علمٌ وفكر

نظريَّة التطوُّر والعِلَل الأربعة (2)


د. حسن أحمد جواد اللواتي ..

وَلنَرْجِع الآن لنظرية التطوُّر، ونحاول فَرْز عِلَلها الأربعة.
العِلَل المادية للتطوُّر:
العِلَل المادية للتطوُّر واضحةٌ من خلال النظرية نفسها؛ فالنظرية تتطلَّب أنْ تكون هناك كائنات حيَّة مُكوَّنة من مواد عضوية، ولها شيفرة وراثية في خلاياها، ولها بروتينات مُكوَّنة من أحماض أمينية، ويتمُّ بناءُ هذه البروتينات من خلال الشيفرة الوراثية، ثم يتم تحديد صِفَات الكائن الحيِّ: الهيكلية والوظيفية؛ من خلال هذه البروتينات. ومن جهة أخرى، فإنَّ لدينا عواملَ طبيعية تُؤثِّر في تلك الشيفرة الوراثية، وتُنْتِج طفرات وراثية بها؛ وبالتالي تُغيِّر من هَيْكل البروتينات ووظائفها. وباختصار، فإنَّ العِلَل المادية للتطوُّر هي نَفْسها مُكوِّنات الطبيعة المادية المكوَّنة من ذرَّات وجزيئات، والقوى الفيزيائية الأربعة الأساسية: الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والقوة النووية الضعيفة، والقوة النووية القوية.


العِلَل الصورية للتطوُّر:
مِنْ خِلَال الكلام عن العِلَل المادية للتطوُّر، اتَّضَح لنا أنَّ العِلَل الصورية هي أشكالٌ وصفاتٌ وتصميمات الكائنات الحية التي تتحدَّد من خلال تفاعل العِلَل المادية للتطوُّر مع بعضها؛ وبالتالي فإنَّ تغيُّرات الشفيرة الوراثية تُؤدِّي إلى تغيُّرات في خصائص وَصِفَات وشَكْل الكائن الحي.


العِلَل الفاعلية المادية للتطوُّر:
العِلَل الفاعلية الأولى أو المادية للتطوُّر هي التي يتمسَّك أصحابُ المذهبِ الماديِّ بها؛ للتلويح بأنَّ النظرية إنَّما تُؤسِّس للإلحاد؛ فهذه العِلَل الفاعلية هي: العوامل المنتجة للطفرات الجينية، والانتخاب الطبيعي.
وَالسُّؤالُ الآن: هل تَكْفِي هاتان العلَّتان الفاعليتان لتقديم تفسيرٍ كافٍ للتنوُّع البيئي الضخم الذي نراه؟ الإجابة تحتاج أيضًا للتفرُّع، ولكل فرعٍ إجابته.
إِنْ كانَ المقصودُ بالسؤال: لماذا هَذِه الكائنات الحية موجودة وليست مَعْدُومة؟ لماذا لها وُجُوْد أصلاً؟ فإنَّ العلتين الفاعليتين أعلاه لا تَكْفِيَان ألبتة؛ لأنَّهما إنَّما تَعْمَلان بعد وجود الأشياء، ولا تمنحانها الوجود، وهذا أمرٌ واضحٌ جدًّا ولا يحتاج مزيدًا من التفصيل.
وَإِنْ كانَ المقصودُ بالسؤال: بَعْد أنْ وُجِدَت المواد العضوية على الأرض، هل يُمْكِن لها أنْ تتفاعل وتُنتج الخلية الحية الأولى التي بإمكانها أن تتكاثر وتنقل شيفرتها الوراثية للجيل التالي؟ فإنَّ نظرية التطوُّر ليستْ معنيَّة أصلًا بتقديم الإجابة عن هذا السؤال (عن منشأ الحياة الأولى على الأرض)، وهناك فَرْضيَّات ومُحَاولات في بحثٍ آخر لهذا الموضوع، ولا تَزَال هذه الفرضيَّات غير قادرة على تَقْدِيم تفسيرٍ جيِّد لنشوء الحياة الأولى على الأرض، وتحديدًا مع إشكالية التوجُّه الخاص لليسار في الأحماض الأمينية التي تُكوِّن البروتينات في الكائنات الحية (1).
وَإِنْ كانَ المقصودُ بالسؤال: بَعْد أنْ وُجِدَت الحياةُ المادية على الأرض، فهل تَكْفِي العواملُ المنتِجَة للطفرات الجينية، والانتخاب الطبيعي، لتفسير التنوُّع البيئي الحي؟ نعم، هُنَا يُمْكِن أنْ نقول في ظل الأدلة الموجودة والتي تعرَّضنا لها في الحلقات الماضية من هذا المقال، أنَّ الطفرات الوراثية والانتخاب الطبيعي يَكْفِيَان لإنتاج التنوُّع البيئي الهائل.


العِلَّة الغائية المادية للتطوُّر:
الغَايَةُ الماديَّةُ التي تَسْعَى لها الكائنات الحية في الطبيعة هي الحياة أولًا، ونقل المادة الوراثية للجيل القادم ثانيًا. وعند تَعَارُض هاتين الغايتين، تُقدَّم الثانية على الأولى؛ حيث نَلْحَظ أنَّ الكائنات الحية لا تُمَانع التضحية بحياتها في سبيل الحفاظ على أطفالها، ونقل المادة الوراثية من خلالهم للمستقبل. ريتشارد دوكنز -عالم الأحياء الشهير والملحد الأشهر حاليا- كَتَب بالتفصيل في هذا الموضوع في كتابه الجينة الأنانية (2) “The Selfish Gene”؛ ولهذا الحدُّ لا نَجِدُ أيَّ اعتراضٍ على كَلَامِه.


العِلَّة الفاعلية غير المادية:
قَدْ تَكُوْن لاحظتَ أثناء الكلام عن العِلَل الفاعلية المادية للتطور أنَّنا في الاحتمال الأول نَحْتَاج لبحثٍ عقليٍّ فلسفيٍّ؛ للوصول إلى العِلَّة الفاعلية غير المادية، التي مَنَحَتْ الأشياء وُجُوْدَها، ولن نَصِلَ من خلال البحثِ الطبيعيِّ إلى إجابة لسؤالنا، وهذا بحثٌ كاملٌ بحد ذاته يبحث في الفلسفة والإلهيات، ولكن يُمْكِنُنا أنْ ننقل الخُلاصَة هنا من خلال القول بأنَّ كلَّ الفواعل المادية إنَّما تعمل بَعْد وُجُوْد الأشياء ووجودها هي نفسها، ولكن لا يُمْكِن لأيِّ فاعلٍ ماديٍّ أنْ يُفسِّر وجودَ نفسِهِ، أو وجودَ معلولاتِه المادية؛ لذا تبقى الحاجة لوجود فاعلٍ غير ماديٍّ يمنح الفواعل المادية ومفعولاتها المادية وُجُوْدَها، ولَيْس هذا فحسب، بل إنَّ البحثَ الفلسفيَّ في الحِكْمَة المتعالية في مَسْألة أصالة الوجود يُقدِّم لنا أيضًا النتيجة التالية؛ وهي: أنَّ الفاعلَ غَيْر المادي مَنَح الفواعل المادية لَيْس فقط وُجُوْدَها، بل مَنَحَهَا خواصَّها وصفاتها أيضًا؛ لأنَّ تلكَ الخواص والصفات ليست شيئا مُنفصِلًا عن وُجُوْد الشيء، بل هي نفس وُجُوْد الشيء وحدودُ ذلك الوجود وكيفيته.
وَتِلْكَ الفواعلُ المادية عِنْدَما تعملُ من خلال خواصِّها وصفاتها وكيفياتها في إنتاج الأثر بالطبيعة، فإنَّمَا هي تَفْعل ذلك من خِلَال ما منحه إيَّاها الفاعلُ غير المادي. وبتذكُّر كلامنا عن العِلَل الطولية، نستطيع القول بأنَّ الفاعلَ غير المادي مسؤولٌ بحَسْب مِقْدَار فِعْلِه عن التطوُّر والتنوُّع الطبيعي والحيوي في الطبيعة.
وَبِذَلِك؛ تَسْقُط حجج الملحديْن المتمسِّكيْن بـ”نظرية التطوُّر” كشمَّاعة لنفي الحاجة لوجود الإله والخالق؛ لأنَّ كلَّ الفواعل الطبيعية التي يَطْرَحُوْنها لتفسير الطبيعية إنَّما تستندُ بدَوْرِها -في وُجُوْدِها، وخصائصها، وصفاتها، وكيفياتها- إلى فاعلٍ أعلى وأكبر غير مادي.


العِلَّة الغائية غير المادية:
بَعْدَ أنْ تحتَّم وُجُوْد عِلَّة فاعلية غير مادية، تحتَّم بالتبعية والنتيجة وُجُوْد عِلَّة غائية غير مادية للأشياء؛ فإنْ كانتْ غاية الكائنات الحيَّة في الطبيعة المادية هي البقاء على قَيْد الحياة، ونقل المادة الوراثية للمستقبل، فإنَّ الغاية غير المادية لها تكون من مُسْتَوى الفاعل غير المادي، ويتمُّ البحثُ عَنْهَا من خلال المنظومات الدينية التي تُشخِّص ذلك الفاعل غير المادي، وتحدِّد طُرُقَ التواصل معه؛ لذلك فلنْ نَتَدخَّل في هذا الجانب؛ كَوْنُه لَيْس من اختصاصِنَا.
—————————————————
الهوامش:
(1)Al Lawati, H. A. (2015, July 07). “نشأة الحياة والقفاز الأيسر.. حكاية تتحدَّى علماء الكيمياء”،Retrieved May 15, 2017, from http://sharqgharb.net/nshatt-alheatt-walqfaz-alaesr-hkitt-tthd-aa-almaaa-alkemeaaa/
(2) Dawkins, R. (2016). The selfish gene. Oxford: Oxford University Pres

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد