا الجانب، وأن حكمها على الإنسان قبل الإحاطة به من أقطاره - في الحدود التي تبلغها المعرفة - ضرب من الخبط العشوائي الذي لا يليق بمن يدعي العلم ويستهديه فيما يفعل أو يقول، وهؤلاء أشبه بمن يحكم بأن لون الهرم أحمر لمجرد أنه رأى ضلعًا واحدًا من أضلاعه بهذا اللون قبل أن يرى بقية الأضلاع.
وحيث قد عرفنا أن في الإنسان قوى وراء جهازه العصبي والحشوي ووراء غدده وخلاياه لا ندركها بما لدينا من وسائل المعرفة، فلا مبرر لإنكار (إمكان) أن يكون لدى إنسان من الناس، بسبب ما يتمتع به من سمو روحي ونقاء داخلي - وهذه صفات قابلة للتفاوت - قدرة على معرفة ما يخبئه الغد وتضطم عليه أحشاء المستقبل. وإذا كان (يمكن) أن يوجد إنسان كهذا فلنقم بنقلة تثبت أن إنسانًا كهذا (موجود بالفعل).

منذ القدم لاحظ الناس في بعض الأفراد شيئًا خارقًا للعادة، وكان ذلك الشيء هو الاطلاع على حادث وقع في مكان يبعد عن مكان الرائي بمئات الأميال، أو قراءة أفكار الآخرين الخفية، أو التنبؤ بما سيقع لبعض الناس في الغد القريب أو البعيد. وقد اعتبر القدماء هذه الظواهر شيئًا صادقًا ولكن لا سبيل إلى تعليله، وانتهت المسألة عند هذا الحد. وغبرت القرون والناس يؤمنون بهذا حتى نجمت طلائع الثقافة الحديثة، فجرفت فيما جرفته من مخلفات القرون هذه الفكرة، استنادًا إلى أن الروح لا واقع لها، فلا شئ من هذا يمكن أن يكون موضع إيمان وإذعان. ولكن ظاهرة كهذه لا يمكن أن تذهب وتنسى بمثل هذه السهولة، فليس أمرًا عاديًّا أن يتمتع إنسان من الناس بقوى خارقة تتجاوز كل قانون علمي معروف. وهكذا عادت هذه الظاهرة ففرضت نفسها على العلماء من جديد، وغدت موضوعًا للبحث العلمي عند علماء مشهورين مشهود لهم بدقة النظر، أمثال:
سير أوليفر لودج، ووليم كروكس، وألفرد رسل ولاس، وهؤلاء الثلاثة من أعضاء الجمعية العلمية الملكية. ووليم جيمس، وشارل ريشيه، وهنري سدجوك، وهانز دريش، وهنري برجسون، والدكتور ميرس، ورتشارد هودسون، وتشارلس إليوث نورثون أستاذ بجامعة هارفارد، ووليم ر. ليوبولد أستاذ علم النفس والفلسفة في جامعة بنسلفانيا، والفلكي الفرنسي المشهور كاميل فلامريون، وتوماس هكسلي.. وغيرهم، وهذا العدد في تعاظم يومًا بعد يوم. وكانت أول خطوة جدية في سبيل التثبت من صدق هذه الظاهرة هي تأليف جمعية المباحث النفسية في بريطانيا سنة 1882، وقد اشترك فيها عدد جم من العلماء والفلاسفة، فأصدرت مجلة تنطق بلسانها. وكان أول رئيس انتخب لها هو البروفيسور هنري سدجوك. وقد انتهجت هذه الجمعية في بحثها طريقة جمع الوثائق وفحصها، فإذا سمع الباحثون بشخص ما يمتلك موهبة خارقة أرسلوا إليه ملاحظين معتمدين يقومون بدراسة ما يقوم به ذلك الشخص ويضعونه تحت المراقبة الدقيقة، ثم يقدمون عنه تقريرًا بما شاهدوه. وقد كان لنجاح هذه الجمعية صداه في أنحاء العالم، فأسست لها فروع في أقطار أخرى كفرنسا وأمريكا وهولندا والدنمارك والنرويج وغيرها. وقد اكتشف الباحثون الذين اشتملت عليهم هذه الجمعيات وغيرهم أن في الانسان ملكات نفسية خارقة أهمها ثلاث: تناقل الأفكار، ورؤية الأشياء من وراء حاجز أو عن بعد، والتنبؤ. وقد تعزى إصابة الإنسان في التنبؤ إلى الصدفة، ولكن جمعيات المباحث النفسية أثبتت كذب هذه الدعوى بصورة قاطعة، فقد أثبت السير أو ليفر لودج عضو جمعية المباحث النفسية البريطانية والعالم الطبيعي المشهور، أن قدرة الإنسان على التنبؤ أعلى جدًّا من مستوى الصدفة حسب قانون الاحتمالات.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة