قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

القرآن ينفي وقوع التحريف فيه

 

السيد محمد حسين الطباطبائي .. 
قال تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء : 82]
من ضروريات التأريخ أن النبي العربي محمدًا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم جاء قبل أربعة عشر قرنًا- تقريبًا- وادعى النبوة وانتهض للدعوة وآمن به أمة من العرب وغيرهم، وأنه جاء بكتاب يسمّيه القرآن وينسبه إلى ربه متضمن لجمل المعارف وكليات الشريعة التي كان يدعو إليها، وكان يتحدى به ويعده آية لنبوته، وأن القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به وقرأه على الناس المعاصرين له في الجملة بمعنى أنه لم يضع من أصله بأن يفقد كله ثم يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه وينسب إليه ويشتهر بين الناس بأنه القرآن النازل على النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
فهذه أمور لا يرتاب في شي‏ء منها إلّا مصاب في فهمه ولا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين والمؤالفين.
وإنما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شي‏ء يسير كالجملة أو الآية أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو إعرابها، وأما جلّ الكتاب الإلهي فهو على ما هو في عهد النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يضع ولم يفقد. ثم إنا نجد القرآن يتحدّى بأوصاف ترجع إلى عامة آياته ونجد ما بأيدينا من القرآن أعني ما بين الدفتين واجدًا لما وصف به من أوصاف تحدّى بها من غير أن يتغير في شي‏ء منها أو يفوته ويفقد.
فنجده يتحدّى بالبلاغة والفصاحة ونجد ما بأيدينا مشتملًا على ذلك النظم العجيب البديع لا يعدله ولا يشابهه شي‏ء من كلام البلغاء والفصحاء المحفوظ منهم والمروي عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك، وهذا النظم موجود في جميع الآيات سواء كتابًا متشابهًا مثاني تقشعر منه الجلود والقلوب.
ونجده يتحدّى بقوله : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ولَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } بعدم وجود اختلاف فيه ونجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء وأوفاه فما من إبهام أو خلل يتراءى في آية إلّا ويرفعه آية أخرى، وما من خلاف أو مناقضة يتوهم بادئ الرأي من شطر إلّا وهناك ما يدفعه ويفسّره.
ونجده يتحدّى بغير ذلك مما لا يختص فهمه بأهل اللغة العربية كما في قوله { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء : 88] ، وقوله : {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق : 13، 14] ثم نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحق الذي لا مرية فيه، ويهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من أصول المعارف الحقيقية وكليات الشرائع الفطرية وتفاصيل الفضائل الخلقية من غير أن نعثر فيها على شي‏ء من النقيصة والخلل أو نحصل على شي‏ء من التناقض والزلل بل نجد جميع المعارف على سعتها وكثرتها حيّة بحياة واحدة مدبّرة بروح واحد هو مبدأ جميع المعارف القرآنية والأصل الذي إليه ينتهي الجميع ويرجع وهو التوحيد فإليه ينتهي الجميع بالتحليل وهو يعود إلى كل منها بالتركيب.
ونجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء وأممهم ونجد ما عندنا من كلام اللّه يورد قصصهم ويفصل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين ويناسب نزاهة ساحة النبوة وخلوصها للعبودية والطاعة، وكلما طبقنا قصة من القصص القرآنية على ما يماثلها مما ورد في العهدين انجلى ذلك أحسن الانجلاء.
ونجده يورد آيات في الملاحم ويخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة بالتصريح أو بالتلويح ثم نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدقة.
ونجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنه نور وأنه هاد يهدي إلى صراط مستقيم وإلى الملة التي هي أقوم ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئًا من ذلك ولا يهمل من أمر الهداية والدلالة ولا دقيقة.
ومن أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أنه ذكر للّه فإنه يذكر به تعالى بما أنه آية دالة عليه حيّة خالدة، وبما أنه يصفه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ويصف سنّته في الصنع والإيجاد، ويصف ملائكته وكتبه ورسله، ويصف شرائعه وأحكامه ويصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة وهو المعاد ورجوع الكل إليه سبحانه، وتفاصيل ما يؤول إليه أمر الناس من السعادة والشقاء، والجنة والنار.
ففي جميع ذلك ذكر اللّه، وهو الذي يرومه القرآن إطلاق القول بأنه ذكر ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئًا من معنى الذكر.

ولكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شؤون القرآن عبّر عنه بالذكر في الآيات التي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان والتغيير والتحريف كقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 40 - 42] ، فذكر تعالى أن القرآن من حيث هو ذكر لا يغلبه باطل ولا يدخل فيه حالًا ولا في مستقبل الزمان لا بإبطال ولا بنسخ ولا بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريته عنه.
وكقوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9] فقد أطلق الذكر وأطلق الحفظ فالقرآن محفوظ بحفظ اللّه عن كل زيادة ونقيصة وتغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذكرية ويبطل كونه ذكرًا للّه سبحانه بوجه.
ومن سخيف القول إرجاع ضمير «له» إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فإنه مدفوع بالسياق وإنما كان المشركون يستهزءون بالنبي لأجل القرآن الذي كان يدّعي نزوله عليه كما يشير إليه بقوله سابقا : { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر : 6]
فقد تبين مما فصّلناه أن القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ووصفه بأنه ذكر محفوظ على ما أنزل مصون بصيانة إلهية عن الزيادة والنقيصة والتغيير كما وعد اللّه نبيه فيه.
وخلاصة الحجة أن القرآن أنزله اللّه على نبيه ووصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصة لو كان تغير في شي‏ء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثر فقد آثار تلك الصفة قطعا لكنا نجد القرآن الذي بأيدينا واجدًا لآثار تلك الصفات المعدودة على أتم ما يمكن وأحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئًا من صفاته فالذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بعينه فلو فرض سقوط شي‏ء منه أو تغير في إعراب أو حرف أو ترتيب وجب أن يكون في أمر لا يؤثر في شي‏ء من أوصافه كالإعجاز وارتفاع الاختلاف والهداية والنورية والذكرية والهيمنة على سائر الكتب السماوية إلى غير ذلك، وذلك كآية مكررة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب ونحوها.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد