علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

لماذا نعتقد بجسمانية الروح؟ وما الفرق بينها وبين الجسد؟


السيد عباس نورالدين
باعتقادي، إنّ أحد الأخطاء التي وقع فيها الفكر الفلسفيّ الإسلاميّ عمومًا هو ما يرتبط بحقيقة الروح وماهيتها. 
وبمعزل عن المقصود الحقيقيّ من كلمة التجرّد، فقد جعل هذا المفهوم من حقيقة الروح أمرًا يناقض حقيقة الجسد، وشقّ طريقًا للضدية والازدواجية في الوجود، والتي ما زلنا لحدّ الآن نعيش سلبياتها في كل نواحي الحياة.
إنّ قضية الروح، مثلها مثل العديد من القضايا التي وقعت في قبضة الفلاسفة، قد أصبحت ضحية منهج ومقاربة لقضايا الوجود يقوم على الانفعال تجاه المجادل لا البناء والبحث عن الثمرة؛ وفي مثل هذه القضايا ترى الفيلسوف منجرًّا إلى معالجات لا يكون نتاجها سوى المزيد من التخبط والضياع. 

فإنكار الروح من قِبل بعض المفكرين، ما كان يستلزم مثل هذا الانفعال الذي أخذنا إلى حيث بتنا ـ نحن القائلون بتجرّد الروح ـ نتصوّر الوجود بسببه منقسمًا إلى مادة وروح. والأدهى من ذلك هو ما نجم عن هذا التصوّر من أن يصبح إله العالم في تصوّراتنا مجرّدًا عن المادة، بمعنى أنّه يقف في مقابلها؛ ولا ينتج عن هذا الفكر سوى تحديد وتقييد لربّ العالم، لأنّ أي مقارنة بين الخالق والمخلوق تدلّ على أنّنا قد جعلناه في قبال مخلوقاته. 
وهذا هو التحديد الذي يستلزم كل أشكال النقص التي لا نقصدها، لكنّنا نقع فيها من حيث لا نشعر حيث تنفذ هذه التصوّرات الباطلة والمعطّلة إلى البنية التحتية لوجودنا وإدراكاتنا، والتي تكون بدورها أساس مشاعرنا وتفاعلاتنا مع هذا الإله العظيم.
إنّ تجرّد الروح لا يعني بتاتًا أنّه شيء مقابل للمادة، وإنّما يعني أنّ الروح مجرّدة عن نواقص المادة. وهكذا يكون التجرّد وصفًا للروح بكمالات المادّة مضاعفةً أضعافًا لا تُحصى. فالروح جسمانية حقًّا، بمعنى أنّ لها تحقّق وتشخّص وموقعية في عالم الوجود، لكن موقعها ورتبتها هذه لا يمكن تقديرها بواسطة الأبعاد أو المعايير التي نعتمدها في الماديات الحسيات؛ ولذلك نقول بأنّ الروح أشدّ كثافةً من المادّة وجودًا (وكمالًا)، لا أنّها من سنخ البخاريات (أو الغازات بتعبير الفيزيائيين)، وهو للأسف ما قيل مرارًا في أدبيات الفلسفة والأخلاق.

ولو أردنا المقارنة فينبغي أن نقول إنّ نسبة الروح إلى الجسد من حيث الكثافة هي كنسبة المعادن والصخور إلى الغازات لا العكس؛ هذا مع فارق جوهريّ وهو أنّ مستوى هذه الكثافة لا يمكن قياسه أبدًا بأي جهاز مادّي أو حسّي متعارف، كالأبصار المتسلّحة بأكثر المعدّات تطوّرًا.
وسرّ ذلك، إنّ البصر الحسي العادي، ولكي يرى شيئًا ويلحظه ويحيط به، يجب أن يسلّط عليه ضوءًا يرتد شعاعه إلى العين الحسية هذه. ولكن، لو كان ما ينظر إليه أشدّ نورًا إشعاعًا من الضوء المسلّط ذاك، فمن المستحيل أن يراه ويلحظه بهذه العين. وقضية الروح وحقيقتها ترجع إلى أنّ نورها هو في الواقع أشدّ من جميع الأضواء والأشعّة المتاحة في عالمنا الأرضيّ هذا؛ ولأجل ذلك لا تراها هذه العيون ولا تُدركها هذه الأبصار. هذا كان مثالًا، الهدف منه أوّلًا تقريب الفكرة إلى الأذهان، في حين أنّ حقيقة الروح أعظم وأكثف من أن تقابلها المادة حتى تراها أدواتها وآلاتها؛ فإن شئت قلت إنّ كل هذا العالم المادي بالنسبة للروح كالشيء القابع في الشيء والداخل فيه؛ ولهذا لا يمكن لمن احتجب في المادة وتقيّد بها أن يرى ما يحيط بها.

إنّ أول شيء نحتاج إليه هنا لكي نصبح روحانيّين حقًّا هو تحرير تصوّراتنا وأذهاننا من فكرة الازدواجية والمقابلة والضدّية. وليس الهدف من هذا التحرّر سوى أن نصبح لائقين للاّتصال بالروح، لأنّنا في ظلّ هذا الاتّصال نصبح أرواحًا، أو بعبارةٍ أخرى نتّصل بفيض الروح وننعم به. ولو كان لنا أن نقرّب الفكرة أكثر، لقلنا إنّ حقيقة الروح هي ذلك الكمال الذي إذا نعم به الإنسان واتّصل به، فسوف يكون له السيطرة التامة على ما دونه من عالم المادة، لأنّ المادة هنا هي بمنزلة العضو لهذا الجسد (وليس هذا التمثيل إلا من ضيق الخناق في التعبير). فلا ننسى، إنّ كل ما يندرج في إطار المادة لو جُرّد من نواقصه سيكون مرتبة من عالم الروح؛ فلو حصلتَ على الألف فإنّك لا شك حاصل على الإثنين والثلاثة.
فلندع المنكرين للروح وأحاديثهم التي لا تشبع من جوع، ولنتحرّر من وهم إقناعهم بشيء نحن لا نعرف حقيقته، ولنتّجه نحو اكتشاف الكمالات التي تفوق كل كمالات هذه الأبدان؛ لأنّ هذا هو المقصد الحقيقي من وراء الحديث عن الروح.
وما نفع أن نثبت وجود شيء غير هذه المادة، التي لم ندرك لحد الآن إلا القليل منها، إن لم نكن ممّن يستفيد منه.

إنّ تفعيل التجربة الروحية عبر تجاوز البدن ـ من دون إهماله ـ هو الذي ينفعنا. ولماذا نريد أن ننفع من لا يؤمن بخالق الروح والمادة؟ ولماذا نتعب أنفسنا في إفادة من لن يفكّر في استثمار أي كمال يناله إلا لأجل أغراض مشؤومة ومآرب شخصية منحطة.
إنّ الذين يليقون ببحث الروح هم الذين نزّهوا أنفسهم عن هذه المقاصد الدنيئة؛ وفي بحثهم عن الكمالات الرفيعة، لم يكن همّهم سوى أن تسري روح الله في كلّ العوالم، عسى أن تشرق بنور ربّها.
فلندع قضية تجرّد الروح لأهلها، ولنترك كل خبيث ضعيفًا، لكي لا يفسد أكثر في هذا العالم الذي يئن من عبث الماديين. فلا ينعم بكمال الروح حقًّا إلا من كان جديرًا بما هو أعلى وأرقى. {إِنَّ الْمُتَّقينَ في‏ جَنَّاتٍ وَنَهَر * في‏ مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر}.[1]
 ـــــــــــــــــ
[1]. سورة القمر، الآيات 54 - 55.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد