مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

ما هي حقيقة الفوز الأكبر؟


السيد عباس نور الدين

جوهر التديّن ومعدنه الأصيل هو التسليم لله تعالى في تدبيره وتشريعه، في قضائه وفي أوامره. والتسليم يعني القبول بالفكر والقلب، ويثبت بالالتزام العمليّ والانقياد الفعليّ ويرسخ.
ما لم نكن مسلّمين لله بأنّ كل ما يقدّره لنا ويقضيه في حياتنا هو الخير الذي يجلب لنا النفع والصلاح، حتى لو كان بظاهره ضارًّا ومؤلـمًا، فهذا يعني أنّنا لم نخطُ الخطوة الأولى على صعيد الإسلام.
للإسلام الذي قال الله تعالى عنه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرين‏}[1] بعدان:
البعد الأول: هو الدين الذي هو عبارة عن مجموع الشرائع والأحكام التي جاء بها رسول الله (صلى الله عليه وآله). 
والبعد الثاني: هو حالة التسليم التي تبدأ من الفكر والقلب وتتم بالعمل. 
والبعد الأوّل يكون مقدّمة للثاني، والثاني يكون هدفًا وغاية له. فإذا التزمنا بما جاء به خاتم الأنبياء، نصبح إن شاء الله مسلمين.
لقد جاء جميع الأنبياء لصناعة هذا الفرد المسلم؛ ففي ظلّ التسليم لربّ العالمين ينال الإنسان مقام القرب ويبلغ أقصى مديات السعادة والكمال. وقد كانت الوصيّة الأولى والأخيرة لكلّ نبيّ ورسول هي {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون‏}.[2] وكان لخاتم الأنبياء محمد بن عبدالله فخر تحقيق هذا المقام الإنسانيّ الرفيع بأسهل وأيسر طريقة؛ كما قال (صلى الله عليه وآله): "لَمْ يُرْسِلْنِي اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَلَكِنْ بَعَثَنِي بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ".[3] فلله الشكر أن عرّفنا على إسلام خاتم الأنبياء، وخلقنا في بيئة لا تعيش الكراهية والحقد والعصبية تجاه هذا النبيّ العظيم.

إنّ طريق معرفة قضاء الله وقدره سهلٌ يسير، لأنّ القدر يتحقّق أمامنا ويحدث لنا؛ لكن التسليم لهذا القضاء والرضا به وعدم الاعتراض عليه أمر يتطلّب درجة من اليقين بأنّ الله رحيم وعادل وغفور وودود وبيده أزمّة الأمور؛ ولهذا قيل أنّ التسليم للقضاء والقدر يتحقّق بعد مرحلة التسليم للحكم والتشريع.. فمن خلال الالتزام العمليّ بأحكام الله تعالى تتمرّن النفس على التسليم لقضاء الله وتصبح مستعدّة للرضا بتقديره. وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقين‏}،[4] ولكن ماذا نفعل إن كنّا عالقين في المرحلة الأولى، ولم تؤمن قلوبنا لحدّ الآن بأنّ ما جاء به هذا النبيّ العظيم هو خيرٌ لنا وصلاح، ولم تسلّم نفوسنا لما أتانا به بأنّه جمال ونفع ونجاح؟
إنّ قسمًا من الذين يدّعون الإسلام ويفتخرون بكونهم مسلمين لا يرفضون أحكام الله مع علمهم بأنّها من عند الله، لكنّهم ينكرون أن تكون هذه الأحكام أحكامًا إلهية وإسلامية، ويظنّون أنّ بعض الفقهاء والعلماء قد ابتكروها واخترعوها. وبدل أن يتفكّروا قليلًا، ويتعرّفوا إلى طريقة استنباط هؤلاء الفقهاء لهذه الأحكام من مصادرها الأساسية (القرآن والسنّة)، فإنّهم يماشون بعض الدعايات المغرضة التي ينشرها أعداء الدين والجهلة السفهاء ويتناغمون معها. فتراهم يردّدون دون وعي وبصيرة بأنّ فقهنا ذكوريّ، وأنّ الفقهاء يصدرون الفتاوى من أجل ترسيخ سيطرة الرجال على النساء وقمعهن.. ولو تأمّل هؤلاء قليلاً وتعرّفوا إلى سيرة الفقهاء في حياتهم اليومية وفي أبحاثهم وكيفية اجتهادهم وإصدارهم للفتاوى لشاهدوا أعلى درجات الموضوعية والإنصاف والبعد عن الانحياز والعصبية.
ما أسهل أن نردّد مقولات الأعداء بشأن بعض أحكام الدين، إن كانت هذه الفتوى أو تلك مخالفة لمصلحتنا أو ما نراه نحن كذلك. لكنّنا لا نكون ملتفتين إلى أنّنا في هذه الحالة نرتكب خطأً قاتلًا بحقّ علاقتنا بالله تعالى، ونسدّ طريق الوصول إلى السعادة الكبرى على أنفسنا. هذه السعادة التي لا تحصل إلّا في ظلّ التسليم لله والعمل بشريعته وأحكامه.

إذا كانت قلوبنا قد آمنت بنبيّ الإسلام العزيز وأدركنا أنّه جاء بأفضل دين وأروع شريعة، علينا أن نتعرّف إلى هذه الشريعة ونتفقّه فيها. وأوّل خطوة في هذا المجال هي أن نتعرّف إلى الطريقة التي نصل بواسطتها إلى أحكامها؛ وإلّا فما الفائدة إن عرفنا أنّ هناك طريقًا موصلًا ولم نتعرّف إليه ونحدّده. فهل يمكننا في مثل هذه الحالة أن نسلكه؟
إنّ فقهاء الإسلام العظام لم يتركوا إشكالًا يرتبط بطريقة استنباط الفتاوى إلّا وطرحوه قبل أن يطرحه عليهم أحد؛ فقاموا بمعالجته وتحليله تحليلًا علميًّا مضنيًا عميقًا شاملًا؛ لأنّهم يعلمون مدى وخامة العاقبة وسوء المصير إن هم قصّروا أو أهملوا أو تجاهلوا أي دليل يمكن أن يوصلهم إلى معرفة الحكم الإلهيّ. وقد وفّقني الله تعالى أن أقضي شطرًا مهمًّا من عمري وأنا أدرس طريقتهم وأتعرّف إلى منهاجهم العلميّ، بالإضافة إلى مطالعة أحوالهم والتأمّل في سيرتهم. فلم أجد سوى الموضوعية والإنصاف والاجتهاد والعمل الدؤوب وروحية قبول النقد إلى أقصى الدرجات. ولو تساءلت عن سبب وجود بعض الاختلاف فيما بين الفقهاء أنفسهم على صعيد بعض الفتاوى، وكنت مطّلعًا على أحوالهم تلك، لعلمت يقينًا أنّ ذلك لا يرجع إلى أي نوع من الأغراض السيئة أو التعصّبات الفئوية والجنسية أو الجهالات العمياء؛ وإنّما كان مردّ هذا الاختلاف التفصيليّ إلى التفاوت في قدراتهم العلمية فحسب. ولهذا، نختار الأعلم من بينهم حين نريد الوصول إلى الحكم الشرعيّ.
إنّ التقليد مصطلح شائع بين المتديّنين؛ وهو يعبّر عن روحية طيبة وذهنية واعية تجاه قضية الإسلام والتسليم. فإذا دار الأمر ما بين أن أحدّد الحكم بنفسي ـ وأنا شخص قليل الاطّلاع على كلمات المعصومين وسيرتهم، وغير عارف بأساليب الاستنباط ومناهجه، وليس لي قدرة التمييز بين المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ في القرآن، ويصعب عليّ معرفة الرواية الصحيحة من الموضوعة والمدسوسة، ولست خبيرًا بنحو المحاورات وقواعد التعبيرات في اللغة التي نزل بها القرآن وتكلّم بها المعصومون ـ وبين أخذ الحكم عن عالمٍ فقيه متبحّر يعرف مناهج الاستنباط وأصوله ويتقن تطبيق قواعده ويقضي وقتًا طويلًا في البحث والتعمّق والفحص والدراسة في كل شاهد ممكن، فأي عاقل يختار أن يتّبع نفسه ويعمل برأيه؟

فبسبب جهلنا ببيئة عملية استنباط الأحكام العلمية الدقيقة العميقة الواسعة الشاملة المجهدة الموضوعية، انطلت علينا مقولات الأجانب الذين صوّروا الفقهاء كمجموعة من المشايخ الذين يصدرون الفتاوى لمجرّد انتسابهم إلى إكليروس الحوزة أو وضعهم العمامة على رؤوسهم أو إطالة لحاهم. وقد انقطعنا عن العلم والعلمية وجهلنا كيف يكون العالم وكيف يجري البحث العلميّ لمعرفة الأحكام، فاستسهلنا الرد على الفقهاء واستنكار ما يحكمون به. ولو أنّنا رسّخنا ذهنية العلم والتعلّم باعتبارها طريقة معرفة الدين والأحكام، ونبذنا الجهل والأهواء، وعرفنا الفارق بينهما، لاحتطنا في إعلان المواقف التي تفضح جهلنا وتكشف زيف إسلامنا.
فإن كنت لا ترضى بهذا الحكم ولا تعجبك هذه الفتوى، فتوقّف قليلًا واسأل أوّلًا عن كيفية صدور هذه الفتوى. فربما أنت ترد على الله وترفض حكم الله وتجاهر بالمعصية. فهل هذا هو الإسلام؟ قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُون‏}.[5]
 ـــــــــــ
[1]. سورة آل عمران، الآية 85.
[2]. سورة البقرة، الآية 132.
[3]. الكافي، ج5، ص 494.
[4]. سورة الحجر، الآية 99.
[5]. سورة المائدة، الآية 44.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد