مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

ثورة العلم الحقيقية


السيد عباس نور الدين

إنّ الطريق الوحيد لنشر الفضائل في أي مجتمع، والحد من مخاطر الرذيلة وانتشار المعاصي، يكمن في أمرٍ واحد وهو: رواج روحية طلب العلم؛ فالعلم هو الخير الفريد الذي يمكن أن يشبع روح الإنسان إلى الدرجة التي لن يشعر معها بالرغبة في طلب الدنيا ومتاعها الزائل؛ ومتى ما انعدمت هذه الرغبة الدنيئة وزالت دوافعها المنحطة انقطع معها أصل الخبائث واستؤصل جذر الرذائل.
كل الرذائل التي يمكن أن يُبتلى بها المجتمع إنّما تتغذّى من المستنقع الآسن للتوجّه إلى الدنيا وطلبها. ولا يمكن تجفيف هذا المستنقع إلا بعد إسقاط شأن الدنيا في الأعين. وإنّما تسقط الدنيا الدنية من الاعتبار حين يستغني الناس عنها ويشعرون بالرضا والامتلاء من أشياء أخرى. ولا يحصل ذلك إلا  نتيجة الاشتغال والاهتمام بالفضائل العظيمة والكمالات الرفيعة؛ وهنا يأتي دور العلم، حيث يتربع على عرش الفضائل واللذائذ.
إنّ أحد أهم أهدافنا الكبرى هو ترويج روحية طلب العلم في المجتمع، على أساس اعتبار العلم كمالًا ذاتيًّا للنفس وهدفًا ساميًا للوجود والحياة. فالمجتمع الذي تسود فيه هذه الروحية الرائعة سيكون مجتمعًا حيويًّا ناشطًا فعالًا متكاملًا متضامنًا إلى أبعد الحدود. وفي ظل هذه الروحية يمتلك المجتمع المناعة الكافية لمواجهة جميع المؤامرات والتهديدات التي تهدف بالدرجة الأولى إلى تركيعه وإخضاعه واستعباده من خلال السيطرة على فكره وعقله ومعارفه.

ولأجل ذلك نحتاج أوّلًا إلى محاربة نوعين من النزعات والتوجّهات الخطرة والقضاء عليها؛ والخطر الأول هو مصيبة التوجه إلى العلم وطلبه باعتباره وسيلة لنيل الدنيا (مالًا وجاهًا). والخطر الثاني يحصل من جرّاء تقييد العلم وتحديده وفق المآرب السياسية والذرائع الاجتماعية.
وقد ابتُليت المجتمعات البشرية ـ وخصوصًا المسلمة ـ بهاتين النزعتين المشؤومتين منذ مئات السنين؛ وذلك حين سيطر طغاة المال والشهرة على مقاليد الأمور، فجعلوا كل شيء في المجتمع يدور مدار حفظ سلطانهم؛ ومن الطبيعي هنا أن يكون العلم أحد أكبر ضحايا هذه المأساة. ومن المتوقّع أن يصبح طلّاب العلم يبتغونه لأجل متاع السلاطين وعطاياهم، فيصبح هذا الخير المقدس وسيلة لتأمين المعاش وأداة لتزيين الدنيا.
ولأنّ العلم بحقيقته يأبى أن يتقيد بهذه القيود المنحطة، فإنّ سياسة الإغداق على المتعلّمين والعلماء (لأجل تلك الذرائع) لم تستطع بمفردها أن تحقق المآرب؛ فسرعان ما سيذوق حرٌّ أبيّ روعة عظمة العلم ولذته، ويستغني به عن كل مال وجاه، ويصبح عَلَمًا بارزًا بين الناس، فتهوي إليه الأفئدة، ويهدد عرش السلطان ونظامه؛ وهكذا، لم يكن أمام الطواغيت سوى انتهاج سياسة أخرى تقضي بتقييد العلم وسد طريقه عبر تهديد المتحرّرين من العلماء وأهل الفكر بالقتل وإهدار الدماء والتكفير والتفسيق والإخراج عن الملّة.

 وقد استعان السلاطين مع اختلاف مشاربهم وأهوائهم، بعلماء وفقهاء لإرعاب المتعلّمين أنفسهم وتخويفهم من الاجتهاد والإبداع؛ تارة تحت ذريعة حفظ الوحدة وعدم شقّ الصفوف، وأخرى تحت التهديد بوخامة عاقبة أهل البدع.
لقد كان الصراع على العلم، من أجل الوقوف أمام تدفّق آثاره الطيبة، قديمًا قدم المجتمعات؛ وهو في هذا العصر يأخذ المنحى نفسه؛ غاية الأمر أنّ معظم السلطات العليا لم تعد بحاجة إلى بذل الكثير من الجهد لأجل تحديد العلم وتقييد حركته؛ بعد أن أصبح التسطيح والجهل قيمة راسخة بين المسلمين؛ وحين نتحدث عن وضع المسلمين فنحن لا نرى المجتمعات الأخرى على أفضل حال؛ كيف؟ وهي تتحرك سراعًا على طريق الضلالة العمياء مستخدمة العلم والتكنولوجيا لخدمة الكفر والرذيلة.
يفتخر الكثير من المسلمين أنّهم لا يتعمّقون، وذلك لأنّ التعمّق بحسب زعمهم يوصل إلى الكفر. ويحرص الكثير من رجال دينهم على الحفاظ على هذه السطحية، لحفظ وحدة الصف ومنع الاختلاف. كيف لا! وهم يعاينون في حوزاتهم الدينية مدى الدمار الهائل الذي يحصل جرّاء اختلاف الرأي عبر الاجتهاد في العقيدة والفلسفة و...!! فالكل على ما يبدو راضٍ عن هذه السطحية ولا يظهر في الأفق القريب أي بصيص نور.
إنّ بعث الروح العلمية التي تحدّثنا عنها ليس بالأمر البسيط؛ لأنّ الكثير من المعارف التي تشغل بال أهل العلم ليست من سنخ العلوم التي يمكن أن تجد لنفسها تلك الخاصية السيالة في المجتمع. وذلك لأنّ هذه المعارف إنّما تربّت وترعرت وتبلورت وسط أجواء النخبة والتخصّص والمناهج البحثية المعقّدة. فبالنسبة لهؤلاء أن تقول للناس اذهبوا وتعمّقوا في الدين يعني أن تطلب منهم أن يتخصّصوا ويتفرّغوا له؛ فلا يبقى من مهندس أو طبيب أو نجار أو تاجر!
لكن هؤلاء قد غفلوا عن الكثير من التطوّرات التي حدثت في مجال التعليم وتقنيّاته؛ والأهم من ذلك ما يرتبط بالتعليم المدرسيّ، الذي يمكن أن يكون عاملًا أساسيًّا في تمكين الناس (الذين هم في الأغلبية الساحقة ملتزمين بالتعليم المدرسيّ الإلزاميّ)، من استيعاب المنهج المطلوب للتعمق وهضمه، وحتى تجاوز جميع تعقيداته.

إنّ المعارف الدينية ـ أعم من تلك التي توصّل إليها العلماء لحدّ الآن ـ هي المجال الأوسع والفضاء الأرحب الذي ينسجم مع فطرة الإنسان الطالبة للعلم. وفي ظلّ المعارف الدينية، يجد الإنسان المتعة الحقيقية الصافية لطلب العلم؛ وكل العلوم التي ابتكرها الناس وأطلقوا عليها عناوين كالفيزياء والكيمياء قد وصلت اليوم إلى الحد الذي صار الشبع والارتواء منها مشروطًا بالدوافع والغايات الدنيوية. فهي على ما هي عليه اليوم إحدى عوامل قتل روح العلم نفسه.
لأجل ذلك، نحن بحاجة إلى ثورة معرفية داخل المنظومة الدينية تطال كل شيء فيها، بدءًا من المناهج وانتهاءً بالثمار والنتائج. وسوف يتولّد عن هذه الثورة، إن شاء الله، ظهور الغنى الفائق والجمال الرائق الذي يجذب النفوس ويمتّعها ويشغلها عن كل جاذبيّات الدنيا وزخارفها.
الثورة المعرفيّة في العلوم الدينية هي التي تبدأ من الاعتقاد بضرورة وصل الناس جميعًا بالخزائن المطلقة للحقائق، التي جاء الدين لكشفها وتيسير الوصول إليها. وما لم يعتقد القيّمون على المجتمع بأهمية سريان مستودعات هذه الخزائن، فمن المستحيل أن تنبعث هذه الثورة؛ وسوف يأتي اليوم الذي يستبدلهم الله تعالى بغيرهم، لأنّه عزّ وجل قد وعد بإتمام نوره ولو كره المشركون. وما لم يعمل هؤلاء القيمون ـ الذين ابتلاهم الله بهذه المسؤولية العظيمة ـ على تحرير الحركة العلمية من قيود التسطيح والترعيب، فلا يمكن أن نشهد انبعاث التيار العلميّ العام في المجتمع.
إنّنا نتوق إلى هذا اليوم الذي يصبح التعلّم وطلب العلم عنوان حياة المسلم في مجتمعه؛ وهذا اليوم الموعود لن يتحقّق إلا بعد أن يتم تغيير الرؤية التي ينظر من خلالها معظم الملقّبين بعنوان العلم إلى العلم والتعليم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد