علمٌ وفكر

نظريَّة التطوُّر والعِلَل الأربعة (1)


د. حسن أحمد جواد اللواتي ..

لَعلَّنَا لا نُبَالِغ كثيراً إنْ قُلْنَا إنَّ نظرية التطوُّر أثارت جدلاً علميًّا فكريًّا لا يُضَاهِيه إلا النادر من النظريات العلمية الأخرى، ولعلَّنا نُدْرِكُ -بشكل أو بآخر- السببَ في هذا الجدل؛ فالنظرية بما هي نظرية لا تحمل من المشكلات العلمية أكثر مما يحمله غيرها من النظريات الأخرى التي قد لا نكون سمعنا عنها، أو عرفنا عنها الكثير، ولكنَّ الارتدادات الفكرية المتوهمة للنظرية، والتوظيف الخاطئ لها من قِبَل مجموعات أيديولوجية معينة، جَعَلها كحبلِ جَذْبٍ وشدٍّ بَيْن أطراف يهمُّها الجانب الأيديولوجي من النظرية أكثرَ بكثير من الجانب العلمي لها.
وَمِنْ تلكَ اللوازم الفكرية التي تُقْلِق الأطراف:
– الاعتقادُ بأنَّ الكائنات الحية خُلقت صدفة.
– الاعتقادُ بأنَّ العِلَّة الفاعلة في الخلق هي عوامل طبيعية غير واعية.
– الاعتقادُ بأنَّ النظريَّة تُؤسِّس للإلحاد.
– الاعتقادُ بأنَّ النظريَّة تؤسِّس للطبقية، وتنخر عَصَب الأخلاق الاجتماعيَّة.


وَكَمَا أسْلَفْنَا، فإنَّ المحاولات المستميتة لتيار الإلحاد الجديد في الغرب لاستثمار نظرية التطوُّر كأحد أساسات الإلحاد والتشكيك بالألوهية والخالقية، لم يُسَاعِد على خَلْق سُمعة جَيِّدة للنظرية لدى القارئ العام، الذي لم يَطَّلِع على تفاصيل النظرية، والذي تأثَّر بالتسميات الكبيرة لمجموعة من العلماء الغربيين من تيار الإلحاد الجديد؛ فلم يَكُن بمقدوره إلا أنْ يُصدِّق أنَّ نظرية التطوُّر تُقدِّم بديلاً عن الألوهية والخالقية.
وَمِنْ ناحِيَةٍ أخرى، فإنَّ رِدَّة فعل التيار المحافظ -المتمثِّل في مدرسة الخلق الآني، أو الدفعي- تجاه النظرية لم يُسَاعِد أيضًا؛ لأنه تمثَّل بهجوم على النظرية العلمية ليس من مُنطلق الاهتمام بالجانب العلمي لها، وإيجاد نظرية علمية أقوى وأفضل، وإنما لدَفْعِ مَا قد يترتَّب عليها من لوازم فكرية يَرْفُضها هذا التيار. ونتيجة لذلك؛ فإنَّ الحربَ -إن صحَّ تسميتها بذلك- بَيْن الطرفين لم تؤدِّ إلا إلى ضَيَاع للنظرية بين أنقاض المؤيدين بهدف الإلحاد، والمعارضين بهدف اللاهوت، والنظرية بما هي نظرية -كما نفهمها ويفهمها الكثيرون- لا هِي مُؤيِّدة للإلحاد، ولا هي مُعَارِضة للاهوت.
نَعُوْد للسُّؤالِ الأساسيِّ للحلقة، وهو سؤال مُؤرِّق للبعض: مَنْ الذي يُجري التغيرات في الأنواع بحسب نظرية التطوُّر؟ هل هي العوامل الطبيعية من قبيل ما يُؤثِّر في المادة الوراثية، ويتسبَّب بالطفرات فيها، أم أنَّه الانتخابُ الطبيعيُّ الذي يَعْنِي -بعبارة أخرى- الطبيعة نفسها، أم هِيَ يدٌ إلهية غيبية تتدخَّل في كلِّ صغيرة وكبيرة في الطبيعة؛ فتُغيِّر من الأشياء لحظةً بلحظة، وتقرِّر استبدالَ شيء بشيء، ونوعٍ بنوع؟ أم أنَّ اليد الإلهية صَنَعَتْ العوامل الطبيعية ثمَّ تراجعتْ للوراء لتتركَ تلك العوامل الطبيعية تتصرَّف كيفما تصادفت أوضاعها وتفاعلاتها؛ لتُنْتِج نواتجَ لا دَخْل لليد الغيبية بها من حيث النَّوْع والكمِّ والكَيْف؟


فِي نَظَرِي، أنَّ أفضلَ مُقاربة وإطار للإجابة هي من خلال ما يُسمَّى “العِلَل الأرسطية الأربعة”، والتي تُنْسَب لأرسطو طاليس (384-322 ق.م)، في المجلد الثاني من كتابه “ميتافيزيكس” أو “ما فوق الطبيعة”؛ حيث قدَّم أرسطو العِلَل الأربعة التي تُشكِّل العِلَّة الكاملة للأشياء؛ بحيث أنَّه عِنْد السؤال عن السبب في وُجُوْد شيء معين، فإنَّنا سنُجِيْب عنه من خلال تلك العِلَل الأربعة؛ وهي:
– العِلَّة المادية: وهي ما منه صُنِع الشيء.
– العِلَّة الصورية: وهي الصُّورة التي صُنِع الشيء عليها.
– العِلَّة الفاعلية: وهي مَصْدر التغيُّر الحادث في الشيء.
– العِلَّة الغائية (وقد يُسمُّونَها النهائية): وهي الغاية من صُنْعِ الشيء.


وَلِلتوْضِيح؛ لنأخذ مثالاً لصُنْع كرسي خشبي من قِبَل نجَّار مُعيَّن، ليتم استخدامه للجلوس عليه:
العِلَّة المادية لذلك الكرسي هي مادة الخشب الذي صُنِع منها. أمَّا العِلَّة الصورية، فهي شكل الكرسي وهندسته وتصميمه. والعِلَّة الفاعلية للكرسي هي النجار الذي أَحْدَث التغيير في شكل مادة الخشب، وحوَّلها من قطع خشبية إلى كرسي. والعِلَّة الغائية للكرسي هي الهدف والغاية من صُنْعِه؛ وهي: استخدامه للجلوس عليه.
لَاحِظْ أنَّ أيًّا من العِلَل الأربعة وحدها تَصْلُح للإجابة عن سؤال: “لماذا الكرسي؟”، ولكِنَّها تظلُّ إجابة ناقصة للسؤال، (إلا إنْ كان في السؤال قرينة تدل على أنَّ المطلوب إحدى العِلَل الأربعة فقط).
أَمْرٌ آخر تجدُر مُلاحظتُه أثناء فَرْز العِلَل الأربعة لأي أمر؛ وهو أنَّ الإجابة تعتمد على أكثر من وسيلة للبحث المعرفي؛ فالبحثُ بالعِلَّة المادية والصورية -حيث يكون المبحوث عنه شيئا ماديًّا طبيعيًّا- يتطلَّب مِنَّا استخدام العلوم الطبيعية التي مجالها المادة والطبيعة.

وَمِنْ نَاحيةٍ أُخْرى، هُنَاك مُستويات مُختلفة للفواعل والغايات؛ فقد يكون هُنَاك فاعل للشيء (ولنسمِّه: الفاعل الأول)، وهذا الفاعل الأول له فاعل بدوره (ولنسمِّه: الفاعل الثاني)؛ وبالتالي فإنَّ الفاعلَ الثاني يُعْتَبر أيضًا فاعلاً للشيء المبحوث عنه، ولكن من خلال الفاعل الأول، وهذا يُسمَّى بلغة الفلسفة “سلسل الفواعل” أو “سلسلة العِلَل الطولية”؛ حيث تَعْمَل عِلَّةٌ ما مِنْ خلال عِلَّة أخرى؛ وأبسط مثال يُسْتَخْدَم عادةً للعِلَل الطولية هو المدير في أيَّة شركة، حينما يطلب من الموظف لديه إنجازَ عمل ما، وعندما يُنْجِز الموظفُ ذلك العمل، فإنَّ الموظَّف يُعْتَبَر الفاعل المباشر الأول للعمل، ولكنَّ المديرَ أيضًا يُعْتَبر فاعلاً ثانياً لنفس العمل، ويتحمَّل مسؤولية ذلك العمل؛ فإنْ كانَ العملُ شيئاً يُعَاقِب عليه القانون فإنَّ الموظف والمدير يقعان تحت طائلة المسؤولية القانونية معاً، كلًّا حسب أهميته في إنجاز ذلك العمل غير القانوني. وإنْ كان ذلك العمل شيئاً يستحقُّ المكافأة والتقدير، فإنَّ الموظفَ والمديرَ معًا يَستَحقَّان المكافأة والتقدير، كلًّا حسب أهميته في إنجاز ذلك العمل المستَحِق المكافأة والتقدير.
وَبِالتَّالِي؛ فإنَّ الشيء المادي قد يَكُوْن له فاعلٌ أوَّل مادي ذو غاية مادية، وفاعلٌ ثانٍ غير مادي وذو غاية غير مادية، وكلاهما يَصْلُح بهذه المنظومة الأرسطية أن يُسمَّى فاعلًا للشيء، ولكن مع اختلاف الدرجة والنوعية؛ وبالتالي فإنَّ البحثَ المعرفيَّ عن الفاعل الأول المادي سيكُوْن من خلال العلوم الطبيعية، والبحث عن الفاعل الثاني غير المادي سيكون بالبحثِ الفلسفيِّ العقليِّ، وكذلك تحديد غايته سيكون بوسيلة غير مادية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد