مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

قضيّة الله بين الماضي والحاضر

 

السيد عباس نورالدين
كيف استطاع الشيطان أن يحرفنا عن أعظم قضايا الحياة؟
حين نتأمّل في الآيات الكثيرة التي تحدّثت عن حركة الأنبياء ودعوتهم ومواجهاتهم للطواغيت، نلاحظ بصورة واضحة كيف كان تجلّي قضية الله وظهورها في خطاباتهم. وقد استطاع هؤلاء الأولياء الربّانيّون أن يجعلوا هذه القضية على رأس قضايا الصراع والمواجهة أينما كانوا، فأحرجوا بها أعداءهم، الذين كان همّهم الأكبر ترسيخ زعاماتهم والتحكّم بمصائر الشعوب.
إلّا إنّ الأمر، وللحقيقة، لم يكن إنجازًا نبويًّا صرفًا، فممّا نعرفه عن الظروف الثقافية والمقتضيات الزمانية لتلك الأزمنة، يمكن القول أنّ العقول والأذهان والنفوس كانت مستعدّة لسماع هذا الخطاب وفهم مثل هذا الطرح.
تصوّر لو أنّ نائبًا ملتزمًا وقف اليوم على منبر مجلس النوّاب وصدح عاليًا: "أيها الناس إنّ كل مشاكلنا اليوم، نابعة من عدم طاعة الله، ومن الشرك به، ومن الاعتقاد بالأرباب المتفرقة". ربما سيعترض عليه البعض، إلّا إنّ الأغلبية الساحقة ستعتبر خطابه فارغًا من المضمون الجدّي وتحديد الوقائع.

ما الذي حدث حتى أصبحت قضية الله قضية جزئية أو فردية خاصّة، لا يتم التعرّض لها إلا في بعض المناسبات وفي بعض الأماكن الخاصّة؟
قد يُقال بأنّ شعوب الماضي كانت تعيش وفق عقائد تقول: إنّ إدارة العالم وتدبير الحياة يجري على يد شخصيات محدّدة (ترمز لها في كثيرٍ من الأحيان بالأصنام والأوثان). وقد كان هذا الاعتقاد سائدًا وكثير الشيوع نظرًا لعاملٍ معروف، وهو: شعور الناس بالعجز الكبير أمام الكثير من ظواهر الطبيعة والحياة. إنّ هذا الشعور هو الذي جعل الكثيرين يسارعون إلى الاعتقاد بوجود قوى فوق بشرية، وإن كانت أحيانًا تتجسّد في بشر، وهي تدير كل شؤون الحياة أو تتقاسم تدبيرها وإدارتها وربوبيتها فيما بينها (كما في حال أرباب الحياة والخصوبة والمطر والحرب و.. ). ولا شك بأنّ شدّة حضور هذه الربوبية والتدبير (نظرًا لذلك العجز)، سيجعل الناس بصورة تلقائية متّجهين إلى تحميل هذه الأرباب المسؤولية عن كل ما يجري؛ فلو جرى الحديث عن مشكلة التصحّر والقحط، فسوف تتّجه الأبصار إلى ربّ المطر، وإذا حصلت هزيمة في معركةٍ ما، فسوف يتحدّث الناس كلّهم عن ربّ الحرب.
لم يتغيّر الذهن البشريّ بين الأمس واليوم بلحاظ تحديد الأسباب والبحث عن العلل، ولكن ما تغيّر بصورةٍ واضحة هو أنّ أهل الحق عمومًا أصبحوا اليوم أكثر إحراجًا من الإعلان والتظاهر بهذه القضية الحسّاسة والمصيرية. لقد تمّ اختراق جبهتهم عبر المكائد المتواصلة على مدى السنين من قبل شياطين الجن والإنس، وتسلّل إليها الشرك الخفيّ، الذي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخشاه ويخافه على أمّته من بعده، ويحذر من تسلّله الشديد الخفاء؛ حيث كان يقول: "الشِّرْكُ فِي أُمَّتِي أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ".[1]

لا ننكر عامل تكثّر الأسباب الظاهرية في الطول والعرض بصورة عجيبة (وهو سمة بارزة للحياة العصرية، التي أصبحت الآلات فيها تقوم بالكثير من المهام، وتشعّبت طرق أخذ القرارات في مختلف شؤونها). فمن أراد اليوم أن يحدّد سبب أي مشكلة أو قضية صار لزامًا عليه أن يحفر عميقًا في طبقات العلل، بخلاف ما كان عليه الأمر في الأمس البعيد، حيث كانت الأمور تدور بين الله الخالق المطلق للسماوات والأرض، وبين صنم أو معبود مشخّص.
إذا أراد أهل الحق في يومنا هذا أن يُرجعوا مشكلة التلوّث إلى سببها الأوّل (وهو باعتقادنا: عدم الخضوع لله والاستنكاف عن عبادته وطاعته كما هو حقّه فيما يتعلّق بهذه القضية)، فعليهم أن يسلكوا طريقًا أطول بكثير ممّا كان يسلكه الأنبياء الماضين عليهم السلام.
أجل، إنّ الجميع مهتمّ بمعرفة الأسباب التي تقف وراء مشاكلنا المختلفة، إلّا إنّ الأكثرية الساحقة غير مستعدّة نفسيًّا ولا حتى ذهنيًّا (في معظم الأحيان)، للاعتراف بالسبب الحقيقيّ. فهل إنّهم أصبحوا محرَجين بالله؟ وهل استطاع الشياطين أن يجعلوا قضية الله في حياتنا منحصرة بالشأن الفرديّ العباديّ الخاصّ إلى الدرجة التي أصبحنا نبدو كالبسطاء الحمقى إن نحن طرحناها على مستوى الاجتماع والسياسة والشأن العام؟
هذا ما يبدو من مطالعة واسعة ومعمّقة في الخطابات الدينيّة المختلفة؛ فالذي يتحدّث عن ضرورة الرجوع إلى الله والتوحيد، سيُتّهم بأنّه يحرف الأذهان عن الأسباب الواقعية!! بل يمكن أن يُتّهم بأنّه يستخدم الدين لأجل مآربه الخاصّة؛ فضلًا عن الصعوبة المستجدّة في فهم العلاقة بين الله وما يجري. لهذا، فإنّ الخطاب الدينيّ الحاليّ بحاجة إلى عنصرين أساسيين، لكي يستعيد قضية الله تعالى ويضعها موضعها (وهو المحور الأول لكل قضايا الوجود)، وليحقّق لنفسه العامل الأوّل للانتصار والتفوّق؛ وهذان العنصران هما:
الأول: امتلاك رؤية واضحة حول العلاقة بين طاعة الله تعالى وقضايا الحياة.
الثاني: امتلاك رؤية واضحة وتفصيلية حول ما يجري في العالم في مختلف شؤون الحياة.

وحين يجمع هذا الخطاب بين النظرية والواقع، يمكن أن ينتج خطابًا إلهيًّا واقعيًّا حكيمًا مقنعًا شديد التأثير.
لقد ذكر الله لنا في آيات كتابه العزيز عشرات الموارد التي عدّ فيها طاعة الأحبار والرهبان والكبراء شركًا واضحًا. رغم أنّ المفهوم العام الذي نحمله في أذهاننا حول العبادة، هو ما يرتبط بالطقوس الخاصّة (كالصلاة)؛ ونادرًا ما نجد من يلتفت إلى أنّ طاعة غير الله، ليست إلا مظهر واضح للعبادة بكل ما للكلمة من معنى.
أجل، إنّ السبب معروف؛ وهو مرّة أخرى راجع إلى ذهولنا عن الفرق بين الطاعة الاجتماعية، والطاعة الفردية الخاصّة؛ الأمر الذي نشأ من انحسار البعد الاجتماعي في الفكر الإسلامي. فطاعة الزعماء والقادة والعمل بالأنظمة التي يشرّعونها، يختلف عن طاعة شخصٍ ما في أمرٍ محدّد وجزئيّ؛ لأنّ طاعة الزعماء لن تكون سوى حركة عامّة وسير كلّي يحدّد مصيرنا النهائيّ، بخلاف طاعتنا لشخصٍ محدّد في قضية جزئية.
إذا لم يكن تحديد المصير هو أخطر ما في العبادة، فما الذي سيكون عليه المعنى الدقيق للعبادة؟ فالأذكار والأوراد والكلمات التي تظهر على ألسنتنا في الصلاة، إنّما تهدف قبل أي شيء إلى جعل مصيرنا النهائيّ عند الله وفي مقام قربه والفناء فيه. وحين نطيع القوانين والزعماء، فنحن نحدّد مصيرنا من خلال الذوبان في شخصيّتهم وأهوائهم، التي تمثّلت بهذه التشريعات.
إنّ إدراك الإلهيين (أولئك الذين يؤمنون بالموقعية الحسّاسة لله تعالى في الحياة) لمشكلات الحياة وقضاياها المستجدّة، يستلزم تعرّفهم إلى سلسلة الأسباب والعلل التي أدّت إليها. وللأسف، فإنّنا نلحظ هنا عجزًا عامًّا عن إدراك هذا المشهد المستحدَث، نتيجة عاملٍ جوهريّ تاريخيّ معروف وهو ابتعاد أهل الحقّ عن الزمان وما يجري فيه؛ ممّا أدّى إلى تراكم الأسباب إلى الدرجة التي أصبح معها إدراك حقيقة المشهد أمرًا غاية في الصعوبة.
ـــــــــ 
[1]. عوالي اللئالي، ج2، ص 74.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد