قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

سورة الفجر (1)


الشيخ محمد صنقور

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالْفَجْرِ/وَلَيَالٍ عَشْرٍ/وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ/وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ/هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾(1).
صدق الله مولانا العلي العظيم.

فضل السورة المباركة
هذه السورة المباركة من السور المكية، وقد ورد الكثير في فضل تلاوتها وقراءتها، سواء في الصلوات المفروضة، أو في النوافل، أو في غير الصلوات، فقد ورد عن أهل البيت (ع) أنَّ من قرأها في ليالٍ عشر غُفِر له، ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نوراً يوم القيامة(2).

مقدمة: القَسَم بالظواهر الكونية.
علَّة القَسَم بالظواهر الكونية
بدأت السورة المباركة بأقسام خمسة: فأقسمت بالفجر، وبليالٍ عشر، وأقسمت بالشفع، وبالوتر، وأقسمت بالليل إذا يسر.
والملفت للنظر أن القرآن الكريم أقسم كثيراً بالظواهر الكونية، وبموجودات ومخلوقات عديدة؛ ذلك ليستثير انتباه الإنسان إلى هذه الظواهر التي تسير وفق قانون منتظم، بحيث لو فُرض انتفاؤُها، أو انتفاء بعضها لأدَّى ذلك إلى شلل الحياة أو تعذرها. وأراد من هذه الاستثارة والتحفيز للعقل أن يستشعر الإنسان من ذلك وجود الله عزّ وجلّ، حيث من غير المعقول أن ينتظم هذا الكون وأن يسير وفق هذا القانون دون أن يقع في ذلك من خلل، فالليل يتعقَّبه نهار، والشمس تخرج من المشرق ثم تغرب في جهة المغرب، وأفلاك ونباتات تسير وفق قانون محدَّد، وأجِنَّة وإنسان يمر بمراحل إلى أن يموت، كلُّ هذه الحياة بتنوعها تمثل منظومة متناسقة كاملة، لو تأملها الإنسان لأذعن وقطع بوجود خالقٍ لهذا الكون.
ثم إن الأقسام أو القسم بمثل هذه الظواهر الكونية يُشعر الإنسان بالامتنان لله -عزّ اسمه وتقدَّس- كما سنشير إلى ذلك.
خلاصة:
فثمَّة إذاً غرضان أساسيان من القسم للظواهر الكونية الذي نجده في آيات القرآن الكريم:
الأول: هو استثارة العقل، وتحفيزه؛ ليتأمل في هذه الظواهر وتناسقها وانتظامها، فيعلم أنها لم تنشأ عبثاً، وأن ثمَّة مُوجدٍ لهذه الظواهر.
الثاني: استثارة الشعور بعظمة هذا الخالق، والشعور في ذات الوقت بالامتنان لهذا الخالق، حيث أنه هيأَ له كلَّ هذه الأمور ليتمكن من الحياة.

القسم ظاهرة قرآنية
نلاحظ أن القرآن مثلا أقسم بالصبح في آيات عديدة وقال: ﴿ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴾(3), ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ﴾(4), وأقسم بالضحى فقال ﴿ وَالضُّحَىٰ/وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ﴾(5)، وأقسم بالسماء، والطارق، والنجم الثاقب، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، ونفسٍ وما سواها، وأقسم بالتين والزيتون، وأقسم بالكثير من الوجودات. ونلاحظ أنَّ هذه الأقسام ركَّزت على الظواهر الكونية، وعلى بعض الوجودات طبعا-؛ لأغراض لا مجال لتفصيلها، فكلُّ آية لها غرض مخصوص، ونحن نتحدث عن الغرض العام الكلي، والذي أشرنا إليه.

كيف نستشعر الإمتنان لخالق هذه الظواهر الكونية؟
تصوَّروا -أيها الأخوة- أنه -كما أفاد القرآن- لو لم يكن في الحياة إلا ليل، فأيُّ شيئ ستكون هذه الحياة؟ ولو لم تكن في الحياة إلا نهار، فأيُّ شيئ تكون هذه الحياة؟ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ/قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾(6).
فلو انتظمت الحياة على نسق واحد، فلا حركة ولا ليل يعقبه نهار، ولا شمس ولا قمر، لكان ذلك باعثاً على الكسل والضجر والسأم والملل، فينتفي واحدٌ من أهداف الحياة، والذي هو الحيوية والنشاط، والسعي من أجل الكمال.
وهكذا نلاحظ أنَّ الكون في حركة، وفي تنوُّع، فالليل -كما قلنا- يعقبه النهار، وفصول متعددة، فشتاء، وصيف، خريف، وربيع. وهكذا أشكال هذه الوجودات أيضاً متفاوتة، ومختلفة الألوان، ومتعددة من حيث الهيئات والوظائف، الفواكه مختلفة في الطعوم والأشكال والآثار، فمطلق المأكولات ليست على مذاقٍ واحد، فثمَّة مالحٌ، وحامض، وحلو، ومرّ، وغير ذلك.. مجموع هذه الأمور هي التي تبعث على النشاط والحيوية، يعني تصوَّروا لو لم يكن عندنا إلا فاكهة واحدة، أو لم يكن عندنا إلا طعام واحد فقط كالخبز مثلاً، فنأكله في الليل والصباح والمساء، ولا شيء آخر نأكله، فليس هناك طعم نتذوّقه من الحلويات، أو الموالح، أو الفواكه، أو كانت هناك فاكهة ولكنها بشكل واحد، أليس في ذلك ما يبعث على السأم والملل والضجر؟ ليس هناك إلا نهار، وليس ثمَّة ليل، وليس ثمَّة إلا طعم واحد، وهيئات الناس كلها واحدة! هذا ما قصدناه من قولنا أنَّ ذلك يبعث على السأم، وانتفاء النشاط والحيوية. فحركة الكون وحركة الحياة وتنوعها هو ما يبعث على الحيوية والنشاط.

ثم إن القرآن يُوقفنا على حقيقة وجدانية مغفول عنها، فيقول إنَّ هذه الفواكه المتعددة إنما تُسقى بماءٍ واحد، وتُزرع في أرض واحدة، ثم تخرج فاكهة بلونٍ أصفر، وأخرى بلونٍ أحمر، وأخرى بلونٍ أبيض، وهذه لها مذاق يختلف تماماً عن مذاق الأخرى، وهيئة وشكل يختلف عن شكل الأخرى، وآثار ومضاعفات تختلف عن آثار وخصائص ومضاعفات الأخرى!! لماذا كلُّ هذه الإختلافات، وكلُّ هذا التنوع؟! أليس في ذلك ما يُوجب استشعار الامتنان لله -عزّ اسمه وتقدَّس-؟
هذا هو الهدف الرئيسي ظاهراً للأقسام المتعدِّدة للظواهر الكونية في القرآن الكريم.

تفسير السورة المباركة:
﴿وَالْفَجْرِ﴾:
بعد ذلك نعود إلى الآيات التي تلوناها، فقد أقسم الله -عزَّ وجلّ- في سورة الفجر بعدَّة أقسام، وهي:
أولا: أقسم بالفجر، فقال: ﴿وَالْفَجْرِ﴾، هذه الواو يُعبَّر عنها بواو القسم، ومدخولها يكون مُقسَماً به.

ما هو المراد من الفجر؟
المستظهر من الآية المباركة أن المراد من الفجر هو هذا الفجر المعهود، أي هذه القطعة الزمنية التي تكون بُعيد الليل، وقُبيل النهار -بناء على أنها ليست جزءاً من النهار، وليست جزءاً من الليل، أو أنها جزءٌ من النهار ولكنه يقع برزخاً بين منتهى الليل ومبدأ النهار- هذا هو المقصود من الفجر.
وعُبِّر عنه بالفجر؛ بإعتبار أنَّ المراد من الفجر في استعمالات اللغة هو الشِقّ واسع الانفجار، أي ما يحدث معه انفتاق وانشقاق واسعٍ في الأرض -مثلاً-، أو في أيِّ شيئ متماسك ثم ينشقّ، فيُقال إنه انفجر. لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾(7) فالنبع لا يخرج إلا بعد أن يشقَّ له طريقاً إلى خارج الأرض. ويقول الله تعالى في آية أخرى: ﴿وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا﴾(8)، باعتبار أنَّ النهر هو اسم للشق العظيم الممتد في الأرض والذي يكون مجرىً للماء وإطلاق النهر على الماء الجاري مجاز لعلاقة الظرفية، فالنهر اسم للشق الذي هو ظرف والماء هو مظروفه فاطلاق النهر على الماء يكون من استعمال الظرف وإرادة المظروف.
وكيف كان فالقرآن الكريم قد عبَّر عن هذه القطعة الزمنية بالفجر؛ باعتبار أنها بمثابة انفجارٍ في الظُّلمة، فكأنما الظُّلمة هي شيئ متماسك كتماسك الأرض، فيحدث فيها انفجار، فيخرج من بين هذه الظلمة ضياء، فسُمِّي بالفجر على أساس أنَّ نوره يشقُّ ظلمة الليل. هذا هو المراد من المُقسَم به وهو الفجر.

الفجر في الاصطلاح الفقهي:
وفي استعمالات الفقهاء يُطلق الفجر على نوعين من الزمن: يُعبَّر عن الأوّل بالفجر الكاذب، ويُعبَّر عن الثاني بالفجر الصادق -لا بأس بالإشارة- إلى ما هو الفرق بينهما؟
الفجر الكاذب يحدث قبل الفجر الصادق، والفجر الكاذب يتبيَّن بخروج نورٍ مستطيل في وسط السماء، في الليالي غير المقمرة، أي ليالي المحاق غير المضيئة، ولو تأمل الإنسان هذا الوقت لوجد نوراً يشق وسط السماء، هذا النور يكون مستطيلاً يُشبَّه بذنب السرحان أو ذنب الثعلب، ثم يبدأ في الخفوت حتى كأنه لم يخرج. هذا يُعبَّر عنه بالفجر الكاذب، وسُمِّي بذلك باعتبار أنه يُوهم بظهور النهار وظهور الصبح، والحال أنّ الصبح لم يحن وقتُه بعد. وهذا الفجر الكاذب يخرج ثم لا يكاد يبين حتى يخفت. أما الفجر الصادق فهو نور يخرج في أفق المشرق ثم يبدأ في الانتشار، ولذلك يسمونه بالنور المستطير، في مقابل النور المستطيل الذي يحدث في الفجر الكاذب، ومستطير: يعني متبعثر فالنور هنا فيه نوع من التبعثر والانتشار، وكلَّما مرَّ الوقت كلما ازداد هذا النور انتشاراً واتساعاً حتى يملأ الأفق. وهذا هو الفجر الصادق الذي عبَّر عنه القرآن الكريم بـ: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ﴾(9)، هذا الوقت هو الذي يجب عنده الصوم، وتجب فيه الصلاة، ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾(10)، يعني صلاة الصبح.

السرّ في عظمة الفجر
فالآية المباركة تُقسم بهذه القطعة الزمنية التي تُعبِّر عن حيوية هذا الكون، وحركيَّته، فليلٌ، ثم يأتي فجرٌ ينبلج فيه النور، فيقوم الناس إلى أرزاقهم ومعائشهم، وقضاء شؤونهم بعد ليلٍ سكنوا فيه وخلدوا فيه إلى الراحة. هذا الوقت هو الفيصل بين حالة السكون، وبين حالة النشاط.. هذا الوقت هو الذي يؤشِّر إلى أنَّه قد انتهى وقت الراحة، وبدأ وقت النشاط، فقوموا إلى معائشكم، وقوموا إلى كمالاتكم، واعملوا من أجل ما خُلقِتم له، لذلك كان قَسَماً عظيماً.
________________________________________
1- سورة الفجر/1-5.
2- جامع أحاديث الشيعة -السيد البروجردي- ج 15 ص 123.
3- التكوير/18.
4- سورة المدثر/34.
5- سورة الضحى/1-2.
6- سورة القصص/71-72.
7- سورة القمر/12.
8- سورة الكهف/33.
9- سورة البقرة/187.
10- سورة الإسراء/78

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد