مقالات

البُعد العقائدي لتبرُّك الأمّة بتربة الحسين عليه السلام


الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ..

السّجود على الأرض فريضة، وعلى التّربة الحسينيّة سنّة وفضيلة. ومن السّخافة أو العصبيّة الحمقاء قول بعض مَن يحمل أسوأ البغض للشّيعة: إنّ هذه التّربة التي يسجدون عليها صنمٌ يسجدون له. هذا مع أنّ الشّيعة لا يزالون يهتفون ويُعلنون في ألسنتهم ومؤلّفاتهم أنّ السجود لا يجوز إلّا لله تعالى، وأنّ السّجود على التّربة سجود له عليها، لا سجود لها.
ولكن أولئك الضعفاء من المسلمين لا يُحسنون الفرق بين السجود للشّيء والسجود على الشيء، السجودُ لله عزّ شأنُه، ولكن على الأرض المقدّسة والتربة الطاهرة. وسجودُ الملائكة كان لله وبأمرٍ من الله؛ تكريماً لآدم عليه السلام.
نعم قد صار السجود على التربة الحسينيّة من عهد قديم شعاراً شائعاً لهذه الطائفة (الشيعة)، يحملون ألواحها في جيوبهم للصلاة عليها، ويضعونها في سجّاداتهم ومساجدهم، وتجدها منثورة في مساجدهم ومعابدهم، وربما يتخيّل بعضُ عوامّهم أنّ الصلاة لا تصح إلّا بالسجود عليها.
ومنشأ هذا الانتشار، ومبدأ تكوّن هذه العادة والعبادة، وكيفيّة نشوئها ونموِّها، وتعيين أوّل مَن صلّى عليها من المسلمين، ثمّ شاعت وانتشرت هذا الانتشار الغريب هو: أنّ في بدء بزوغ شمس الإسلام في المدينة، أعني في السنة الثالثة من الهجرة، وقعت الحرب الهائلة بين المسلمين وقريش في (أُحد)، وانهدّ فيها أعظم ركنٍ للإسلام، وأقوى حامية من حُماته، وهو «حمزة بن عبد المطّلب» عمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأخوه من الرّضاعة.
فعظمت مصيبتُه على النبيّ صلّى الله عليه وآله وعلى عموم المسلمين، ولا سيّما وقد مثّلت به بنو أُميّة، أعني هنداً أُمّ معاوية تلك المثلة الشنيعة؛ فقَطّعتْ أعضاءه، واستخرجت كبده فلاكتها ثمّ لفظتها، وأمر النبي صلّى الله عليه وآله نساء المسلمين بالنياحة عليه في كلِّ مأتم، واتّسع الأمر في تكريمه إلى أن صاروا يأخذون من تراب قبره فيتبرّكون به، ويسجدون عليه لله تعالى، ويعملون المسبحات منه.
وتنصّ بعض المصادر أنّ فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله جرت على ذلك، أو لعلّها أوّل من ابتدأ بهذا العمل في حياة أبيها رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولعلّ بعض المسلمين اقتدى بها.
وكان لقب حمزة يومئذ سيّد الشهداء، وسمَّاه النبي صلّى الله عليه وآله أسد الله وأسد رسوله.
ويعلق بخاطري عن بعض المصادر ما نصّه تقريباً: «حمزة دُفن في أُحد، وكان يسمّى سيّد الشهداء، ويسجدون على تراب قبره. ولمّا قُتل الحسين عليه السّلام صار هو سيّد الشهداء، وصاروا يسجدون على تربته». انتهى.


في (مزار البحار) للمجلسي قُدّس سرّه "..":
 عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال: «إنّ فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله كانت سُبحتُها من خيط صوف مفتّل، معقود عليه عدد التكبيرات، وكانت عليها السلام تُديرها بيدها، تكبّر وتسبّح حتّى قُتل حمزة بن عبد المطّلب، فاستعملت تربتَه وعملت منها التسابيح، فاستعملها الناس، فلمّا قُتل الحسين صلوات الله عليه عُدل بالأمر إليه؛ فاستعملوا تربتَه لما فيها من الفضل والمزيّة». انتهى.
أمّا أوّل مَن صلّى عليها من المسلمين، بل من أئمّة المسلمين، فالذي استفدتُه من الآثار، وتلقّيته من حَمَلة أخبار أهل البيت عليهم السّلام، مَهَرَة الحديث من أساتذي الأساطين الذين تخرّجت عليهم برهة من العمر، هو أنّ زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السّلام بعد أن فرغ من دفن أبيه وأهل بيته وأنصاره عليهم السّلام، أخذ قبضةً من التربة التي وُضع عليها الجسد الشريف الذي بضّعته السيوف كَلَحمٍ على وَضَم، فشدّ تلك التّربة في صُرّة وعمل منها سجّادة ومسبحة، وهي السُّبحة التي كان يُديرها بيده حين أدخلوه الشام على يزيد، فسأله: ما هذه التي تُديرها بيدك؟
فروى له عن جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله خبراً محصلّه أنّ من يحمل السّبحة صباحاً، ويقرأ الدعاء المخصوص لا يزال يُكتب له ثواب التسبيح وإنْ لم يسبّح.
ولمّا رجع الإمام عليه السّلام هو وأهلُ بيته إلى المدينة صار يتبرّك بتلك التربة ويسجد عليها، ويعالج بعض مرضى عائلته بها، فشاع هذا عند العلويِّين وأتباعهم ومَن يقتدي بهم؛ فأوّل مَن صلّى على هذه التربة واستعملها هو زين العابدين عليه السّلام، الإمام الرابع من أئمّة الشيعة الإثني عشر المعصومين عليهم السّلام.
ويشير إلى ذلك المجلسي في (البحار) في أحوال الإمام السجّاد عليه السّلام.
ثمّ تلاه ولدُه محمّد الباقر عليه السّلام، الخامس من الأئمّة عليهم السّلام، وتأثّر في هذه الدعوة؛ فبالغ في حثّ أصحابه عليها، ونشر فضلها وبركاتها.
ثمَّ زاد على ذلك ولدُه جعفر الصادق عليه السّلام؛ فإنّه نوّه بها لشيعته، وكانت الشيعة قد تكاثرت في عهده وصارت من كبريات طوائف المسلمين، وحَمَلة العلم والآثار كما أوعزنا إليه في رسائلنا (أصل الشيعة).

وقد التزم الإمام عليه السّلام ولازم السجود عليها بنفسه؛ ففي (مصباح المتهجِّد) لشيخ الطائفة الشيخ الطوسي قُدّس سرّه روى بسنده:
 كان لأبي عبد الله [الصادق] عليه السّلام خريطةُ ديباجٍ صفراء فيها تربة أبي عبد الله [الحسين] عليه السّلام، فكان إذا حضر الصلاة صبّه على سجادته وسجد عليه، ثمّ قال عليه السّلام: السجود على تربة أبي عبد الله عليه السّلام يخرقُ الحُجُبَ السَّبع.
ولعلّ المراد بالحُجُب السَّبع هي الحاءات السَّبع من الرذائل التي تحجب النفس عن الاستضاءة بأنوار الحق، وهي: (الحقد، الحسد، الحرص، الحدّة، الحماقة، الحيلة، الحقارة)؛ فالسجود على التربة من عظيم التواضع والتوسل بأصفياء الحق يمزّقها ويخرقها، ويبدّلها بالحاءات السبع من الفضائل، وهي: (الحكمة، الحزم، الحلم، الحنان، الحصافة، الحياء، الحب). ولذا يروي صاحب (الوسائل) عن الديلمي قال: كان الصادق عليه السّلام لا يسجد إلّا على ترابٍ من تربة الحسين عليه السّلام؛ تذلّلاً لله تعالى، واستكانةً إليه.
ولم تزل الأئمّة عليهم السّلام من أولاده وأحفاده تُحرّك العواطف، وتُحفّز الهِمم، وتوفّر الدواعي إلى السجود عليها والالتزام بها، وبيان تضاعف الأجر والثواب في التبرّك بها والمواظبة عليها، حتّى التزمت بها الشيعة إلى اليوم هذا الالتزام مع عظيم الاهتمام.
ولم يمضِ على زمن الصادق عليه السّلام قرنٌ واحد حتّى صارت الشيعة تصنعها ألواحاً وتضعها في جيوبها كما هو المتعارف اليوم؛ فقد روي في (الوسائل) عن الإمام الثاني عشر الحجّة عليه السّلام أنّ الحِميري كتب إليه يسأله عن السجدة على لوحٍ من طين قبر الحسين عليه السّلام، هل فيه فضل؟ فأجاب عليه السّلام: «يجوز لك، وفيه الفضل». ثمّ سأله عن السُّبحة فأجاب بمثل ذلك.
فيظهر أنّ صنْع التربة أقراصاً وألواحاً كما هو المتعارف اليوم كان متعارفاً من ذلك العصر، أي وسط القرن الثالث حدود المائتين وخمسين هجريّة، وفيها قال: رُوي عن الصادق عليه السّلام أنّ السجود على طين قبر الحسين ينوّر الأرضينَ السبع، ومَن كانت معه سبحة من طين قبر الحسين كُتب مسبّحاً وإنْ لم يسبّح فيها.
وليست أحاديث فضل هذه التربة الحسينيّة وقداستها منحصرة بالشيعة وأحاديثهم عن أئمّتهم عليهم السّلام، بل لها في أُمّهات كُتب حديث علماء السنة شهرة وافرة وأخبار متضافرة، وتشهد بمجموعها أنّ لها في عصر جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله نبأً شائعاً وذكراً واسعاً، والحسين عليه السّلام يومئذ طفل صغير يَدْرُج.
بل لعلّ بعضها قبل ولادته، والنبي صلّى الله عليه وآله ينوّه بقتل الحسين وآل بيته وأنصاره عليهم السّلام فيها، وإذا أردتَ الوقوف على صدق هذه الدعوى ومكانها من الصحّة فراجع كتاب (الخصائص الكبرى) للسيوطي، طبع حيدر آباد سنة 1320 هجريّة، في باب إخبار النبيّ صلّى الله عليه وآله بقتل الحسين عليه السّلام.
فقد روى فيه ما يناهز العشرين حديثاً عن أكابر الثقاة من رواة علماء السنّة ومشاهيرهم؛ كالحاكم، والبيهقي، وأبي نعيم، وأضرابهم عن أُمّ الفضل بنت الحارث، وأُمّ سلمة، وعائشة، وأنَس. وأكثرها عن ابن عبّاس وأُمّ سلمة وأنس صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وخادمه الخاصّ به.
يقول الراوي في أكثرها: إنّه دخل على رسول الله صلّى الله عليه وآله والحسين في حِجره، وعَينا رسولِ الله تهرقان الدموع، وفي يده تربة حمراء، فيقول الراوي: ما هذه التربة يا رسول الله؟
فقال صلّى الله عليه وآله :أتاني جبرئيل فأخبرني أنّ أُمّتي ستقتل ابني هذا، وأتاني بتربةٍ من تربته حمراء، وهي هذه.
وفي طائفة أُخرى أنّه يُقتل بأرض العراق، وهذه تربتها، وأنّه أَودع تلك التربة عند أُمّ سلمة زوجته، فقال صلّى الله عليه وآله: إذا رأيتيها وقد فاضت دماً فاعلمي أنّ الحسين قُتل، وكانت تتعهّدها، حتّى إذا كان يوم عاشوراء (عام شهادة الحسين) وجدتْها قد فاضت دماً، فعلمت أنّ الحسين عليه السّلام قد قُتل.
بل في هذا الكتاب (الخصائص) وفي (العقد الفريد) لابن عبد ربه، أخرج البيهقي وأبو نعيم عن الزهري قال: بلغني أنّه يوم قُتل الحسين لم يُقلَب حجرٌ من أحجار بيت المقدس إلّا وُجد تحته دمٌ عبيط.
وعن أُمّ حيان: يوم قُتل الحسين أظلمت الدنيا ثلاثاً، ولم يمسّ أحدهم من زعفرانهم شيئاً إلّا احترق، ولم يُقلب حجر في بيت المقدس إلّا وُجد تحته دمٌ عبيط.
أما أحاديث التربة الحسينيّة، وقارورة أُمّ سلمة وغيرها، وشيوع ذكرها في حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله، وإخباره عن فضلها، وعن قتل الحسين عليه السّلام فيها قبل ولادة الحسين عليه السّلام، وبعد ولادته وهو طفل صغير، المرويّة في كُتب الشيعة والتأريخ والمقاتل، فهي كثيرة مشهورة متضافرة، بل متواترة،  لو اجتمعت لجاءت كتاباً مستقلّاً.


من آداب التُّربة الحسينيّة
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال الراوي: قلت له: جُعلتُ فداك، إنّي رأيتُ أصحابنا يَأخذون من طِين الحائر يَستشفون به هل في ذلك شيءٌ ممّا يقولون من الشِّفاء؟
فقال عليه السلام: يُستشفى بما بينه وبين القبر على رأس أربعة أميال، "..." فَخُذ منها، فإنَّها شفاء مِن كلِّ سقم، وجُنَّةٌ ممَّا تخاف، ولا يعدلها شيء من الأشياء التي يُستشفى بها إلّا الدُّعاء، وإنَّما يُفسدُها ما يُخالطها من أَوْعيتها، وقلّةُ اليقين لِمَن يُعالَج بها، فأمَّا مَن أيقَن أنَّها له شفاء إذا يعالَج بها كَفَتْه بإذن الله من غيرها ممَّا يُعالَج به، ويُفسدها الشَّياطين والجنُّ من أهل الكفر منهم، يتمسَّحون بها، وما تمرُّ بشيءٍ إلَّا شَمَّها، وأمَّا الشّياطين وكفَّار الجنِّ فإنَّهم يَحسدون بني آدم عليها، فيتمسَّحون بها ليذهبَ عامَّةُ طِيبها، ولا يخرج الطِّين من الحائر إلَّا وقد استعدَّ له ما لا يُحصى منهم، وإنَّه لَفِي يد صاحبها وهم يَتمسَّحون بها، ولا يَقدرون مع الملائكة أن يدخلوا الحائر، ولو كان من التُّربة شيء يَسلَم ما عولج به أحدٌ إلّا بَرَأَ من ساعته.
فإذا أخذتَها فاكتُمْها، وأكثر عليها من ذِكر الله تعالى.
وقد بَلَغني أنَّ بعض مَن يأخذ من التُّربة شيئاً يستخفُّ به، حتّى أنَّ بعضهم ليَطرحُها في مخلاة الإبل، والبغلِ، والحمار، وفي وعاء الطَّعام، وما يُمسح به الأيدي من الطَّعام والخُرج والجوالق (أكياس الخَيْش)، فكيف يَستشفي به مَن هذا حالُه عنده؟ ولكنَّ القلب الذي ليس فيه يقين من المستخفّ بما فيه صلاحه يفسد عليه عمله.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد