مقالات

الإمام الرضا ورسالة التوحيد والوحدة


الشيخ حسين المصطفى ..

إنّ علاقاتنا برموز الإسلام هي علاقتنا بالإسلام نفسه، لأنهم كانوا الإسلام الذي يتحدث ويتحرك، والإسلام الذي يواجه التحدي، ولذا نريد هذا اليوم أن نجلس في مجلس علم أبي الحسن الرضا (ع) لنكتسب من خطه الفكر والعاطفة والحياة، وسنتطرق إلى جهتين:
الأولى: رسالة التوحيد.
والثانية: رسالة الوحدة.


رسالة التوحيد:
عندما بدأ الإمام الرضا (ع) رحلته إلى خراسان، توقف في مرو، فاجتمع إليه الرواة الذين كان كلُ همهم أن يرووا عن رسول الله (ص) من خلال أئمة أهل البيت (ع)، فقالوا: حدثنا يا بن رسول الله.
وأطلّ عليهم -وكان في المحمل- وبدأ (ع) بسرد سلسة سنده، المعروفة بالسلسلة الذهبية المباركة فقال: "حدّثني أبي موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد قال: حدثني أبي محمد بن علي قال: حدّثني أبي علي بن الحسين قال: حدّثني أبي الحسين بن علي قال: حدّثني أبي علي بن أبي طالب قال: حدّثني رسول الله  (ص) قال: حدّثني جبرائيل عن الله وهو يقول: "كَلِمَةُ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ حِصْنِي، ومَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي"[الأحاديث القدسية المشتركة: ص 19-21].
قال أبو نُعيمٍ: "هَذَا حَدِيثٌ ثابتٌ مشهورٌ ...، وكانَ بعضُ سَلَفِنَا من المُحدِّثينَ إذا رَوَى هَذَا الإسنادَ قالَ: لَوْ قُرِىءَ هَذَا الإسنادُ على مجنونٍ لأفَاقَ" [حلية الأولياء: ج 3 ص 191].
في هذا الحديث النبوي المشهور أراد الرضا (ع) أن يؤكد على معالم التوحيد لله سبحانه في عقل ووعي المسلمين، الذين زحف الشرك والغلوّ إلى بعض عقولهم بطريقة وبأخرى من حيث لا يشعرون، وليؤكِّد لهم ما قاله الله تعالى في حديثه القدسي لرسوله: من أنّ الحصن الذي يأوي إليه الناس فيحصلون على رضواني، ويأمنون من عذابي هو (التوحيد).
يقول محمَّد بن زيد: جِئْتُ إِلَى الرِّضَا (ع) أَسْأَلُهُ عَنِ التَّوْحِيدِ.. فَأَمْلَى عَلَيَّ: "الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ الْأَشْيَاءِ إِنْشَاءً، وَمُبْتَدِعِهَا ابْتِدَاعاً؛ بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، لَا مِنْ شَيْ‏ءٍ فَيَبْطُلَ الِاخْتِرَاعُ، وَلَا لِعِلَّةٍ فَلَا يَصِحَّ الِابْتِدَاعُ، خَلَقَ مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، مُتَوَحِّداً بِذَلِكَ لِإِظْهَارِ حِكْمَتِهِ، وَحَقِيقَةِ رُبُوبِيَّتِهِ، لَا تَضْبِطُهُ الْعُقُولُ، وَلَا تَبْلُغُهُ الْأَوْهَامُ، وَلَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ مِقْدَارٌ، عَجَزَتْ دُونَهُ الْعِبَارَةُ، وَكَلَّتْ دُونَهُ الْأَبْصَارُ، وَضَلَّ فِيهِ تَصَارِيفُ الصِّفَاتِ، احْتَجَبَ بِغَيْرِ حِجَابٍ مَحْجُوبٍ، وَاسْتَتَرَ بِغَيْرِ سِتْرٍ مَسْتُورٍ، عُرِفَ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ، وَوُصِفَ بِغَيْرِ صُورَةٍ، وَنُعِتَ بِغَيْرِ جِسْمٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ" [الكافي: ج 1 ص 105].

وأراد الإمام (ع) أن يسجل ما يقوله ليبقى منهجاً للناس في التوحيد، كما يجب أن يتصوّره الناس ويعتقدوه.
وهو أن لا يكون هناك شرك في العقيدة، ولا في العبادة، ولا في الطاعة، ولا في أيّ إحساس وشعور، وكل مَن هو غير الله، حتى من رسله، فهم {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}، وعظمتهم (ع) في أنهم ارتفعوا إلى مستوى العبودية الخالصة حتى لم يروا إلا الله، وذابوا فيه تعالى.
أي أنهم (ع) وصلوا إلى مقام التوحيد العملي، وهو التوحيد الذي يُعبر عنه العلماء بـ(التوحيد في العبادة) وغايته إيصال الإنسان إلى الكمال. أي أنّ الإنسان يعتبر موحِّداً ما دام يمر في مرحلة التصور، غير أنه لا يعتبر موحداً حقيقياً إلا إذا كان موحِّداً في مرحلة الحياة ومرحلة الوجود.
وهذا ما رمت إليه السيدة فاطمة الزهراء (ع) في خطبتها فقالت: "وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإْخْلاصَ تَأْويلَها، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَها، وَأَنارَ في الْفِكَرِ مَعْقُولَها".
وتبين الزهراء (ع) في شهادتها هذه، اعتقادها بالتوحيد النظري، ولكنها ومن أجل أن توضح بأنّ التوحيد النظري غير منفصل عن التوحيد العملي في الإسلام، تقول: "كَلِمَةٌ جَعَلَ الإْخْلاصَ تَأْويلَها". والتأويل يعني المآل بحسب التعبير القرآني. والشيء الذي تكون عودته ونهايته بل وحقيقته عائدة له يعتبر تأويلاً لتلك الحقيقة.
كما يدعو زين العابدين (ع) بذلك فيقول: "اَللّهُمَّ وَاجْعَلْني مِنْ أَهْلِ التَّوْحيدِ وَالإيمانِ بِكَ". و: "وَوَسيلَتي إِلَيْكَ التَّوْحيدُ". و: "وَدَلَّنا عَلَيْهِ مِنَ الإخْلاصِ لَهُ في تَوْحيدِهِ".
ولذلك، فإنّ ما درج عليه بعض الناس من التوجّه إلى الأنبياء أو الأولياء أو الأئمة (ع) بطلب الحاجات منهم بشكل مباشر ومستقل عن الله، كما يحدث في حركة الغلوّ، هو شرك.

نعم، نتوسّل إلى الله ببركتهم، مثلاً: "وَاجْعَلْ تَوَسُّلِي بِهِ شافِعاً يَوْمَ القِيامَةِ نافِعاً" [دعاء يوم الخميس للسجاد]، فالله جعل الشفاعة لمن ارتضى من عباده، لأنه لا تنفع الشفاعة إلا بإذنه، والله هو الرزّاق وهو الخالق والمدبِّر، هو كلُّ شيء ولا شيء معه، بل إنّ كلَّ الذين يمثلون مواقع القرب إلى الله إنما قربوا إليه بطاعتهم وعملهم، وكما قال الإمام الباقر (ع): "مَنْ كَانَ للهِ مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ للهِ عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ، وَمَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالْعَمَلِ وَالْوَرَعِ" [الكافي: ج 2 ص 75]. هذه النقطة ينبغي أن يُفكَّر فيها، لأنه روح العقيدة الإسلامية والتوحيد.
وهذا درس نتعلّمه، وهو أن نبقى مع توحيد الله في خط الرسالة وخط الإمامة، وأن نبقى مع رسول الله والأئمة من أوصيائه (ع) حيث وضعهم الله في مواقعهم، فلا نغلو فيهم، ولا نرتفع بهم عما هم فيه؛ لأنّ الحبَّ قد يجعل الإنسان يرتفع بحبِّه حتى يغلو فيمن يحب، والأئمة (ع) لا يريدون لنا أن نغلو فيهم بل يريدون لنا أن ننفتح على الله، ونتحرك معهم من خلال الله.
وكان من دعاء الإمام الرضا (ع) في البراءة ممن ينسب إليهم ما لا يقولون: "اللَّهُمَّ إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنَ الَّذِينَ ادَّعَوْا لَنَا مَا لَيْسَ لَنَا بِحَقٍّ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا فِينَا مَا لَمْ نَقُلْهُ فِي أَنْفُسِنَا، اللَّهُمَّ لَكَ الْخَلْقُ وَمِنْكَ الرِّزْقُ وَإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ خَالِقُنَا وَخَالِقُ آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ وَآبَائِنَا الْآخِرِينَ، اللَّهُمَّ لَا تَلِيقُ الرُّبُوبِيَّةُ إِلَّا بِكَ وَلَا تَصْلُحُ الْإِلَهِيَّةُ إِلَّا لَكَ، فَالْعَنِ النَّصَارَى الَّذِينَ صَغَّرُوا عَظَمَتَكَ وَالْعَنِ الْمُضَاهِئِينَ لِقَوْلِهِمْ مِنْ بَرِيَّتِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا عَبِيدُكَ وَأَبْنَاءُ عَبِيدِكَ لَا نَمْلِكُ لِأَنْفُسِنَا نَفْعاً وَلَا ضَرّاً وَلَا مَوْتاً وَحَيَاةً وَلَا نُشُوراً، اللَّهُمَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّا أَرْبَابٌ فَنَحْنُ مِنْهُ بِرَاءٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَيْنَا الْخَلْقَ وَعَلَيْنَا الرِّزْقَ فَنَحْنُ بِرَاءٌ مِنْهُ كَبَرَاءَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام مِنَ النَّصَارَى، اللَّهُمَّ إِنَّا لَمْ نَدْعُهُمْ إِلَى مَا يَزْعُمُونَ؛ فَلَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا مَا يَدَّعُونَ، وَلَا تَدَعْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْهُمْ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّار".


رسالة الوحدة:
عُرف أهل البيت (ع) حرصهم على بقاء مظاهر الإسلام، والدعوة إلى عزِّته، ووحدة كلمة أهله، وحفظ التآخي بينهم، ورفع السخيمة من القلوب، والأحقاد من النفوس.
ولا يُنسى موقف جدِّهم أمير المؤمنين (ع) فلم يتوقف عطاؤه عندما كان خارج الخلافة؛ لأنه كان يشعر أنه مسؤول عن الإسلام خارج الحكم كما هو مسؤول عنه في داخل الحكم لأنّ عليه أن يحفظ الإسلام.. "فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ وَ اطْمَأَنَّ الدِّينُ وَ تَنَهْنَهَ".
وكفى أن نقرأ وصية والده الإمام موسى بن جعفر (ع) لشيعته: "لَا تُذِلُّوا رِقَابَكُمْ بِتَرْكِ طَاعَةِ سُلْطَانِكُمْ، فَإِنْ كَانَ عَادِلًا فَاسْأَلُوا اللهَ بَقَاهُ، وَإِنْ كَانَ جَائِراً فَاسْأَلُوا اللهَ إِصْلَاحَهُ، فَإِنَّ صَلَاحَكُمْ فِي صَلَاحِ سُلْطَانِكُمْ، وَإِنَّ السُّلْطَانَ الْعَادِلَ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ الرَّحِيمِ، فَأَحِبُّوا لَهُ مَا تُحِبُّونَ لِأَنْفُسِكُمْ، وَاكْرَهُوا لَهُ مَا تَكْرَهُونَ لِأَنْفُسِكُمْ" [أمالي الصدوق: ص 277 ح 21].
قال الشيخ المظفر: "وهذا غاية ما يوصف في محافظة الرعية على سلامة السلطان أن يحبوا له ما يحبون لأنفسهم، ويكرهوا له ما يكرهون لها"[عقائد الإمامية للمظفر: ص 119].
ولذا قال العلماء -في حدود طاعة السلطان-: "إذا كان الحاكمُ عادلاً، فطاعته إنما هي فيما يأمر من العدل، وبما يحفظ النظام العام. أما إذا كان جائراً، فلا طاعةَ له إلا فيما يتوقف عليه حفظ النظام".

إنّ المتأمل في تاريخ علم الكلام لا يخالجه أدنى شك أنّ هذا العلم -وبدل أنّ يشكِّل ركيزة أساسية وأرضية مشتركة للجمع والتوحيد- ساهم بوضعيته التاريخية في ثلم وحدة الأمة وتقطيع أوصالها وتحويل خلافاتها المذهبية إلى تكتلات عصبية وحزبية؛ لعبت دوراً رئيسياً في إشعال نار الفتن المذهبية وتغذية الصراعات الدموية في أكثر من مرحلة زمنية.
ولم يكن ذلك بين الشيعة والسنة فحسب، كما هو معروف وسطرت فصوله كتب التاريخ، بل بين أبناء المذهب الواحد، كصراعات الأشاعرة والمعتزلة أو الحنفية والحنابلة..
وقد كان الإمام علي بن موسى الرضا (ع) يقظاً من خطر هذه الفتن التي تتغلغل باسم الدين والعقيدة.. ففي حديث معتبر عن إبراهيم بن أبي محمود، عن الإمام الرضا، قال (ع):


"يابن أَبِي مَحْمُودٍ: إنَّ مُخَالِفِينَا وَضَعُوا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِنَا وَجَعَلُوهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: الْغُلُوُّ..
وَثَانِيهَا: التَّقْصِيرُ فِي أَمْرِنَا..
وَثَالِثُهَا: التَّصْرِيحُ بِمَثَالِبِ أَعْدَائِنَا.
فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ الْغُلُوَّ فِينَا كَفَّرُوا شِيعَتَنَا وَنَسَبُوهم إِلَى الْقَوْلِ بِرُبوبِيَتِنَا، وَإِذا سَمِعُوا التَّقْصِيرَ اعتقدوه فِينَا، وَإِذا سَمِعُوا مَثَالِبَ أَعْدَائِنَا بِأَسْمَائِهِمْ ثَلَبُونَا بِأَسْمَائِنَا، وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجِلَ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذين يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} ..." (عيوان أخبار الرضا: ج ٢ ص ٢٧٢).
وكذلك نقرأ في أدبيات الرضا (ع) هذا المنهج الوحدوي الرائع حيث سأل أحمد بن محمد بن أبي نصر -كما في رواية معتبرة- الإمام الرضا (ع): عَنِ الرَّجُلِ يُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ فِي مَنْزِلِهِ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ أَوْ وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟! فَقَالَ: "وَحْدَهُ"[الكافي: ج 4 ص 527].


ونقرأ في بعض وصاياه (ع) للسيد الجليل عبد العظيم الحسني -وقبره في الري جنوب طهران وهو من العلماء الأعاظم وكان الأئمة (ع) يقدّرونه- وقد أرسل معه رسالة إلى أوليائه يخاطب فيها شيعته في كل زمان ومكان، قال له:
"يَا عَبْدَ الْعَظِيمِ، أَبْلِغْ عَنِّي أَوْلِيَائِيَ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُمْ لَا يَجْعَلُوا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ سَبِيلاً، وَمُرْهُمْ بِالصِّدْقِ فِي الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَمُرْهُمْ بِالسُّكُوتِ، وَتَرْكِ الْجِدَالِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ، وَإِقْبَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالْمُزَاوَرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ إِلَيَّ، وَلَا يَشْغَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَمْزِيقِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً، فَإِنِّي آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي، أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَأَسْخَطَ وَلِيّاً مِنْ أَوْلِيَائِي، دَعَوْتُ اللهَ لِيُعَذِّبَهُ فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَكَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَعَرِّفْهُمْ أَنَّ الله قَدْ غَفَرَ لِمُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ، إِلَّا مَنْ أَشْرَكَ بِهِ، أَوْ آذَى وَلِيّاً مِنْ أَوْلِيَائِي، أَوْ أَضْمَرَ لَهُ سُوءاً، فَإِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ وَإِلّا نُزِعَ رُوحُ الْإِيمَانِ عَنْ قَلْبِهِ، وَخَرَجَ عَنْ وَلَايَتِي، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نصِيبٌ فِي وَلَايَتِنَا، وَأَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ".


وفي هذه الوصية جملة من التعاليم المهمة للشيعة:
1.   لا تعبدوا الشيطان ولا تطيعوه في معصية الله تعالى، ولا تنجذبوا إليه عندما يثير غرائزكم ويحوّلها إلى الحرام، لا تجعلوا له سلطةً عليكم، وأغلقوا كل طريق له إلى عقولكم وقلوبكم.
2.   كونوا مع الصادقين، فإنّ أهل البيت (ع) ساروا على خط جدهم الصادق الأمين.
3.   أن لا تجادلوا في ما لا يتصل بعقائدكم وحياتكم، كالكثير من القضايا التي يتجادل فيها الناس في ما لا طائل منه ولا فائدة فيه، بل أن يسأل الإنسان عن أصول دينه وتكاليفه الشرعية، وعن الواقع الذي يتحدى عزته وكرامته.
4.   أن لا تتدابروا وتتقاطعوا، بل أن يقبل بعضكم على بعض.
5.   إذا أرادوا أن يكونوا قريبين مني فليزوروا بعضهم بعضاً، فلا يكفي أن نذهب لزيارة قبورهم (ع) ونحن نتقاتل ونتحاقد.
6.   الذين يتحركون بالغيبة والنميمة والفتنة بين المؤمنين،  والذين يتحركون بالعصبيات العائلية والقروية والحزبية والسياسية والشخصانية هم من الخاسرين في الآخرة.


وختم (ع) وصيته قائلاً:
"وَعَرِّفْهُمْ أَنَّ الله قَدْ غَفَرَ لِمُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ، إِلَّا مَنْ أَشْرَكَ بِهِ، أَوْ آذَى وَلِيّاً مِنْ أَوْلِيَائِي، أَوْ أَضْمَرَ لَهُ سُوءاً، فَإِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ وَإِلّا نُزِعَ رُوحُ الْإِيمَانِ عَنْ قَلْبِهِ، وَخَرَجَ عَنْ وَلَايَتِي، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نصِيبٌ فِي وَلَايَتِنَا، وَأَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ".
وقد سئل الإمام الرضا (ع): من أحسن الناس معاشاً؟
فقال (ع): "من حَسُن معاش غيره في معاشه".. أي الذي إذا عاش يعيش غيره معه، من خلال ما يبذل من طاقات وما يقدّم من خدمات وما يهيئ من فرص العمل والعيش الكريم.
وسئل (ع): ومن أسوأ الناس معاشاً؟
فقال (ع): "من لم يعش غيره في معاشه".
فما أعظم تجنّي بعض خطباء المنبر في هذا العصر، الذي كثر منهم الغث، فخبا الوهج الوضاء لمدرسة أهل البيت (ع)، وساد خطاب العصبية على حساب خطاب المحبة، وخطاب المذهب الضيق على حساب خطاب الإسلام الواسع.
وهذا ما حذَّر منه الرسول (ص)؛ فعن علي بن الحسن بن فضال، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (ع)، قَالَ: حدّثني أبي، عن آبائه، عن علي (ع)، قال: قال رسول الله (ص): "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلَكُمْ الْبَغْضَاءُ وَالْحَسَدُ" (عيون أخبار الرضا: ج ٢ ص ٢٧٩).
فالنبي (ص) يتحدث، وهو يراقب أمته الَّتي أراد أن يبني لها قاعدتها على المحبة والتراحم، ليصنع منها أمة متحابة ومتآخية، تتكامل في طاقاتها، وتتوحد في مواقفها، ولكنه (ص) رأى إنَّ بعض الناس من حوله يعيشون البغضاء من خلال عصبية عائلية أو شخصية أو ما إلى ذلك من العصبيات الَّتي تثير الحقد في النفوس.. وللأسف هذا ما يصنعه جملة من الوعاظ والخطباء في هذا العصر أيضاً.
فيرى (ص) في خطابه للأمة أنَّ هذا المرض الَّذي أردتُ أن أنقذكم منه، "قد دبّ إليكم، فأصبحتم تتباغضون وأنتم المسلمون، وتتحاقدون وأنتم المؤمنون، يحمل كل واحدٍ منكم روح التدمير والإسقاط للآخر، فأصبحتم تحسدون بعضكم بعضاً، ويتحرك الحسد من أجل أن يدفعكم للبغي على بعضكم البعض، ولو كنتم مؤمنين جيداً، لعرفتم أنَّ الله تعالى إذا أعطى بعضكم نعمة، فإنّه يمكن أن يعطيكم هذه النعمة من دون أن يزيلها عن الناس الآخرين، فلماذا تضيّقون رحمة الله".
وفي هذا الجوّ وأمثاله، يقول الإمام الرضا (ع) -كما في الصحيح-: "مِنْ عَلامَاتِ الْفِقْهِ الْحِلْمُ وَالْعِلْمُ وَالصَّمْتُ. إِنَّ الصَّمْتَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْحِكْمَةِ، إِنَّ الصَّمْتَ يَكْسِبُ الْمَحَبَّةَ، إِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ"؛ لأنّ الصمت الذي يتجلل بالفكر والتعمّق يجعلنا ندرس مواقع الأشياء وما نحتاجه لنضع الأشياء في مواضعها، والحكمة هي أن تضع الكلمة المناسبة في المقام المناسب، والفعل المناسب في الموقف المناسب، والشخص المناسب في المكان المناسب، والخطّ المناسب في اتجاه الهدف المناسب.
اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضا الْمُرْتَضَى، الإمامِ التَّقِيِّ النَّقِيِّ، الصِّدّيقِ الشَّهيدِ، صَلاةً كَثيرَةً تامَّةً زاكِيَةً مُتَواصِلَةً مُتَواتِرَةً مُتَرادِفَةً، كَأَفْضَلِ ما صَلَّيْتَ عَلى أَحَد مِنْ أوْلِيائِكَ.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة