علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. حسن أحمد جواد اللواتي
عن الكاتب :
طبيب وكاتب ومترجم، صدر له كتاب (المصمم الأعظم: قراءة نقدية في كتاب التصميم العظيم للبروفيسور ستيفن هوكنج)، كما ترجم الرواية الفلسفية (البعد الضائع في عالم صوفي) للمؤلف محمد رضا محمد اللواتي ونشرت الرواية في الولايات المتحدة الأمريكية. [email protected]

اليقين بين الفيزياء والفلسفة (1)


د. حسن أحمد جواد اللواتي

الحتمية النيوتونية والحتمية الاحتمالية
إن كنت فد طلبت موعدًا مع طبيبك لعلاج مرض ألّم بك فالغالب أنك لن تكون راضيًا جدًّا إن أجابك طبيبك “قابلني إما بعيادتي في الموقع (أ) أو بعيادتي بالموقع (ب)، فاحتمال أن أكون بالموقع (أ) هو (54%) واحتمال وجودي بالموقع (ب) هو (13%)، وهذا يجعل من احتمال عدم تواجدي في أي منهما هو (33%)، ولكن إن كنت بالموقع (أ) فقد تجدني بالساعة الثانية عشرة ظهرًا أو الثامنة مساءً (ولكل من الوقتين احتمال محدد يمكن حسابه بمعادلات رياضية) وكذلك الأمر في أوقات العيادة الثانية”
نعم، أتفق معك أنني لن أرغب في طبيب يعمل بهذه الطريقة لأننا نميل بفطرتنا للحتمية ونرغب بإجابات محددة ونريدها أن تكون إجابات واقعية مؤكدة مطابقة للواقع الخارجي قدر الإمكان ويزعجنا أن نتعامل بالاحتمالات.
موضوع الحتمية في المعرفة أو بعبارة أخرى يقينية المعرفة أخذت أبعادًا مختلفة في العلوم الطبيعية عنها في المباحث العقلية والفلسفة، لذا سنحاول التعرف على جوانب الموضوع المختلفة في الفيزياء والفلسفة.

المعرفة اليقينية في العلوم الطبيعية
في فترة ما قبل القرن العشرين كانت الفيزياء تعمل وفقًا لقاعدة الحتمية في الواقع الخارجي، اليقينية في المعرفة تعني أن الحصول على إجابات يقينية لوصف الواقع وتقديم تنبؤات حتمية للمستقبل ومعرفة الماضي كان يعتبر أمرًا ممكنًا، وكل ما كنا نحتاجه لذلك هو: أولًا اكتشاف وفهم القوانين العلمية التي تصف الأنظمة الفيزيائية المختلفة، وثانيًا: معرفة الحالة الأولية للنظام المطلوب، ومن ثمة فإن تطبيق تلك القوانين (ممثلة بصيغتها الرياضية) على معطيات تلك الحالة الأولية كاف لنعلم بالمستقبل والماضي، وبالفعل كان من الممكن معرفة أوقات الخسوف والكسوف وبعض الظواهر الطبيعية الأخرى من خلال الفيزياء بهذه الطريقة.
إلا أن الثورة العلمية في فيزياء القرن العشرين وبالذات في السنوات الثلاثين الأولى منه أظهرت من خلال مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ أن معرفة الحالة الأولية للجسيمات الذرية (وهي اللبنات المادية التي تكوّن الأشياء المادية حولنا) أمر غير ممكن وبالتالي فإن معرفة الوضع المستقبلي لذلك النظام غير ممكن أيضًا وكانت هذا بمثابة النهاية للحتمية النيوتونية الشاملة لكل شيء في الكون المادي، ولكن في المقابل طرحت فيزياء الكم نوعًا آخر من الحتمية التي تسمى بالحتمية الاحتمالية وللتوضيح تخيّل أن لديك عينة من مادة مشعة مثل اليورانيوم—238، سيكون بإمكانك أن تعلم أن نصف تلك الكمية ستكون قد تحللت (أطلقت إشعاعات نووية وتحولت إلى عنصر آخر) خلال 4,5 مليار سنة، ولكن لن يكون بإمكانك أن تعلم إن كانت هذه الذرة المحددة من اليورانيوم–238 ستشع خلال الدقيقة القادمة أو السنة القادمة أو أنها لن تشع حتى بعد عشرة بلايين سنة وثق بي فإنك لن ترغب في وظيفة يكلفونك فيها بمراقبة تلك الذرة وانتظارها.

إن الحتمية النيوتونية بالعلوم الطبيعية لا تزال صالحة في بعض التخصصات التي لا تتعامل مع العالم الذري وجسيماته ولا زلنا نستعمل قوانين نيوتن في توجيه الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية وما شابه، ولكن في قسم كبير من العلوم الطبيعية وبالذات في التقنيات المبنية على عالم الكم (وهي تطبيقات كثيرة وآخذة في الازدياد والتوسع) فإن الحتمية النيوتونية قد أفسحت المجال للحتمية الاحتمالية، فبعد أن كانت الحتمية في فيزياء نيوتن تنظر لكل جسيم في الكون على أنه يمكن مبدئيًّا التوصل إلى معلومات نهائية كافية عنه لتحديد ماضيه ومستقبله أصبحت الحتمية الاحتمالية تكتفي بتحديد احتمال وجود الجسيم في موقع معين بسرعة معينة في زمن معين ولكنها لا تستطيع أن تحدد تلك المعلومات بدقة كافية لمعرفة ماضيه ومستقبله، ولكن من ناحية أخرى فإن التعامل مع عدد ضخم من الجسيمات بالاحتمالات يكفي جدًّا للحصول على معلومات كلية عن النظام المكون من كل تلك الجسيمات للأغراض العملية، ولنرجع لمثال المادة المشعة لشرح هذا الأمر، إن كنت قد خالفت نصيحتي لك سابقًا وقبلت بالوظيفة التي يطلب منك فيها الجلوس ومراقبة ذرة معينة من المادة المشعة لتحدد بالضبط وقت حدوث التحلل والإشعاع فيها فإن كل ما ستحصل عليه هو قيمة احتمال حدوث التحلل في لحظة معينة ولن تستطيع معرفة إن كانت تلك الذرة ستتحلل بعد دقيقة واحدة من بدء عملك أو ستنتظر عدة مليارات من السنين لتتحلل، ولكن إن كنت ستراقب مجموعة مكونة من عدد ضخم من تلك الذرات معًا (كعينة من عدة غرامات من تلك المادة مثلًا) فإنك تستطيع أن تقول بثقة أن نصف تلك العينة سيتحلل خلال فترة معينة تسمى (بعمر النصف—Half Life)  ولاحظ مرة أخرى أنك لن تستطيع أن تحدد أي نصف من تلك المادة هو الذي سيتحلل.

إذن لا زلنا نمسك بخيوط الحتمية العلمية والسببية ولكن على مستوى مختلف ونوعية مختلفة فبدلًا من الحتمية على مستوى الجسيمات صرنا نملك الحتمية على مستوى المجموعات الكبيرة من الجسيمات وبدلًا من الحتمية النيوتونية صرنا نملك الحتمية الاحتمالية، وهذا المقدار والنوع يكفينا جدًّا في عالم التطبيقات التكنولوجية والصناعة لأن هذا المستوى من الدقة الاحتمالية يعتبر دقيقًا جدًّا بدرجة خرافية، ولتدرك هذه الدقة ما عليك إلا أن تنظر مرة أخرى للأجهزة الإلكترونية التي تستعملها في حياتك.

الدالة الموجية ومعادلات شرودنجر

تسمى المعلومات الخاصة للنظام الكمي المعزول بالحالة الكمية (Quantum State) لذلك النظام وهي عبارة عن خصائص متداخلة لذلك النظام المكون من جسيم أو أكثر وتكون محفوظة في أداة رياضية تسمى بالدالة الموجية أو الاقتران الموجي (Wave Function)، لا تشغل بالك كثيرًا في فهم معنى الدالة أو الاقتران لأنها مجرد أداة رياضية مثل المعادلة وتقدم لنا صورة موجية عن قيمة تلك الخصائص التي تتغير وتتفاوت مع الزمان والمكان بشكل يشبه تغيرات شكل أمواج الماء على سطح بركة مثلًا، ويستفيد العلماء من هذه الدوال الموجية بتحديد القيم الاحتمالية لبعض خصائص الجسيمات، هناك أيضًا أداة رياضية أخرى تشبه القانون الثاني للحركة لنيوتن والذي يمكننا من تتبع حركة أي جسم في الماضي أو المستقبل إن عرفنا حالته الأولية في لحظة معينة، وتسمى هذه الأداة بمعادلات إرون شرودنجر (Schrodinger Equation) نسبة للعالم النمساوي الذي وضعها وتساعدنا معادلات شرودنجر على تتبع التطورات والتغيرات التي تحصل في الدالة الموجية للنظام المعزول بحيث نتمكن من الحصول على قيمة الدالة الموجية في المستقبل أو حتى في الماضي، وبعبارة أخرى فإننا ننظر إلى الحالة الكمية لنظام ما ونستطيع من خلالها أن نعلم كيف كانت في الماضي وكيف ستكون في المستقبل وهو أساس الحتمية العلمية التي استطاعت البقاء حتى مع تغير نوعية الفيزياء من الكلاسيكية إلى الكمية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة