لقاءات

محمد رضا اللواتي: الشباب بأمس الحاجة إلى الفلسفة الإلهية لتقودهم خارج أبواب العدمية المقيتة


نسرين نجم ..

كاتب من الطراز الأول والرفيع في عوالم الفكر والفلسفة، أينما حلّ يترك بصماته الإبداعية والتحفيزية للعقل البشري للتفكر، هو رئيس تحرير مجلة "الرؤيا" العُمانية، صدر له العديد من المؤلفات التي أغنت مكتبتنا العربية انطلاقًا من "المعرفة والنفس الألوهية في الفلسفة" إلى الدراسة الفلسفية "برهان الصديقين" وصولًا إلى الرواية الصوفية "البعد الضائع في عالم صوفي" والتي ترجمت إلى الإنكليزية، إنه الكاتب والمؤلف الأستاذ محمد رضا اللواتي الذي أجرينا معه هذا الحوار :


* عالم الفلسفة يتطلب عمرًا آخر غير هذا العمر:
كتاب صغير يستطيع أن يغيّر مجرى حياة بأكمله، ويعيد توجيه البوصلة الفكرية ويقودها نحو عالم الفلسفة وهذا ما حصل مع الأستاذ محمد رضا اللواتي: "عندما وقع في يدي كتاب للشهيد مطهري بعنوان "الهدف السامي للحياة الإنسانية"، عندها اكتشفت بُعدًا جديدًا من الفكر لم أكن قد لمسته من قبل. هذا البُعد تحديدًا كان البُعد العرفاني والبُعد الفلسفي، اللذان وجدتُ نفسي أنساق وراءهما لمعرفة المزيد عنهما. وإلى يومنا هذا، وقد مضى على ذلك الزمان حوالي الثلاثين عامًا، إلا أني لم أرتو بعد منهما، وأظن أن هذا يتطلب عمرًا آخر غير هذا العمر". فإلى أي حدّ يساعد هذا البعد الفلسفي على معرفة الذات والنفس؟ يجيب الأستاذ اللواتي: "توجد في الفلسفة مباحث تتعلق بالنفس، ما هي وكيف وجدت وكيف تتعقل الأشياء، وما علاقتها بالبدن، وإلى غير ذلك من المسائل. وإذا دمجنا تلك المباحث بما يطرحه الفكر العرفاني عن النفس وأن معرفتها تُنتج معرفة الرب كما نطق الكتاب المجيد والأخبار الشريفة، فمن المحتم أن يخرج المرء بمعرفة عنها. بالطبع هذه المعرفة ستكون حصولية وسيظلّ المرء في حاجة إلى معرفتها بالعلم الحضوري حتى يكتشف حقيقتها. لآية الله الشيخ المصباح اليزدي كتيب جميل جدا بعنوان "معرفة الذات وصياغتها من جديد" أنصح بقراءته فهو ممتع جدًا مفيد جدًا ويستفيد من البحث العقلي والعرفاني لبلوغ النتائج. "

ما بين الحضارات الفلسفية على مدى العصور من جهة والحضارة الفلسفية من جهة أخرى هل يرى اللواتي بأن هناك طلاقًا أم تلاقيًا بينهما في كيفية تناول العقل الإنساني لقضايا الفلسفة؟ يعتبر الأستاذ محمد رضا بأن: "الفلسفة بما أنها جهد يبذله عقل الإنسان لمعرفة أسرار الوجود الكبرى فكل الفلسفات محاولات لبلوغ الحقيقة عبر العقل. الفلسفات كلها تلتقي في هذه النقطة.
لكن أي من تلك الفلسفات فعلًا تحقق الهدف؟ هذا يرجع إلى المنهج المتبع لديها لبلوغ الحقيقة.
تتنوع المناهج المتبعة في التحقيقات الفلسفية وتتعدد. في الفلسفة الإسلامية تحديدًا يتم اعتماد المنهج الأرسطي في إنتاج المعرفة، يعني تكون البديهيات العقلية الأولى هي النواة للمعارف لكي تُنتج معرفة يقينية، مجموعة من فلاسفة الغرب رفضوا اليقين الأرسطي واتبعوا أسلوبًا آخر لإنتاج المعرفة اليقينية. نحن نثق كلّ الثقة في الأسلوب المتبع في الفلسفة الإسلامية لإنتاج اليقين ونراه دقيقًا للغاية. بالإمكان الرجوع إلى كتاب "نظرية المعرفة" للشيخ جعفر السبحاني لمزيد من الاطلاع".

للكاتب الأستاذ محمد رضا اللواتي كتاب هو تحفة فلسفية قيمة "كبريات المشكلات العقلية" فأية رؤية قدّمها لما يسمى بالحراك الفكري؟ يجيب: "شكرًا جزيلًا للاطراء. ليس الكتاب تحفة كما وصفتم لكنه محاولة لأجل أن يكون مفيدًا. الكتاب طبعته دار الساقي قبل 15 عامًا بعنوان "المعرفة والنفس والألوهية في الفلسفة الإسلامية والمدارس الفلسفية الأخرى" ولم يكن هذا عنوانه الأصلي، وبعد مرور كلّ هذه الأعوام وجدتُ أن الحاجة إلى إعادة طباعته باسمه الحقيقي موجودة، وبالفعل أعيد طبعه.
الكتاب يقدم رؤية مقارنة بين مجموعة من المدارس الفلسفية والمدرسة الإسلامية حول نظرية المعرفة، والنفس، والألوهية، وقد زوده الفيلسوف المعاصر الشيخ المصباح اليزدي ببعض التعليقات النفيسة. الكتاب ميزته أنه يقدم وجهة نظر الحكمة المتعالية في تلك المسائل الثلاثة مقارنة بغيرها من المدارس الفلسفية كاليونانية والأوروبية. وأتت فكرة إعادة طباعته لتعريف القراء بمدرسة الحكمة المتعالية ودورها في تطوير الفكر الفلسفي الإسلامي، لأن معلوماتنا عن الابتكارات التي أتت بها هذه المدرسة قليلة ولا تكفي لتدفعنا إلى مزيد من القراءة عنها. "


* من ينتج المعرفة في الوقت الراهن؟!
التطور الحاصل في العالم والتقدّم التقني والتكنولوجي والعلمي إلى أي حدّ ساعد في جذب الناس إلى القضايا العقلية والفلسفية الكبرى أم أنه جعل من العقل استهلاكيًّا ليس أكثر؟ والسؤال الأهم من ينتج المعرفة حاليًا؟ يرى الأستاذ محمد رضا اللواتي: "العلوم تنتج المعارف، التجربة تنتجها بواسطة قواعد العقل والعقل الفلسفي ينتج العلم كذلك لكن في ميدانه ووفق شروط محددة.

لا شك هنالك من لا يرى للعقل قيمة إلا في تلقي المعارف فحسب، كما وأن هنالك من ينكر أن تكون للفلسفة قيمة وأنها عاجزة عن إنتاج معرفة وابتكار علم. لكن وبمقابل هذا التوجه لا يزال هنالك من يثق بالفلسفة ويراها قادرة على إرواء عطش الإنسان بالإجابة عن أهم وأعظم أسئلة الوجود. وإلا فمن يستطيع أن يجيب عن تساؤلاتنا عن العالم ومن أين أتى؟ وإلى أين يذهب؟ وما طبيعة الحياة التي نحياها الآن؟ وهل هنالك حياة أخرى حقيقية وراءها؟ الفلسفة وحدها تستطيع إنتاج الحكمة النظرية والحكمة العملية معًا. إنها قادرة على رفد الحضارة البشرية برؤية كونية توحيدية تستطيع أخذ يد الإنسان الذي سحقه إيقاع الحياة العصرية وأبدل رغباته المعرفية إلى أخرى مؤقتة وزائلة."

قدم الكاتب محمد رضا اللواتي دراسة فلسفية هامة "برهان الصديقين" والذي اعتمد فيه على البراهين الفلسفية المثبتة لوجود الله، السؤال الأول الذي يطرح هل تتعارض الفلسفة مع الإسلام أم أن الإسلام استطاع أن يؤسلم الفلسفة؟ يقول الأستاذ اللواتي: "إنني أتبنى الرؤية التي تقول بأن نشاط العقل في ابتكار المعرفة المتعلقة بالوجود المستندة على البديهيات "فلسفة". دعا الإسلام إلى التفكير في أكثر من 300 آية. قال تعالى "قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" ، فما معنى "على بصيرة"؟
 العلامة الطباطبائي يقول بأن ذلك "فلسفة". المفكر الكبير "مطهري" يقول بأن الحياة الفلسفية والحياة العقلية واحدة، وهذه الحياة عمرها عمر الحياة الإسلامية لأن هذا الأخير دعا إلى التعقل من اللحظة الأولى التي انطلق فيها، وهكذا يكون قد دعا إلى الفلسفة.

جماعة من الباحثين قالوا إن المعرفة في إطار الدين تختلف جذريًّا عن المعرفة في إطار الفلسفة، فالأولى تطالب المرء بالإيمان بلا سؤال ولا تساؤل، في حين أن الأخرى تفرض السؤال كضرورة معرفية ولا يهرب منها أي موضوع. لكننا مع الرأي الذي يقول أن الأنبياء من المحال أن يسوقوا الناس إلى الإيمان بالجهل ويدعونهم إلى تجنب المعرفة والهروب من السؤال. نيف و300 آية دعت إلى التفكير والتعقل فما معنى ذلك؟ الدين في كل تعاليمه حث على التعلم وعلى المعرفة ورفض التقليد ونهى عنه فكيف يكون قد طالب الناس بإيمان عار من المعرفة؟ في الواقع لقد دعاهم إلى التحلي بالبرهان فيما يعتقدون وليست الفلسفة من وجهة النظر هذه إلى هذا. "

السؤال الذي يطرح هذه القضايا أو الاشكاليات أين فئة الشباب منها؟ يرى بأن: "معاناة فئة الشباب باتت جدّ واضحة مع الأسئلة الوجودية الكبرى، لذا نرى أن جماعة منهم يصبحون لا دينيين، أو ملحدين، ويعيشون غربة مع معتقداتهم ويضطرون إلى إخفائها بكل خجل عن المحافل العلمية أو التجمعات الشبابية التي يتواجدون فيها، لأنهم لم يجدوا براهين عليها. إنهم في أمس الحاجة إلى الفلسفة الإلهية لتقودهم خارج أبواب العدمية المقيتة التي باتت تحبو إلى الواقع العربي المؤلم، هذا إن لم تكن قد هرولت إليه وسكنت في أزقاته. "
الأسئلة التي طرحها في كتابه "البعد الضائع في عالم صوفي" هل يا ترى وجد الإجابات عليها أم أنها بقيت أسئلة؟ يرى بأن: "هذه الأسئلة قد أُجيب عنها في ثنايا المعارف الإلهية، والحكمة المتعالية قد حلت مجموعة من الإشكالات العقلية الكبرى التي اجتاحت البشر في كل الحضارات وظلوا يفتشون عن أجوبة عنها. رواية "البعد الضائع" قامت فقط بنقل تلك الأجوبة وشرحها للقراء، هذا بعد أن صورت رواية "عالم صوفي" لهم بأن مثل هذه الأسئلة لا جواب فلسفي عنها."

هل لا يزال الأستاذ محمد رضا اللواتي يؤمن وفي ظل ما نعيشه من اضطرابات وتشوهات وإحباطات على صعيد الفكر والمعرفة والعقل بأن "الفيلسوف الحقيقي لا يعترف بالفشل أبدا"؟ يجيب عن هذا السؤال بقوله: "لا يوجد عقل إلا للإدراك، وما كان علم إلا للكشف عن الواقع، فماذا تبقى غير بذل المحاولات لبلوغ اليقين؟ إنه متاح كما أن النظر إلى ملامح الوجه عبر المرآة متاح. علينا فقط أن نصل إلى المرآة."

انطلاقًا من جوابه الأخير نسأله ما بين الصوفية والفلسفة أي عنوان يجمعهما ويلتقيان فيه؟ يرى بأنه: "في مرحلة زمنية معينة، وقع احتدام بين الفكر العرفاني وبين الفكر الفلسفي، وكان كل منهما يطرح توجهًا ومنهجًا يختلف عن الآخر في المعرفة ويعد الآخر باطلًا.
لكن الحكمة المتعالية قد أزالت هذا الخلاف تمامًا، هذا عندما تمكنت من رفد الفكر بأدوات جديدة. أصبح البرهان العقلي قادرًا على متابعة الوحي وإثبات معطياته. ومدركات العرفان تقبل أن يترجمها العقل إلى لغطة المنطق والبرهان. إنهما الآن يلتقيان وكل منهما بإمكانه إدراك الوقائع بالأدوات التي يستخدمها وكل واحد منهما يمكنه أن يصدق الآخر فيما يدعو إليه.

وفي ختام الحوار كان للأستاذ محمد رضا اللواتي كلمة لجيل الشباب يحفزهم فيها للخوض في مجال الفلسفة: "من الضروري دراسة المعتقد بلغة تمزج بين الدليل الفلسفي والدليل الكلامي، حتى يعتاد الفكر على تقبل هذه اللغة. وبعد ذلك يسهل التحليق في معارف أعمق على أن يكون ذلك بالتدرج وفق إشراف من قبل أستاذ قدير.
لن يتمكن أي علم كان، من الإجابة عن تساؤلات الإنسان الكبرى إلا الفلسفة. آخر المطاف لن نجد إلا الفلسفة لتقول كلمتها في مبدأ الوجود ومنتهاه وقصة الحياة الكبرى. لذا لا بد من أن تكون لدينا خُطة منهجية تعيننا لبلوغ مسائل الفلسفة الكبرى في وقت ما من حياتنا".

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد