مقالات

الأربعون: لم تنتهِ كربلاء


الإمام الخامنئي دام ظله ..

* سنّة الزيارة وإحياء ذكرى الأربعين
من أين تأتي أهميّة الأربعين؟ وما خصوصيّة مرور أربعين يوماً؟
إنّ خصوصيّة الأربعين هي في إحياء ذكرى شهادة الحسين عليه السلام. وهذا الأمر بالغ الأهميّة. افرضوا أنّ الشهادة العظيمة للإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام وبقيّة شهداء كربلاء، قد حصلت في التاريخ، وأنّ بني أميّة في ذلك اليوم وبعد أن قتلوا الحسين بن عليّ عليهما السلام وأصحابه استطاعوا أن يخفوا أجسادهم المطهّرة تحت التراب، واستطاعوا أيضاً مَحو ذكراهم من أذهان جيل النّاس في ذلك اليوم وفي الأيّام اللاحقة، فما كانت فائدة هذه الشهادة بالنسبة إلى العالم الإسلاميّ؟! أو إذا ما تركت أثراً في ذلك اليوم، فهل سيكون لهذه الذكرى بالنسبة إلى الأجيال الآتية أثر بيِّن وفاضح للظلم والآلام والمرارات وفاضح لليزيديّين في حقب التاريخ التي سَتَلي؟ ولو استُشهد الإمام الحسين عليه السلام، ولم يفهم أهل ذلك الزمان والنّاس والأجيال الآتية أنّه قد استُشهد، فما هو الأثر الذي يمكن أن تتركه هذه الخاطرة في رُشد وبناء وتوجيه وحثّ الشعوب وتحريك المجتمعات والتاريخ؟ لن يكون له أثر.


* للمظلوميّة صوت يصدح ويؤثّر
نعم، يصل الإمام الحسين عليه السلام بشهادته إلى أعلى عليّين. هناك شهداء لا يعرفهم أحد، قد مضوا في الغربة وطواهم الصمت والسكوت. هم سينالون أجرهم في الآخرة، وستنال أرواحهم الفتح والرحمة في المحضر الإلهيّ، لكن ستكون شهادتهم درساً وأسوة لغيرهم؟ وإلى أيّ حدٍّ يصبح الشهداء أسوة؟
تصبح سيرة أيّ شهيد درساً عندما تعرف وتسمع الأجيال المعاصرة والآتية بمظلوميّته وشهادته. ويصبح ذلك الشهيد أسوة ودرساً عندما يفور دمه، ويصبح سيّالاً في التاريخ. نعم، يمكن لمظلوميّة أمّة أن تُبلسم جرح جسد مظلوم، وترفع السياط عن أمّة وتداوي جراحها، وعندما يتسنّى لهذه المظلوميّة أن تنادي وتصدح تصل إلى مسامع النّاس الآخرين، ولهذا السبب فإنّ المستكبرين، في عصرنا الحاضر، يصدحون ويرفعون أصواتهم تترى حتّى لا يرتفع صوتنا، ومن أجل ذلك هم حاضرون لصرف الأموال الطائلة حتّى لا تفهم شعوب العالم تلك المظلوميّات.


* دور ذكرى شهادة الشهداء
في ذلك اليوم كانت الأجهزة الاستكباريّة على استعداد لبذل كلّ ما لديها حتّى لا يبقى ولا يعرف اسم الحسين ودم الحسين وشهادة عاشوراء كدرس لناس ذلك الزمان وللشعوب التي ستأتي في ما بعد. بالتأكيد هم في بداية الأمر لم يفهموا قيمة هذه المسألة وكم هي عظيمة، لكن مع مرور الوقت عرفوا ذلك، حتّى إنّهم في أواسط العهد العبّاسيّ دمّروا قبر الحسين بن عليّ عليهما السلام وأجروا الماء عليه وأرادوا أن لا يبقى له أثر(1).
وهذا هو دور ذكرى الشهداء والشهادة. فـالشهادة من دون خاطرة وذكرى ومن دون غليان دماء الشهيد لا تؤثّر أثرها، والأربعون هو ذلك اليوم الذي بدأ فيه رفع علم رسالة شهادة كربلاء عالياً ويوم تخليد ذكرى ورثة الشهداء. وهنا، سواء وصلت عائلة الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء في الأربعين الأوّل(2)، أم لم تصل(3)، سواء وصلت في أربعينه تحديداً أو وصلت في تاريخ لاحق، الأمر سواء.


* جابر أوّل زوّار الأربعين
الأربعون الأوّل هو اليوم الذي جاء فيه الزوّار العارفون بالإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء للمرّة الأولى(4). فقد جاء جابر بن عبد الله(5) الأنصاريّ، وعطيّة(6)، وهما من صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحواريي أمير المؤمنين عليه السلام. فأخذ عطيّة بيد جابر ووضعها على قبر الحسين عليه السلام. لمس جابر القبر وبكى وتكلّم مع الحسين عليه السلام(7). فبمجيئه وكلامه قد أحيا ذكرى الحسين بن عليّ عليهما السلام، وثبّت سنّة زيارة قبر الشهداء. إنّ يوم الأربعين وعلى هذا القدر من الأهمّيّة(8).
أمّا توجُّه عائلة الإمام الحسين عليه السلام في أيّ مكان كانوا -من المدينة أم من الشام- إلى كربلاء لأجل إحياء واقعة عاشوراء، فكانت حادثة مقاومة وحادثة شهادة(9).


* الأربعون حركة امتداد عاشوراء
في الحقيقة كانت مسألة مجيء أهل بيت الإمام الحسين عليه السلام إلى مزار سيّد الشهداء امتداداً لحركة عاشوراء. فقد أرادوا من خلال هذا العمل أن يُفهموا أتباع الحسين بن عليّ عليهما السلام، وأصحاب عائلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمين الذين وقعوا تحت تأثير هذه الحادثة، أنّها لم تنته، وأنّ المسألة لا تنتهي بالقتل والدفن والأسر، ومن ثمّ تحرير الأسرى، بل هي مستمرّة، وتُذكّر الشيعة بأنّ كربلاء محلّ اجتماعهم، وفيها الميعاد الكبير الذي يعيد التذكير بهدف المجتمع الشيعيّ والهدف الإسلاميّ الكبير لمجتمع المسلمين، الذي هو تشكيل النظام الإسلاميّ، والسعي في سبيله، ولو اقتضى الشهادة! وهذا الأمر ينبغي أن لا يغيب عن ذاكرة المسلمين، بل يجب أن تبقى ذكراه حيّة دائماً. ولهذا الغرض كان مجيء آل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام السجّاد وزينب الكبرى عليهما السلام إلى كربلاء(10).


* الأربعون وتفجّر ينابيع المحبّة
في الأربعين، تفتّحت أوّل البراعم العاشورائيّة. ظهرت أوّل الينابيع الفوّارة للمحبّة الحسينيّة، التي استمرّت على الدوام بزيارة المرقد المطهّر خلال كلّ تلك القرون. ولقد جذب حبّ الحسين بقوّة القلوب الأوائل نحوه في الأربعين. وكان ذهاب جابر بن عبد الله وعطيّة لزيارته عليه السلام بداية حركة تفيض بالبركة استمرّت من خلال القرون إلى يومنا هذا، وغدت شيئاً فشيئاً أكثر عظمة وغاية في الجذب، وأكثر توهّجاً وحياة، وأصبح اسم الحسين عليه السلام وذكره أقوى حياةً، يوماً بعد يوم في العالم(11).
وهذا الجذب هو نفسه الذي يجذبنا اليوم، وبعد مضيّ قرون متمادية. فالذين استقرّت في قلوبهم معرفة أهل البيت عليهم السلام يحيا عشق كربلاء وشغفهم بها دائماً في قلوبهم. وهذا قد بدأ منذ ذلك اليوم، عشق التربة الحسينيّة ومرقد سيّد الشهداء عليه السلام.


* جابر شَهِد حبّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للحسين عليه السلام
كان جابر من مجاهدي صدر الإسلام الأوّل، من أصحاب بدر(12)؛ أي إنّه كان في خدمة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قبل ولادة الإمام الحسين عليه السلام، وجاهد إلى جانبه، وكان قد شهد بعينه طفولة الحسين. ومن المتيقّن به أنّ جابراً كان قد رأى مرّات عديدة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يحضن الحسين عليه السلام ويقبّل عينيه ووجهه ويطعمه بيده ويسقيه. ومن المحتوم أنّ جابراً قد سمع من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الحسن والحسين هما سيّدا شباب أهل الجنّة(13) ثمّ بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانت شخصيّة الإمام الحسين عليه السلام ومكانته وموقعيّته أمام ناظريه، سواء أفي عهد الخلفاء أم في عهد أمير المؤمنين عليه السلام أم في الكوفة أم المدينة.
فلمّا سمع جابر أنّ الحسين عليه السلام قد استشهد، وأنّ فلذة كبد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل عطشانَ، خرج من المدينة، ورافقه عطيّة من الكوفة. يروي عطيّة أنّ جابراً اقترب من شطّ الفرات، اغتسل ووضع عمامة بيضاء نظيفة على رأسه، ثمّ تقدّم بخطوات متثاقلة وبكامل الاحترام نحو قبر الإمام الحسين عليه السلام.


* السلام عليكم يا آل الله
وفي الرواية التي قرأتها يقول الراوي: عندما وصل جابر إلى القبر قال ثلاث مرّات بأعلى صوته: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر"؛ أي أنّه عندما رأى كيف قُتل فلذة كبد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على أيدي مهاجمين أعمتهم الشهوات بتلك المظلوميّة، كبّر، ثمّ قال: "أُغشي على جابر -من كثرة البكاء والنحيب على قبر الإمام الحسين عليه السلام- ووقع على الأرض". لا نعرف ماذا جرى حينها، لكن تنقل هذه الرواية أنّه عندما أفاق بدأ الحديث مع أبي عبدالله عليه السلام: "السلام عليكم يا آل الله، السلام عليكم يا صفوة الله(14)"(15).
ــــــــــــــــ
1.مقاتل الطالبّيين، أبو الفرج الأصفهاني، ص478-479، بحار الأنوار، المجلسي، ج45، ص394-395.
2. الآثار الباقية عن القرون الخالية، البيروني، ص422.
3.بحار الأنوار، (م.س)، ج98، ص334-335.
4.رجال الطوسيّ، ص31-32.
5.قاموس الرجال، محمد تقي التستري، ج7، ص209-211.
6.مقتل الحسين، الخوارزميّ، ج2، ص190-191، بحار الأنوار، (م.س)، ج65، ص130-131.
7.في لقاء جموع غفيرة من عوائل الشهداء في طهران وضواحيها، 13/11/1985م.
8.في لقاء اتحادات الطلبة الإسلاميّة في مختلف مناطق البلاد، 3/11/1986م.
9.مثير الأحزان، ابن نما الحلّي، ص86.
10.في خطبـــة صـــلاة جمعــــة طهران، 16/10/1988م.
11.بيان النيروز بمناسبة بداية العام الهجريّ الشمسيّ 1385ش، 21/3/2007م.
12.التاريخ الكبير، البخاري، ج2، ص207؛ شرح الأخبار، القاضي النعماني، ج3، ص205-208.
13.المعجم الكبير، الطبراني، ج3، ص39؛ شرح الأخبار، ج3، ص76؛ بحار الأنوار، (م.س)، ج27، ص119.
14.بحار الأنوار، (م.س)، ج98، ص329.
15.من كلمته في صحن الجامع الرضويّ، 21/3/2007م.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد